نظم مركز “العالم العربي للأبحاث والدراسات المتقدمة”، بالقاهرة، بتاريخ 18 يناير 2022، جلسة استماع بعنوان “لماذا تتعثر تسوية الصراعات المسلحة في المنطقة العربية؟”، واستضاف المركز السفير محمد العرابي، وزير الخارجية المصري السابق (كمتحدث رئيسي في الجلسة)، كما شارك في الجلسة عدد من الخبراء والباحثين المتخصصين في مجالات مختلفة، وهم: الدكتور محمد عز العرب، والدكتور محمد عباس ناجي، والأستاذ أحمد عليبة، والأستاذ عمرو عبدالعاطي، والدكتور حمدي بشير، والأستاذ كرم سعيد، والأستاذة ميرفت زكريا، والأستاذ محمد الفقي.
محددات مفتاحية
تطرق السفير العرابي إلى عددٍ من المحدِّدات التي تُسهم في استجلاء الرؤية حيال التعاطي مع مسألة الصراعات المسلحة في عدد من الدول العربية، والتي كان أبرزها:
1- تغيّرات دولية حادة: ثمة متغيرات متسارعة يشهدها العالم كل 10 سنوات تقريباً، تؤثر على شكل العلاقات الدولية، ومن هذه المتغيرات انهيار جدار برلين، وأحداث 11 سبتمبر، ثم الاحتجاجات الشعبية في المنطقة العربية بداية من 2011، وأخيراً تفشّي جائحة كورونا. وكل شيء أصبح عابراً للحدود باستثناء البشر. وخلال السنوات العشر المقبلة سوف يكون الرهان أمام الدول مرتبطاً بمدى القدرة على المرور من هذه الفترة متماسكة، بقوة ذاتية في الأساس.
2- تبلور واقع جديد في المنطقة العربية: شهدت المنطقة العربية، وبشكل خاص خلال السنوات العشر الأخيرة، متغيرات حادة لم تكن متخيلة قبل عام 2011. على سبيل المثال، من كان يتخيل أن يتواجد في سوريا هذا العدد من الجيوش، ولكن هذا هو الواقع الجديد الذي تشهده المنطقة، بما يصعب إمكانية التكهن بحل للمشكلات العربية خلال الفترة المقبلة.
3- إطالة أمد اشتعال الأزمات العربية: السمة الأبرز في أزمات المنطقة العربية، هي أنها مستعصية على الحل، ولا يوجد أفق لحلها قريباً، بفعل تعقيد المشهد. فمثلاً، في سوريا هناك ثلاث دول تتواجد على الأرض (إيران، وروسيا، وتركيا)، ولا يُتوقع أن تتخلى عن مكاسبها، إضافة إلى نشاط تنظيم “داعش” مرة أخرى، وذلك في ظل عدم وجود إرادة عربية لحسم هذه الخلافات، كما أن المنطقة بمثابة حقل تجارب في إطار منهج أممي خلال المراحل الانتقالية لا ينظر إلى الطبيعة الهشة للأوضاع والشعوب غير المستعدة، فلا يمكن تصور تشكيل لجنة لكتابة الدستور في ليبيا وسوريا.
مظاهر مقلقة
كما تحدث السفير العرابي عن بعض المظاهر الجديدة المقلقة خلال السنوات الماضية في المنطقة العربية، والتي أدى بعضها إلى تعقيد المشهد، وأبرزها:
1- استمرار نهج الإنهاك: على الرغم مما تعرضت له دول المنطقة العربية من إنهاك خلال السنوات الماضية، فما يزال هناك استمرار في عملية الإنهاك؛ إذ ليس هناك استلهام للحلول من واقع الأزمات، وفي ظل غياب الإسهام العربي في حل المشكلات فلن نصل لحلول جذرية، مع شهية بعض الدول للتدخل مثل إيران وتركيا وإسرائيل وإثيوبيا. فتركيا -مثلاً- اتجهت للأسلوب الخشن في التدخل، على مستوى سوريا وليبيا، وهذا بمثابة قفزة استراتيجية، ولم يتحرك المجتمع الدولي لوقف توجهات “رجب طيب أردوغان”، أو وضع عقبات أمامه. وكذلك الحال بالنسبة لتدخلات إيران في سوريا والعراق واليمن ولبنان.
2- انتشار القواعد العسكرية: هناك توسع من قبل بعض الدول في إنشاء قواعد عسكرية في المنطقة العربية. فمثلاً، تستضيف جيبوتي قواعد عسكرية للصين وفرنسا وأمريكا، إضافة إلى قوة خاصة فرنسية، وهذا الاتجاه لا يرتبط فقط بالسيطرة على مضيق باب المندب، ولكن له انعكاسات على إفريقيا.
3- استراحة استراتيجية لإسرائيل: استفادت إسرائيل من الصراعات والأزمات التي تشهدها دول المنطقة العربية، ودخلت فيما يمكن تسميته “استراحة استراتيجية” بعدما تراجعت جيوش دول عربية مثل سوريا والعراق، دون أن تتدخل في شيء، وكانت آخر محاولة للتدخل عسكرياً من إسرائيل خلال ضرب أمريكا للعراق عام 2003، ورفضت أمريكا حينها ذلك. كما تعززت الاستفادة بعد تطبيع بعض دول المنطقة معها مؤخراً، إضافة إلى تراجع القضية الفلسطينية على الساحتين الإقليمية والدولية.
