اعتبارات حاكمة:
لماذا تتصاعد فرص تقدم تركيا في سوق الصناعات الدفاعية؟

اعتبارات حاكمة:

لماذا تتصاعد فرص تقدم تركيا في سوق الصناعات الدفاعية؟



شهدت الآونة الأخيرة تطوراً لافتاً في قطاع الصناعة الدفاعية التركية، ومنها مجال الطائرات بدون طيار، حيث دأبت تركيا على تطوير المسيرات حتى تمكنت من إنتاج طرازات متقدمة، وغير مسبوقة، وبدا ذلك في إعلان أنقرة في 26 أغسطس الماضي عن أنها بصدد إطلاق مسيّرتين جديدتين ستنضمان لقائمة طائراتها المسيرة التي تستخدم لأغراض عسكرية قتالية، كما تستخدم للاستطلاع والمراقبة؛ أولهما المسيرة “غوكخون” التي تعد ضمن الطائرات المسيرة التكتيكية الصغيرة، والثانية لم يتم تسميتها حتى الآن، وتتسم بصغر حجمها، ويمكن إطلاقها من المركبات.

لقد تمكنت تركيا من تحقيق مكانة متميزة في مجال الصناعات الدفاعية في السنوات العشر الأخيرة، وذلك بفضل زيادة ميزانيات الدفاع، وسيطرت المسيرات التركية، والعربات المدرعة، التي تصنعها شركة “بيراقدر” لصناعة المسيرات، وشركة أسيلسان (ASELSAN) المتخصصة في مجال الصناعات الإلكترونية الدفاعية، على جانب واسع من سوق صادرات التسليح.

مؤشرات دالة

1- إنتاج أجيال متقدمة من المسيرات: نجحت تركيا في إنتاج العديد من أجيال الطائرات المسيرة، في الصدارة منها المسيرة الهجين “غوكخون” التي دخلت المرحلة النهائية من الاختبارات. كما أنجزت شركة “روبيت للتكنولوجيا”، في مارس 2023، المسيرة “عذاب”، وهي طائرة دون طيار متعددة الاستخدامات، لما تتمتع به من مزايا تقنية وخصائص فنية. وتجدر الإشارة إلى أن تركيا طورت عدداً واسعاً من مشاريع إنتاج المسيرات، كان أبرزها “بيرقدار قزل ألما” وهي أول طائرة مقاتلة تركية مسيرة دون طيار، بالإضافة إلى إنتاج طائرات مسيرات متميزة أخرى يأتي في مقدمتها “بيرقدار آقينجي” و”بيرقدار تي بي 2″ و”أقسنقر” و”عنقاء”، فضلاً عن “قارغو”.

2- تحديث طرازات الطائرة F16: في ضوء استمرار ممانعة الكونجرس الأمريكي منح تركيا الطراز المتقدم من طائرات إف 16، أطلقت حكومة العدالة والتنمية، في 4 أغسطس الجاري، المرحلة الثانية من برنامج “أوزغور 2” (Ozgur 2) المحلي لتحديث أسطولها من طرازات الطائرة المقاتلة F-16 الأمريكية الصنع. ويهدف البرنامج إلى تحديث طائرات (F-16 Block-30/40/50) التابعة لقواتها الجوية.

3- تطوير أنظمة دفاع جوي جديدة: أدركت تركيا حاجتها إلى امتلاك منظومة حديثة ومتطوّرة للدفاع الجوي قادرة على صدّ أي هجوم جوي أو باليستي قادم من الخارج. ومع تعثر حصول تركيا على منظومة الدفاع الصاروخية الأمريكية “باتريوت”، وتصاعد التوتر بين أنقرة والقوى الغربية بعد حصولها على منظومة الدفاع الروسية S400، اتجهت تركيا خلال الأشهر الأخيرة نحو تطوير منظومة دفاعية وطنية، وتمكنت في أغسطس 2022 من تطوير نظام صواريخ الدفاع الجوي “سيبار” (Siper) طويل المدى. ويُلبّي صاروخ “سيبار” الذي من المتوقع أن يصل مداه من 30 إلى 150 كلم حاجة ماسّة لدى أنقرة لتطوير قدراتها الدفاعية الجوية محليّة الصّنع؛ إذ يتمتّع الصاروخ بقدرات تقنية وعسكرية عالية.

