عقدة مستحكمة:
لماذا تتعطل العملية السياسية في العراق؟

عقدة مستحكمة:

لماذا تتعطل العملية السياسية في العراق؟



ما زالت الخلافات هي السمة الرئيسية للتفاعلات التي تجري على الساحة السياسية العراقية. فرغم تحديد موعد جديد لجلسة انتخاب رئيس الجمهورية، في 26 مارس الجاري، فإن ذلك قد لا يكون نهاية المطاف. إذ لا يمكن ضمان انتخاب الرئيس في هذه الجلسة التي تأجلت لأكثر من مرة. فضلاً عن أن التصعيد السياسي ما زال قائماً بين القوى السياسية المختلفة، والذي لم يعد منحصراً في التيار الشيعي بقواه المختلفة، سواء التيار الصدري أو الإطار التنسيقي، وإنما امتد إلى بقية القوى السياسية ولا سيما القوى الكردية التي تتنافس على انتزاع منصب الرئيس. وربما يمكن القول إن نتيجة الجلسة القادمة سوف تحدد المسارات المحتملة التي يمكن أن تتجه إليها الأزمة السياسية العراقية خلال المرحلة القادمة.

رغم التعويل على التفكك التدريجي لحالة الانسداد السياسي التي طرأت على الأوضاع الحالية في العراق، بعد أن أجرى الزعيم الشيعي مقتدى الصدر (الذي حصل تياره على أغلبية عدد الأصوات خلال الانتخابات البرلمانية التي عقدت في 10 أكتوبر الماضي) الذي كان يُصر على تشكيل حكومة “أغلبية سياسية”، اتصالاً هاتفياً مع رئيس “ائتلاف دولة القانون” نوري المالكي في 10 مارس الجاري، إلا أنه يبدو أن هناك بعض القضايا الخلافية التي ما زالت تُلقي بظلالها على المشهد السياسي العراقي.

ويأتي تعقد العملية السياسية في العراق، على خلفية الخسارة التي مُنيت بها قوى الإطار التنسيقي الشيعي، والتي لطالما كانت تحظى بفوز كبير خلال الاستحقاقات السابقة، يمكنها من المشاركة بفاعلية في تشكيل الحكومات العراقية المتعاقبة.

وعلاوةً على ذلك، زاد تفسير المحكمة الفيدرالية العراقية للمادة 70 من الدستور، والتي تتعلق بجلسة البرلمان التي من المقرر أن يتم خلالها انتخاب رئيس جديد من حدة هذا التعقيد؛ حيث أشارت المحكمة إلى أنه سيتم انتخاب رئيس جديد بأغلبية الثلثين، وبالتالي فإن العدد القانوني للنواب الحاضرين في البرلمان خلال هذه الجلسة سيكون على الأقل ثلثي العدد الإجمالي للنواب، بما يعني أنه سيُطلب من 220 على الأقل من أعضاء البرلمان البالغ عددهم 329 عقد جلسة برلمانية لانتخاب رئيس الجمهورية. وقد تحدد موعد الجلسة بالفعل في 26 مارس الجاري.

تفسيرات مختلفة

يمكن تفسير تصاعد حدة الأزمة السياسية في العراق في ضوء أسباب عديدة يتمثل أبرزها في:

1- الانقسام الكردي-الكردي: رغم بدء العد التنازلي للجلسة التي تم تحديدها لانتخاب الرئيس العراقي المقبل، في 26 مارس الجاري، الذي يُعد -تقليدياً- من حصة الأكراد، إلا أنه يبدو أن الانقسام وعدم التوافق هي السمات البارزة التي تخيم على العلاقة بين القوى السياسية الكردية المتمثلة في الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني. وتتمثل أبرز محفزات هذا الخلاف الكردي في ذهاب كل حزب منهما للتضامن مع فصيل شيعي مناوئ لنظيره الآخر؛ ففي الوقت الذي يتحالف فيه الحزب الديمقراطي الكردستاني مع التيار الصدري وتحالف السيادة بزعامة محمد الحلبوسي وخميس الخنجر، يذهب الاتحاد الوطني الكردستاني للتضامن مع الإطار التنسيقي الشيعي بقيادة نوري المالكي، وهادي العامري، وقيس الخزعلي، وفالح الفياض، وحيدر العبادي، وأحمد الأسدي.

وفي هذا السياق، يسعى كلا الحزبين الكرديين لتسويق مرشحه (الرئيس الحالي برهم صالح عن حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، ووزير داخلية الإقليم ريبر أحمد عن الحزب الديمقراطي الكردستاني) من خلال الاعتماد على الكتلة السياسية التي ينتمي إليها. فرغم الإغراءات السياسية التي قدمها الحزب الديمقراطي الكردستاني لنظيره الكردي بالتخلي عن برهم صالح أو استبداله بمرشح آخر، إلا أن التعقيد ينشأ من إصرار هذا الأخير على التضامن مع قوى الإطار التنسيقي الشيعي خشية أن يأتي التوافق بين الإطار والتيار الصدري على حسابه.

