ازداد ملمح التوتر في العلاقة بين أنقرة واثينا، لا سيما مع توقيع الولايات المتحدة واليونان في 14 أكتوبر اتفاقاً عسكرياً إضافيا يسمح بتوسيع مساحات التعاون الدفاعي الثنائية، ويمنح القوات الأمريكية استخداماً أوسع للقواعد العسكرية اليونانية، وكذلك يتيح للقوات الأمريكية التدرب والعمل “بقدرة موسعة” في أربع قواعد إضافية باليونان. وجاء توسيع الاتفاقية الدفاعية بين البلدين، بعد تصديق اليونان في 28 سبتمبر الماضي على اتفاق دفاعي آخر مع فرنسا، تشتري بموجبه اليونان 3 فرقاطات فرنسية الصنع، مع وجود خيار لشراء فرقاطة رابعة. كما تزامن مع فتور إدارة بايدن تجاه تقديم تركيا في أكتوبر الجاري طلبا للولايات المتحدة لاقتناء 40 طائرة مقاتلة من طراز “إف-16″، ومعدات عسكرية أخرى لتحديث 80 من طائراتها الحربية، وهو ما زاد من قلق أنقرة حول تصاعد فرص تقويض التعاون الاستراتيجي بين أنقرة وواشنطن.
اتجاهات متناقضة
يتزامن صعود التعاون الدفاعي بين واشنطن وأثينا مع مؤشرات عدة تكشف عن استمرار تفاقم التوتر التركي اليوناني في شرق المتوسط، أولها: إعلان وزارة الدفاع التركية في 13 أكتوبر الحالي بأنها ستواصل “بحزم” أنشطتها في المنطقة، وستنشر خرائط توضح “الجرف القاري التركي، والمنطقة المشمولة بمذكرة الحدود البحرية التركية الليبية غير القانونية. وثانيها: فشل الجولة الجولة 63 من المحادثات الاستكشافية بين أنقرة واليونان في 6 أكتوبر الحالي، في تحقيق اختراق في الملفات العالقة بين البلدين.
وثالثها: استمرار التصريحات التركية السلبية، والتي زادت من حدة الأزمة بين أنقرة وأثينا، وآخرها، تصريحات المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية عمر جيليك في 7 أكتوبر الحالي، حيث قال “الوطن الأزرق هو خطنا الأحمر، وهو جزء لا يتجزأ من وطننا”، وأضاف: “سنقاتل من أجل الوطن الأزرق، وسندفع أي ثمن”. وأضاف: “على اليونان وقبرص التخلي عن “سلوكهما المتطرف في بحر إيجة وشرق البحر الأبيض المتوسط”. ورابعها: يرتبط بإصدار تركيا في 24 يونيو الماضي إنذارًا ملاحيًا؛ نافتكس، معلنة أن المياه الدولية لبحر إيجه منطقة تدريب عسكرية، ردّاً على تحرك سابق لليونان.
وبالتوازي مع التوتر التركي اليوناني، نجحت الأخيرة في تعضيد علاقاتها مع الولايات المتحدة، حيث تم تمديد الاتفاقية الدفاعية بين اليونان وواشنطن في أكتوبر الحالي لمدة خمس سنوات، بعدما كان تجديدها يتم سنويا منذ العام 1990.
ولم يكن تمديد الاتفاقية الدفاعية هي الإجراء الأول من نوعه لتعزيز العلاقات اليونانية الأمريكية، ففي يونيو الماضي، صادقت لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي بالإجماع، على مشروع قانون يحمل عنوان “قانون الدفاع والشراكة البرلمانية بين الولايات المتحدة واليونان لعام 2021″، وينص على تقديم مستلزمات عسكرية ومساعدات تدريبية لليونان. كما نص القانون على تعزيز الشراكة المتعددة الأطراف الآخذة في التزايد بين قبرص واليونان وإسرائيل والولايات المتحدة. كما يسمح مشروع القانون، بالتسليم العاجل لأي طائرة مستقبلية من طراز F-35، ومنح الأولوية لتسليم المواد الدفاعية الإضافية إلى اليونان، مثل غيرها من البلدان والمناطق الأخرى.
والواقع أن اتجاه اليونان لتعزيز علاقاتها العسكرية والسياسية مع واشنطن لا ينفصل عن، حاجتها إلى تحشيد المواقف الدولية لمواجهة التحركات التركية شرق المتوسط ناهيك عن أن تعزيز الشراكة مع واشنطن بالذات يسمح بتوفير بيئة آمنة لعمل الشركات الأمريكية التي تعمل لمصلحة اليونان في مجال التنقيب عن مكامن الطاقة حول سواحل قبرص واليونان.