4- صعود أنقرة في تصنيف الصناعات الدفاعية: احتلّت تركيا موقعاً مهماً في تصنيف الشركات العاملة في مجال الصناعات الدفاعية، وظهر ذلك -على سبيل المثال- في وجود 4 شركات تركية ضمن قائمة أفضل 100 شركة متخصصة في مجال الصناعات الدفاعية حول العالم لعام 2023، والمنشور في مجلة “ديفينس نيوز” الأمريكية.

وتقدم ترتيب 3 شركات تركية في القائمة في العام الحالي مقارنة بالعام 2022، حيث ارتقت شركة “أسيلسان” المتخصصة في مجال الصناعات الإلكترونية الدفاعية إلى المركز 47 بدلاً من 49 في العام الماضي. كما نجحت شركة “توساش” المتخصصة في صناعة الفضاء والطيران في تحقيق قفزة كبيرة، حيث انتقلت من المركز الـ67 إلى الـ58 في القائمة.

في المقابل، تقدمت شركة روكيتسان (ROKETSAN) لصناعة الصواريخ 6 مراكز، حيث انتقلت من المركز 86 في العام 2022 لتصل إلى المرتبة 80 خلال العام الجاري. أمّا شركة “أسفات” (ASFAT) لتشغيل المصانع والترسانات العسكرية، التابعة لوزارة الدفاع التركية، فدخلت القائمة للمرة الأولى واحتلت المركز المائة.

5- تعدد مزايا الصناعات الدفاعية التركية: لا يقتصر التقدم الحادث في قطاع الصناعات الدفاعية التركية على التطور التقني، والقوة النيرانية التي تتمتع بها المنتجات الدفاعية التركية، وإنما تتسم بأسعارها التنافسية، فضلاً عن توفير قطع الغيار لهذه المنتجات. أيضاً من أهم مزاياها الجودة والدقة، وموافقة أنقرة على نقل تكنولوجيا هذه المنتجات مع الدول الصديقة والشريكة.

اعتبارات متنوعة

ثمة العديد من الاعتبارات التي تقف وراء الطفرة الهائلة في مجال الصناعات الدفاعية التركية، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:

1- العوائد الاقتصادية المتحققة من الصادرات العسكرية: حققت الصناعات الدفاعية التركية أرباحاً هائلة خلال السنوات الماضية، وساهمت في سد جانب واسع من سد عجز الميزانية التركية، والتي تعرضت لانتكاسات متتالية بسبب التراجع الحادث في سعر صرف العملة المحلية (الليرة)، وتدهور مؤشرات الاقتصاد التركي. ووصلت قيمة الصادرات العسكرية التركية خلال العام 2022 إلى نحو 4.4 مليارات دولار، ومن المتوقع أن تصل إلى 6 مليارات بنهاية العام الحالي 2023.

2- تزايد الطلب على المسيرات التركية في سوق السلاح: تشير الاتجاهات العالمية في سوق السلاح إلى زيادة الطلب على المسيرات التركية، بعدما حققت نجاحات لافتة في العديد من مناطق الصراعات حول العالم، وخاصة في ليبيا، وناجورنو كارباخ، وإثيوبيا، وسوريا، فضلاً عن دورها في تغيير التوازنات العسكرية في الحرب الأوكرانية، حيث تعد المسيرات التركية من أهم الأذرع العسكرية التي تعتمد عليها كييف في مواجهة التوغل العسكري الروسي. وقد كشفت تركيا في الأسابيع الماضية عن توقيعها العديد من العقود لتوريد طرازت مختلفة من المسيرات إلى العديد من دول العالم، آخرها مع السعودية والإمارات والكويت.