4- الجماعات المسلحة العابرة للحدود: هناك ظاهرة مقلقة للغاية، تتعلق بقدرة مجموعات على تسليح سيارات دفع رباعي، والتنقل بين دولة وأخرى بكل سهولة، بين سوريا والعراق، وليبيا وتونس، وتونس والجزائر…، وهذا أمر غريب في المنطقة العربية، إضافة إلى استفادة بعض جماعات المصالح على الحدود بين الدول من حالة الاضطرابات والصراعات المسلحة في تحقيق مكاسب كبيرة، وبالتالي إمكانية الدفع باتجاه استمرار هذه الصراعات.
5- التنافسية بين الصين وأمريكا: تُلقي التنافسية بين الصين وأمريكا بظلالها على المنطقة العربية، مما يجعلنا أمام عالم جديد ذي متغيرات جديدة. فنحن أمام حرب باردة من نوع مختلف بين الدولتين، فالصين تتحرك على مستوى المنطقة العربية عبر شركات اقتصادية يمكن أن تسيطر على الأوضاع، ويمكن أن يكون استعماراً من نوع مختلف، ولذلك يجب أن يكون لدينا قدرٌ من التوجس من نوايا الصين. وفي المقابل، لا يمكن لأمريكا الانسحاب من المنطقة، ولكن ثمة تحولات في الرؤية الأمريكية من القتال إلى الدعم والتدريب، كما حدث في العراق، وأيضاً في سوريا.
6- ترقب الدب الروسي: في ظل الصراعات الحالية بالمنطقة، وتداخل الأجندات الإقليمية، والتنافس بين الصين وأمريكا؛ يبقى أن روسيا تترقب مختلف التحركات في المنطقة، وتتبع استراتيجية محددة، إذ تترك الأرض حتى تنضج ثم تتدخل، وهو ما حدث في سوريا على سبيل المثال. كما يتزايد دور شركة الأمن الخاصة الروسية “فاجنر”، وهو ما يجعل هناك تشكيلة جديدة غير تقليدية من التدخل العسكري في مناطق الصراعات والنزاعات.
7- التحول من العولمة إلى الأقلمة: يبدو أن ثمة تحولات من العولمة باتجاه ما يمكن تسميته “الأقلمة”، بما يعني زيادة دور الفواعل من الدول الإقليمية. فمثلاً، دعا وزير خارجية إيران إلى إجراء مشاورات “سعودية مصرية إيرانية تركية”، في محاولة للدفع بعدم انتظار مظلة دولية تحرك الأوضاع الإقليمية، خاصة وأن الأمور تُدار بالملفات بين الدول حيال القضايا المختلفة، فمثلاً نجد خلافاً تركياً روسياً في ليبيا، وتوافقاً في بعض الملفات في سوريا، كما أن هناك خلافات بين روسيا وإيران حيال بعض الملفات داخل سوريا.
8- استدعاء دول لحل مشاكل داخلية: هناك اتجاه مصاعد إلى استعانة بعض الدول بأخرى من أجل حل مشكلة داخلية، وحدث هذا مع حكومة “السراج” حينما اتفق مع تركيا على استقدام قوات إلى ليبيا، وبالمثل حدث الأمر بين تركيا وقطر أيضاً لمواجهة ردود أفعال دول الرباعي العربي بعد أزمة قطر 2017.
تفاهمات ضرورية
على الرغم من إقرار السفير العرابي بأن أزمات المنطقة غير قابلة للحسم على المستوى القريب المنظور، أو حتى بحلول نهاية العقد الجاري؛ إلا أنه يضع بعض التوصيات التي يمكن أن تُسهم في حلحلة الموقف خلال الفترة المقبلة، ومنها:
1- عدم انتظار مظلة دولية لتحقيق الأمن الإقليمي: يُمكن البناء على اتجاه بعض الدول الإقليمية إلى “تصفير المشكلات”، من خلال إدراك الجميع أن الغليان بالمنطقة ليس في صالح أحد، خاصة في ظل غياب المظلة الأمريكية، وشعور العالم بوهن الإدارة الأمريكية بعد الانسحاب من أفغانستان.
2- تجنّب انكفاء الدول العربية على الذات: ضرورة خروج الدول العربية عن النهج السائد خلال السنوات الماضية، الذي يرتكز على الانكفاء على الذات والقضايا الداخلية، وهذا خطأ، ولكن علينا إدراك أننا بصدد عالم جديد، يجب وضع استراتيجية مختلفة للتعامل معه.
3- الابتعاد عن التنافس على الزعامة العربية: ثمة تنافس بين الدول العربية على الزعامة، أي: من يقود؟، ولكن الأفضل هو وضح استراتيجية مشتركة واعية للتحديات، إذ لن يصل التنافس إلى نتيجة، خاصة في ظل الاختلافات بين الدول وبعضها بعضاً. على سبيل المثال، في القضية السورية، هناك دول تدفع بعودة سوريا إلى الجامعة العربية، ودول تعارض ذلك.
4- التوصل إلى تفاهمات بين أربع دول عربية: يجب بناء قدر من التواؤم بين (مصر – السعودية – الإمارات – قطر) في المرحلة المقبلة، لوضع استراتيجية عربية يمكن أن تكون مؤثرة بشكل فعلي للوصول إلى نقطة تهدئة في تفاعلات المنطقة، ولكن الخروج من الوضع الراهن يحتاج وقتاً.
وأخيراً، أشار السفير محمد العرابي إلى أنه لا يمكن توقع مستقبل بعض الدول العربية، والصراعات المسلحة فيها، وما إذا كانت تلك الدول ستتماسك أم ستتآكل، ولكن الأقرب أننا سنشهد شكلاً جديداً غير معتادٍ يمكن أن يكون شكلاً من الفيدرالية الجديدة، ولن يتمكن النظام العربي من استيعاب هذه الكيانات الجديدة، مع التأكيد على أن أي تدخل إقليمي ودولي في الأزمات لن يؤدي إلى نتيجة.