إشكاليات هيكلية:
لماذا تتصاعد ظاهرة “الحكومات المتعثرة” في الشرق الأوسط؟

إشكاليات هيكلية:

لماذا تتصاعد ظاهرة “الحكومات المتعثرة” في الشرق الأوسط؟



بات مصطلح “التعثر الحكومي” دارجاً على نحو لافت في التفاعلات التي تجري على الساحة السياسية الداخلية في العديد من دول منطقة الشرق الأوسط. ورغم أن هذه الظاهرة قد لا تبدو جديدة، خاصة خلال الأعوام العشرة الأخيرة، في ضوء تصاعد حدة عدم الاستقرار على المستويين السياسي والأمني في بعض تلك الدول، فضلاً عن استمرار التدخلات الخارجية، إلا أن الجديد في الأمر يكمن في اتساع نطاقها لتشمل دولاً عديدة على غرار لبنان والعراق والسودان والصومال وأفغانستان. ويمكن تفسير ذلك في ضوء عوامل مختلفة يتمثل أبرزها في صعوبة الوصول إلى توافق حول طبيعة الحكومة المقبلة، وتزايد الخلافات حول الملفات الخلافية الرئيسية، وتصاعد الانتقادات للخطوات السياسية التي اتخذت في سياق المرحلة الانتقالية، واستمرار الصراع على الصلاحات التنفيذية، وضغوط عدم الحصول على اعتراف دولي.

أسباب عديدة

ما زالت دول عديدة في المنطقة تعاني من أزمات حكومية مختلفة، سواء غياب أو تأخر تشكيل الحكومة، أو عدم انعقاد جلساتها من الأساس، أو تعليق الصلاحيات التنفيذية لرئيسها أو عدم رغبته في الاستمرار في منصبه، أو عدم قدرتها على إدارة شئون البلاد في ظل العقوبات المفروضة عليها. ويمكن تفسير ذلك في ضوء أسباب عديدة يتمثل أبرزها في:

1- تفاقم الصراع على الصلاحيات التنفيذية: وهو ما يبدو جلياً في حالة الصومال، حيث اتخذ الرئيس محمد عبد الله فرماجو، في 27 ديسمبر الجاري، قراراً بتعليق مهام رئيس الوزراء محمد حسين روبلي ونشر قوات أمن حول مكتبه، وذلك بعد تفاقم الخلاف بين الطرفين حول ملفات عديدة، لاسيما تنظيم الانتخابات. وفي هذا السياق، وجّه رئيس الوزراء- الذي طالب قوات الأمن بعدم التحرك إلا بتعليمات منه- اتهامات إلى الرئيس فرماجو بـ”تدبير انقلاب” ضده ووصفه بأنه “الرئيس السابق”، فيما زعم الأخير أن الأول متورط في قضايا فساد بعد تدخله في تحقيق حول مصادرة أراضي. وكان الخلاف قد بدأ بعد أن حاول فرماجو تمديد ولايته الرئاسية لعامين بعد انتهاءها في فبراير 2021، إلا أن ذلك أثار أزمة دستورية وأدى إلى اندلاع اشتباكات مسلحة على نحو دفع فرماجو إلى تكليف روبلي بإدارة ملف تنظيم الانتخابات قبل أن يسحبه منه.

2- ربط انعقاد جلسات الحكومة بملفات سياسية: حرص رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي، في 28 ديسمبر الحالي، على تأكيد أن “توقف الجلسات الحكومية يمثل خللاً بنيوياً لا يمكن تجاهله”، مشيراً إلى أنه سيعمل على عودة الحكومة للانعقاد، حيث كانت آخر جلسة لها في 12 أكتوبر الماضي، ومؤكداً في الوقت نفسه أنه “إذا رأى أن استقالته هى الحل فلن يتأخر ثانية”. ويعود ذلك في المقام الأول إلى إصرار كل من حزب الله وحركة أمل على ربط استئناف انعقاد جلسات الحكومة بـ”كف يد” المحقق العدلي في انفجار بيروت طارق بيطار، الذي يتهمه الثنائي بالتسييس، وهو ما قوبل برفض من جانب ميقاتي والقوى السياسية الأخرى.

3- تصاعد حدة الضغوط السياسية: على نحو ما يتعرض له رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك، الذي تشير تقارير عديدة، في 29 ديسمبر الجاري، إلى أنه يعتزم تقديم استقالته من منصبه، رغم الجهود التي تبذلها قوى داخلية وخارجية مختلفة لثنيه عن هذه الخطوة. ويعود ذلك إلى أن ثمة خلافات عديدة اندلعت بين القوى السياسية التي تنتمي إلى المكون المدني حول الاتفاق الذي توصل إليه حمدوك مع رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان في 21 نوفمبر الفائت، والذي عاد بمقتضاه إلى منصبه بعد القرارات التي اتخذها الأخير في 25 أكتوبر الماضي. فقد رفض تحالف “الحرية والتغيير” الاتفاق الأخير، ووجّه انتقادات قوية لرئيس الوزراء بسبب توقيعه عليه، كما لم يقبل بالمشاركة في الحكومة أو في الجهود التي تبذل للتوافق على إعلان سياسي جديد.

