صعوبة التوافق:
لماذا تتواصل أزمة الشغور الرئاسي في لبنان؟

صعوبة التوافق:

لماذا تتواصل أزمة الشغور الرئاسي في لبنان؟



يستند استمرار أزمة الشغور الرئاسي في لبنان إلى مجموعة من الإشكاليات السياسية، التي تتقاطع جميعها عند نقطة “صعوبة التوافق”، بما يعرقل انتقال السلطة بشكل سلس من رئيس إلى آخر. وما بين ارتباط الأزمة بطبيعة النظام السياسي اللبناني، وبين كونها نتيجة للتحايل على الدستور، يأتي الشغور الرئاسي كتعبير عن مجموعة من العوامل المتشابكة، التي تتمثل في عدم الالتزام بمواد الدستور اللبناني، والإشكالية الناتجة عن التركيبة السياسية للبرلمان الحالي، فضلاً عن فكرة “الثُلث” المُعطِّل ومقاطعة الجلسات التي تستخدمها الكتل السياسية داخل البرلمان لتعطيل انتخاب رئيس لا يدعم خطابها السياسي، هذا إضافة إلى الخلاف المستمر بين المعارضة والممانعة في التوافق على رئيس للجمهورية.

أسباب متعددة

رغم ردود الفعل الإيجابية تجاه المبادرة التي أطلقتها كتلة “الاعتدال الوطني” لأجل التخلص من حالة التأزم المستمر في عملية انتخاب رئيس للجمهورية؛ والتي حظيت، على سبيل المثال، بدعم البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، في 10 مارس الجاري، إلا أن الواقع يُشير إلى أن الوضع سيبقى على ما هو عليه. فما بين “المعارضة” و”الممانعة”، يظل الاستحقاق الرئاسي شاغراً في لبنان نتيجة الخلافات حول مرشح توافقي.

بل إن هذا الخلاف والانقسام السياسي حول مرشح الممانعة، رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية، ومنافسه الوزير السابق جهاد أزعور، مرشح المعارضة قد أغلق الباب أمام ما يُسمى لبنانياً بـ”الخيار الرئاسي الثالث”. ومن ثم يتكرر مشهد الشغور الرئاسي في لبنان للمرة الرابعة منذ استقلال البلاد عام 1943، بعد أن أخفق البرلمان اللبناني 13 مرة في اختيار رئيس، منذ انتهاء مدة الرئيس ميشال عون في 31 أكتوبر 2022.

وهناك مجموعةٌ من العوامل المتشابكة تقف وراء استمرار أزمة الشغور الرئاسي طوال ما يزيد على 16 شهراً، منذ انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، أهمها ما يلي:

1- عدم الالتزام بمواد الدستور: يبدو أن عنوان المرحلة التي يمر بها لبنان، التي تمتد من تاريخ الشغور الرئاسي إلى الآن، هو “الإطاحة بالدستور ومواده”. فبالرغم من أن المادة 49 من الدستور تنص على جلسة انتخاب واحدة وبدورات متتالية؛ إلا أنه تم تجاوز هذه القاعدة، عبر “إقفال محضر كل جلسة انتخاب”، نتيجة عدم التوافق بين الكتل السياسية داخل البرلمان على شخصية المرشح لرئاسة الجمهورية. بل إن الإطاحة بالدستور ومواده لم تتوقف عند حدود مجلس النواب، ولكنها امتدت إلى أجزاء من عمل الحكومة، ففي حالة الشغور الرئاسي تتولى الحكومة صلاحيات رئيس الجمهورية استناداً إلى ما ينص عليه الدستور، ولكن رغم ذلك فإن الواقع يُشير إلى أن الحكومة الحالية ليست حكومة مكتملة الصلاحيات نتيجة كونها تُعتبر “مُستقيلة” حُكماً منذ انتخاب البرلمان، في 20 مايو 2022.

2- إشكالية التركيبة السياسية للبرلمان: رغم ما ينص عليه الدستور من أن رئيس الجمهورية “يُنتخب بالاقتراع السري بغالبية الثُلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى، ويُكتَفَى بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي…”؛ إلا أنّ تركيبة المجلس النيابي الحالي ساعدت في عدم امتلاك أي من القوى والكتل السياسية داخل البرلمان الأغلبية المطلقة أو الوازنة، التي تؤهلها لإنجاز الاستحقاق الرئاسي.