2- تشتت البيت الشيعي: تُدرك الفصائل السياسية الشيعية في العراق أنه بات من الصعب إعادة تفسير المادة 70 من الدستور العراقي الخاصة بالنصاب القانوني اللازم لانتخاب رئيس الجمهورية، الأمر الذي أجبر التيار الصدري على العدول عن قراره بشأن تشكيل حكومة “أغلبية سياسية”، إلا أن الخلافات ما زالت تشوب العلاقة فيما بينها. وهنا، يرجع هذا الانقسام لعاملين رئيسيين هما: استمرار دفاع مقتدى الصدر عن منطق الأغلبية، في مواجهة الإطار التنسيقي الذي يعول على التوافق والتشاركية في الحكم، والتماسك الذي يبدو عليه التيار الصدري تجاه الانقسام الذي يخيم على الإطار نتيجة تعدد زعمائه والقوى السياسية المُشكلة له، والتي يجمعها الخسارة التي مُنيت بها في الاستحقاقات البرلمانية السابقة، ورغبتها في الحيلولة دون سيطرة الصدريين على المشهد السياسي في ظل الحكومة العراقية القادمة.

3- عدم التوافق حول شخص “رئيس الوزراء”: في الوقت الذي ساهمت فيه الانفراجة بين الصدر والمالكي في تخفيف حدة الانسداد السياسي الذي كان لا يزال موجوداً داخل الأوساط السياسية العراقية؛ إلا أن طرح الصدر لمرشحه لمنصب رئيس الوزراء المتمثل في ابن عمه السفير العراقي في لندن جعفر الصدر عاد ليعقد الوضع مرة ثانية، وهو ما رد عليه زعيم ائتلاف دولة القانون -أحد أبرز قوى الإطار التنسيقي الشيعي نوري المالكي- بضرورة التفاهم بشأن الكتلة الأكبر عدداً داخل البرلمان العراقي قبل تحديد اسم المرشح.

وفي المقابل، طرح الإطار التنسيقي على مقتدى الصدر أسماء 4 مرشحين آخرين هم: حيدر العبادي، وقاسم الأعرجي، ومحمد توفيق علاوي، وعبد الحسين عبطان. وبالإضافة إلى ذلك، تسببت دعوة الصدر لزعيمي تحالف السيادة (محمد الحلبوسي وخميس الخنجر) للجلسة التي دعا فيها زعيم الصدريين قادة الإطار التنسيقي الشيعي إلى مقره بالحنانة في مدينة النجف للتباحث بشأن الانقسامات التي تخيم على البيت الشيعي منذ الانتخابات البرلمانية التي تم عقدها في 10 أكتوبر الماضي، عقب الانفراجة السياسية بين مقتدى الصدر وزعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي؛ في استياء قادة الإطار، على خلفية اعتبارهم هذا الأمر بمثابة شأن شيعي داخلي.

وعليه، اتضح من خلال تصريحات قادة الإطار التنسيقي الشيعي اللاحقة على لقائهم مع الصدر أن هناك بعض الغموض بشأن مواقف الصدر بالنسبة لهم، وأنه في الوقت الذي يحترم فيه الصدر تعهداته مع حلفائه من السنة والأكراد، فإن ذلك لا ينطبق على علاقته مع منافسيه الشيعة، فضلاً عن أن شروط الصدر فيما يتعلق بمبدأ حكومة “الأغلبية الوطنية” يبدو أنها موجهة ضد أقرانه من قادة الإطار التنسيقي.

4- الخلاف الكردي-الشيعي: أدى الاستهداف الإيراني، في 13 مارس الجاري، لبعض المواقع التي تم الادّعاء بأنها تابعة للموساد الإسرائيلي في أربيل، إلى تشاحنات بين الأكراد والشيعة، على خلفية الدعم الذي تقدمه طهران لبعض القوى السياسية في العراق. وطبقاً للتحقيقات الجارية في هذا الحادث، فإنه في حال ثبت أن الضربة نُفذت بالفعل ضد مواقع تابعة لإسرائيل، فإن الصدر سوف يكون في حِلٍّ من تضامنه مع الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة برزاني، مما سيؤدي إلى تفكك تحالف الصدر مع السنة والأكراد، الأمر الذي يأتي في صالح مرشح حزب الاتحاد الوطني الكردستاني برهم صالح.

وإذا أثبتت التحقيقات العكس ولم تحدث انفراجة في العلاقة بين التيار الصدري والإطار التنسيقي الشيعي وحتى موعد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية المقررة في 26 مارس الحالي، فإن الإطار سيكون في حِل من تضامنه مع حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، الأمر الذي يعزز من موقف ريبر أحمد مرشح الحزب الديمقراطي الكردستاني. في حين يكشف بقاء الوضع الحالي على ما هو عليه وعدم نجاح القوى السياسية في اختيار رئيس الجمهورية عن إمكانية اللجوء إلى عقد جلسة أخرى، لن تكون أفضل من سابقتها، مما قد يؤدي إلى الذهاب للسيناريو الأسوأ في نهاية المطاف، والذي يتمثل في حل البرلمان والعودة إلى عقد استحقاقات برلمانية مرة أخرى.

الثلث المعطل

ختاماً، رغم تعويل بعض المحللين على إمكانية حدوث بعض التوافقات بين قوى التيار الصدري والإطار التنسيقي الشيعي؛ إلا أن المشهد السياسي العراقي يكشف عن عدم وجود مؤشرات على إمكانية حدوث انفراجة حقيقية نتيجة ذهاب كلا الحزبين الكرديين إلى جلسة البرلمان المقرر انعقادها في 26 مارس 2022 للتنافس بين المرشحين؛ حيث يراهن كل مرشح على التحالف الذي ينتمي إليه للفوز بمنصب رئيس الجمهورية، أو تعطيل تمرير مرشح الحزب المنافس عبر ما يُعرف بـ”الثلث المعطل”.