4- التباين حول طبيعة الحكومة القادمة: رغم أن الحكم الذي أصدرته المحكمة الاتحادية العراقية، في 27 ديسمبر الجاري، ورفضت فيه الطعن في نتائج الانتخابات الذي قدمته بعض القوى السياسية العراقية، يمكن أن يُهيِّئ المجال أمام تشكيل الحكومة الجديدة على ضوء النتائج التي انتهت إليها الانتخابات التي أجريت في 10 أكتوبر الماضي، إلا أن ذلك لا ينفي أن ثمة تباينات عديدة ما زالت قائمة بين القوى الفائزة في تلك الانتخابات، سواء التي نجحت في الحصول على المراكز الأولى فيها أو تلك التي حققت نتائج ضعيفة كشف عن تراجع شعبيتها على مستوى الشارع السياسي العراقي.

وفي هذا الإطار، يسعى التيار الصدري إلى استثمار حكم المحكمة الاتحادية من أجل إضفاء وجاهة خاصة على الدعوة إلى تشكيل حكومة “أغلبية” في البرلمان الذي ينتظر أن يصدر الرئيس برهم صالح قراراً بعقد أول جلسة له بعد 15 يوماً من تاريخ المصادقة على نتائج الانتخابات، وهو تاريخ إصدار الحكم، مستنداً في هذا السياق إلى أنه يمتلك “الكتلة الأكبر” في البرلمان بعد أن نجح في تحقيق المركز الأول في الانتخابات بحصوله على 73 مقعداً. لكن لا يبدو أن القوى التي انضوت تحت لواء ما يسمى بـ”الإطار التنسيقي” سوف تقبل بذلك، حيث ما زالت مصرة على ضرورة تشكيل حكومة “توافقية” بما يعني حكومة تشمل كل القوى التي ستشارك في البرلمان القادم، زاعمة في الوقت ذاته أنها صاحبة “الكتلة الأكبر” في البرلمان بعد أن تمكنت من جمع عدد كبير من المقاعد النيابية في إطار الائتلافات التي شكلت في مرحلة ما بعد إجراء الانتخابات.

5- تزايد مضاعفات عدم الاعتراف الدولي: وهو ما بات واضحاً في الحالة الأفغانية، حيث لم تحصل حركة “طالبان” حتى الآن على اعتراف دولي بحكمها، رغم أنها قامت بتشكيل حكومة جديدة في 7 سبتمبر الماضي. وهنا، فإن هذه الخطوة لم تعزز من قدرة الحركة على إدارة شئون البلاد، في ظل العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية. وفي هذا السياق، دعا القائم بأعمال وزير الخارجية الأفغاني امير خان متقي، خلال مشاركته في اجتماع وزراء خارجية دول منظمة التعاون الإسلامي بإسلام أباد في 19 ديسمبر الجاري، المنظمة إلى الضغط على الولايات المتحدة الأمريكية من أجل رفع العقوبات المفروضة على أفغانستان، حيث قال أن “تجميد الأصول الأفغانية من قبل الولايات المتحدة، يمثل انتهاكاً لحقوق الإنسان، بينما يضر تعليق المساعدات التنموية من قبل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بالصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية”. والجدير بالذكر في هذا الإطار، أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت قد قامت، في 18 أغسطس الماضي، بتجميد 9.5 مليار دولار في صورة أصول تخص البنك المركزي الأفغاني، وذلك لمنع الحركة، التي سيطرت على السلطة في منتصف هذا الشهر، من الوصول إلى تلك الموارد.

مصالح متشابكة

لا يبدو أن ظاهرة “الحكومات المتعثرة” سوف تتراجع في المنطقة خلال العام الجديد. وحتى لو نجحت القوى السياسية المتصارعة في التوافق على تشكيل حكومة جديدة أو استئناف جلساتها، فإن ذلك لا يضمن تمكين الحكومة من القيام بممارسة مهامها. ففي النهاية، تبقى الخلافات العالقة بين تلك القوى، والتي تتأثر بتشابك المصالح والحسابات التي تدعمها قوى خارجية في كثير من الأحيان، هى المتغير الأهم الذي يحدد المسار الذي يمكن أن تتجه إليه تلك الحكومات في النهاية.