وبالتالي، لم تستطع أي كتلة سياسية إيصال المُرشح الذي تدعمه إلى الرئاسة دون التوافق مع باقي القوى والكتل السياسية داخل المجلس النيابي. لذلك، لم يستطع المجلس طوال 16 شهراً مضت انتخاب مرشح لرئاسة الجمهورية، كنتيجة للفشل في تأمين الأصوات الكافية لصالح أي مرشح، وفي الوقت نفسه لفشل الأطراف السياسية في الاتفاق على “مرشح تسوية”، كما حدث أكثر من مرة في السابق.

3- قيود “الثُّلث” المُعطِّل ومقاطعة الجلسات: يرجع أحد أهم العوامل في فشل مجلس النواب في اختيار مرشح لرئاسة الجمهورية إلى فكرة “الثُلث” المُعطِّل في عرقلة عملية الانتخاب، من خلال مقاطعة الجلسات. وكما يبدو، فإن ثمة إصراراً من جانب القوى والكتل السياسية داخل المجلس، وكنتيجة لاختلافاتها السياسية، على استخدام هذه “الفكرة” في عدم توفير النصاب القانوني بما يُعرقل انتخاب الرئيس.

وهناكآلية أخرى تُضاف إلى آلية “الثُلث” المُعطِّل ومقاطعة الجلسات، هى آلية التصويت بـ”ورقة بيضاء”، والتي تم استخدامها طوال 13 جلسة، من جانب الثنائي الشيعي “حزب الله” و”حركة أمل”، إلى جانب نواب آخرين، وذلك لإخفاء “العدد الحقيقي” الذي سيُصوت للمرشح الذي يدعمونه، وهو سليمان فرنجية.

4- رفض “الممانعة” الخيار الرئاسي “الثالث”: يُصرّ تيار “الممانعة”، الذي يتمثل في الثنائي الشيعي، على موقفه بدعم ترشيح سليمان فرنجية، وعلى أنه ليس في وارد التخلي عن هذا الترشيح، بما يعني رفض “الحزب” و”الحركة” أي صيغة للبحث عما يُسمى في لبنان “الخيار الرئاسي الثالث”.

والمُلاحظ أنّ “حزب الله” تحديداً لديه، كما يتردد عبر بعض وسائل الإعلام اللبنانية المحلية، عدد من الهواجس، دفعته إلى الانخراط في محاولات إفشال مبادرة “كتلة الاعتدال” لإنجاز الاستحقاق الأهم في لبنان، أي انتخاب رئيس للجمهورية. ويبدو ذلك عبر الدعم الذي تلقته هذه المبادرة مما يُطلق عليه مجموعة “الخماسية”، أي كل من الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا ومصر والمملكة العربية السعودية وقطر، وهو نفسه الدعم الذي يُثير قلق الحزب، كما يُعلن دائماً، من مجيء رئيس “لا يدعم المقاومة”.

5- عدم تأييد “المعارضة” مرشح الثنائي الشيعي: مع التوافق بين الثنائي الشيعي وحلفائه على دعم سليمان فرنجية، كمرشح عن تحالف “الثامن من آذار” لرئاسة الجمهورية، يأتي الاعتراض من جانب ما يُطلق عليه تيار “المعارضة”، الذي يتمثل بالأصل في “التيار الوطني الحر” الذي يتزعمه جبران باسيل. بل إن هذا الاعتراض يلقى قبولاً إضافياً من الأغلبية المسيحية اللبنانية، ومن بينها حزب “القوات اللبنانية” الذي يترأسه سمير جعجع، وذلك استناداً إلى رفض تكرار تجربة الرئيس اللبناني السابق ميشال عون، في ظل تحالفات سليمان فرنجية الإقليمية عبر التقارب مع إيران ومع نظام الرئيس السوري بشار الأسد.

قضية خلافية

في هذا السياق، يُمكن القول إن مسألة الشغور الرئاسي في لبنان هي بالأصل قضية خلافية، ستظل مستمرة إلى حين التوافق على شخصية سوف تشغل هذا المنصب للمرة الـ14 في تاريخ البلاد. إلا أنه في ظل احتياج البرلمان إلى أصوات 65 عضواً لانتخاب رئيس جديد، خلفاً للرئيس ميشال عون، يبدو الأمر صعباً نتيجة الاختلاف المستمر بين القوى والكتل السياسية داخل مجلس النواب بشأن انتخاب مرشح رئاسي، أو التوافق على مرشح توافقي، كـ”اختيار ثالث”، إذ من دون هذا التوافق سيبقى الشغور قائماً، كما تكرر في مرات متعددة من تاريخ لبنان، منذ تأسيسه في أربعينيات القرن الماضي.