3- تراجع دعم الحلفاء في الغرب: من أهم الدوافع المحركة لدعم الصناعات الدفاعية المحلية، تراجع دعم حلفاء تركيا الغربيين لتلبية طموحاتها سواء بشأن الحصول على أسلحة متقدمة أو على الأقل تطوير الأنماط التسليحية التي تمتلكها، والتي هي بالأساس غربية الصنع. وتصاعدت المخاوف التركية مع تردد واشنطن في منح تركيا الطراز المتقدم من طائرات إف-16، بالإضافة إلى استبعادها من برنامج إنتاج مقاتلاتF-35 . كما اتجهت العديد من الدول الأوروبية إلى وقف تصدير قطع الغيار العسكرية لتركيا وفرض حظر على صادراتها التسليحية، على خلفية العمليات العسكرية التي أطلقتها تركيا على مناطق الشمال السوري منذ العام 2016. في هذا السياق، يمكن فهم توجه أنقرة نحو دعم وتوطين الصناعات الدفاعية المحلية، التي شهدت تطوراً كبيراً خلال السنوات الماضية، إذ تضاعفت نسبة الإنتاج العسكري التركي من 20% إلى 80%..

4- تنامي قدرات الخصوم التقليديين: يرتبط التطور الحادث في قطاع الصناعات الدفاعية التركية في جانب منه بتصاعد المخاوف التركية من تنامي القدرات العسكرية للخصوم التقليديين، وبخاصة اليونان وقبرص. ودخلت تركيا طوال السنوات الماضية في معارك كسر عظم مع البلدين، حتى كادت الأمور تصل إلى حالة حرب مع اليونان في العام الماضي، بسبب تنامي التوترات بين البلدين في شرق المتوسط وبحر إيجه.

ومع انخراط اليونان وقبرص في علاقات عسكرية واسعة مع واشنطن وعدد واسع من القوى الأوروبية، وتلبية هذه الدول لاحتياجات اليونان وقبرص من التسليح، وهو ما عدته تركيا تهديداً مباشراً لها، اتجهت نحو تطوير صناعاتها الدفاعية المحلية. وثمة قناعة تركية بأنه مع التطور المستمر في القدرات التسليحية لليونان وقبرص، فقد تزايدت أهمية توجه تركيا لتكثيف جهودها في مجال الصناعات الدفاعية المحلية.

5- مواجهة التهديدات غير التقليدية: تنطلق عمليات التطوير والتحديث المستمرة للصناعات الدفاعية التركية -في جانب منها- برغبة أنقرة في توفير الإمكانات اللازمة لمجابهة التهديدات غير التقليدية التي يمكن أن تتعرض لها، خاصة في ظل استمرار الأزمة السورية والليبية، وتصاعد التوترات في منطقة آسيا الوسطى، والمخاطر التي أفرزتها الحرب الروسية الأوكرانية على المعادلات الأمنية في المنطقة، مما يعني ضرورة مواصلة تحديث الصناعات الدفاعية المحلية في مختلف المجالات.

حجر عثرة

ختاماً، يمكن القول إن تركيا نجحت في قطع شوط معتبر على صعيد التقدم في مجال الصناعات الدفاعية التركية، بيد أن ثمة تحديات لا تزال تقف حجر عثرة، في الصدارة منها الأزمة الاقتصادية التي تشهدها البلاد، والضغوط الغربية على تركيا في مجال الصاعات الدفاعية، وتجلى ذلك -على سبيل المثال- في استمرار العقوبات الأمريكية على هيئة الصناعات الدفاعات التركية، بالإضافة إلى دخول منافسين جدد لتركيا في قطاع المسيرات، ومنها إيران التي بدأت مسيراتها تحقق رواجاً هائلاً في الإقليم، ومناطق أخرى حول العالم.