مخاوف متنوعة
ثمة العديد من الاعتبارات التي تثير مخاوف أنقرة من التعاون الدفاعي الجديد بين أثينا وواشنطن، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:
1- تعزيز قدرات اليونان العسكرية: يعود قلق أنقرة من تصاعد التعاون بين اليونان والولايات المتحدة إلى مخاوفها من تنامى قدرات اليونان العسكرية، خاصة بعد توقيع عقد شراء معدات بحرية وجوية مع باريس في نهاية سبتمبر الماضي. كما أن تركيا تدرك أن محاولاتها للحصول على طائرات F16 الأمريكية، رغم شكوك في إمكانية اقتنائها، فهي قد لا تلبي حاجتها لمجاراة صفقات اليونان المتلاحقة للحصول على طائرات رافال الفرنسية ومساعيها لاقتناء طائرات أف 35 الأمريكية.
في هذا السياق، فإن التعاون الدفاعي الجديد بين أمريكا واليونان يثير مخاوف تركيا، خاصة بعد احتدام المواجهة مع اليونان على ثروات وغاز المتوسط، وعدم حسم محاولاتها مع الجانب الروسي للحصول على طائرات سوخوى 57 ناهيك عن استمرار العقوبات الأمريكية على هيئة الصناعات الدفاعية التركية، وإخراج أنقرة من برنامج إنتاج مقالات F35 بسبب حصولها على منظومة الدفاع الصاروخية الروسية S40.
وترى تركيا أن التعاون الدفاعي بين واشنطن وأثينا فضلا عن تمرير الثانية في الآونة الأخيرة صفقة تسليح جديدة مع باريس، يمثل تهديداً مباشراً لأمنها الإقليمي، ومصالحها في المتوسط، حيث تساهم اتفاقيات التعاون الدفاعي والصفقات العسكرية اليونانية مع واشنطن وباريس في تعظيم القدرات العسكرية اليونانية الدفاعية والهجومية، وهو ما قد يضغط على أنقرة التي تعاني أزمة اقتصادية حادة فى توفير المزيد من احتياجاتها العسكرية لموازنة القدرات التسليحية الجديدة لليونان.
2- تكثيف الضغوط الأمريكية على أنقرة: تخشى تركيا من أن يسهم التعاون الدفاعي الجديد بين أثينا وواشنطن في تعزيز الضغوط الأمريكية على تركيا في القضايا الخلافية بينهما، ولا سيما فيما يتعلق بدعم الولايات المتحدة للتحركات اليونانية فى شرق المتوسط وبحر أيجة إضافة إلى استمرار واشنطن في دعم قوات سوريا الديمقراطية شمال سوريا. وتصاعدت حدة التوتر تدريجياً في العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، على ضوء التطورات العديدة التي طرأت عليها في الفترة الأخيرة، وهو ما بدا جلياً في اتهام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 23 سبتمبر الماضي إدارة بايدن بدعم الإرهاب من خلال نقل الأسلحة والذخائر والمعدات إلى المنظمات الإرهابية في سوريا، كما حمل واشنطن المسؤولية عن انتشار السلاح والقتل في أفغانستان.
ويبدو اتجاه واشنطن نحو تعزيز التعاون الدفاعي مع أثينا رسالة إلى أنقرة، تستهدف في جوهرها التأكيد على أن توجهات السياسة التركية المتعارضة مع المصالح الأمريكية، قد تدفع الأخيرة بشكل أكبر نحو تعزيز انعطافتها تجاه خصوم أنقرة شرق المتوسط، وبخاصة اليونان وقبرص، وتفتح الباب أمام مزيد من التفاهمات الأمريكية مع اليونان في كافة المجالات.
3- محاصرة تركيا في شرق المتوسط: لا تنفصل المخاوف التركية من التعاون الدفاعي بين أثينا وواشنطن عن انعكاساته على حضور تركيا شرق المتوسط، والتأثير على تحركاتها للتنقيب عن مكامن الطاقة قبالة سواحل قبرص واليونان. كما تعي تركيا أن ثمة مواقف أمريكية وأوروبية داعمة لليونان في خلافها الطويل مع اليونان حول السيادة في جزيرة قبرص؛ وظهر ذلك في إعلان الولايات المتّحدة في 21 يوليو الماضي إدانتها المشروع الذي أعلن عنه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لإعادة فتح ساحل فاروشا، في قبرص الشمالية. واعتبرت واشنطن على لسان وزير خارجيتها أنتوني بلينكن إن الولايات المتحدة تعتبر ما يقوم به القبارصة الأتراك في فاروشا بدعم من تركيا استفزازياً وغير مقبول ولا يتّفق مع الالتزامات التي قطعوها في الماضي للمشاركة بطريقة بنّاءة في محادثات سلام.
رسالة ضغط
ختاماً، يمكن القول أن دعم التعاون العسكري الأميركي اليوناني يمثل في جوهره رسالة ضغط جديدة من واشنطن واليونان في مواجهة سياسات أنقرة سواء في منطقة شرق المتوسط، أو القضايا الإقليمية التي تتشابك فيها مع الولايات المتحدة. ورغم مساعى أنقرة إلى إصلاح علاقاتها الخارجية مع جانب معتبر من الخصوم الإقليميين إلا أنها تشعر بكثير من الخوف والقلق تجاه تنامي التعاون الدفاعي اليوناني الأمريكي.