تعزيز الدور:
لماذا تتدخل إريتريا في ملف شرق السودان؟

تعزيز الدور:

لماذا تتدخل إريتريا في ملف شرق السودان؟



تطورات لافتة تشهدها العلاقات بين إريتريا والسودان مؤخراً دفعت إليها الأزمة المحتدمة في إقليم شرق السودان، تلك التي وجد فيها النظام في أسمرة فرصة للخروج من تعقيدات عزلة دولية، وعقوبات أمريكية بسبب مشاركة الحكومة الإثيوبية في حرب تيغراي. وفي محاولةٍ لتجاوز هذه العقوبات، واكتساب ساحة للنفوذ في منطقة القرن الأفريقي، ورسم خريطة جديدة للتحالفات هناك؛ تسعى إريتريا، من خلال التفاعل مع مشكلات الداخل السوداني، إلى ممارسة دور إيجابي يضعها في مكانة “الفاعل” في أحداث المنطقة، وتجاذباتها السياسية والاستراتيجية.

نشطت خلال الأيام الماضية، وبشكل لافت، العلاقات بين الخرطوم وأسمرة، بعد أن كانت الأخيرة الأقرب إلى أديس أبابا، التي تمر علاقاتها مع السودان بحالة من التوتر الحاد بسبب خلافات سد النهضة، فضلاً عن الخلاف الحدودي حول أراضي “الفشقة”. وتحاول إريتريا، في سعيها لتعزيز علاقاتها مع السودان، أن تكون لها يد في حل الأزمة السياسية التي يشهدها الأخير، منذ أحداث 25 أكتوبر 2021.

إذ سبق أن طرحت أسمرة، في أبريل الماضي، مبادرةً لمعالجة الأزمة وتقريب وجهات النظر بين جميع أطياف الصراع؛ وهي المبادرة التي كان قد تقدم بها الرئيس الإريتري أسياس أفورقي لرئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول عبد الفتاح البرهان، من أجل التوسط لحل الأزمة.

دوافع مختلفة

لم تكتفِ أسمرة بهذه المبادرة، ولكن حاولت الانخراط في ملف شرق السودان، الذي تفاقمت الأزمة فيه عقب “اتفاق السلام”، الموقع في 3 أكتوبر 2020، وخروج تكتل قبلي تحت مسمى “المجلس الأعلى لنظارات البجا” يطالب بإلغاء مسار الشرق، والاتفاق على ترتيبات جديدة في الإقليم.

وعَبْر السفير الإريتري في السودان عيسى أحمد عيسى، قامت أسمرة بتوجيه الدعوة إلى عشرات من القيادات والنظارات والعموديات كممثلين عن غالبية المكونات في شرق السودان، وممثلين آخرين عن الحكومة السودانية، للمشاركة في مؤتمر تحضيري يتم تدشينه، عقب لقاء يُعقَد مع الرئيس أفورقي، للتعرف على الرؤى المطروحة شعبياً وحكومياً والبحث عن حل لها. إلا أن السلطات الأمنية السودانية أوقفت، في 4 أغسطس الجاري، وفد زعماء القبائل المتجه إلى العاصمة الإريترية، عبر أحد المعابر البرية المُغلق منذ سنوات.

وتستند إريتريا في محاولتها هذه إلى دوافع متعددة، يتمثل أهمها فيما يلي:

1- محاولة تجاوز العقوبات والخروج من العزلة الدولية: تواجه أسمرة حالياً تحديات على طريق استعادة اندماجها في العلاقات الدولية والإقليمية. ومن خلال المساهمة في إحلال السلام بإقليم شرق السودان، الذي شهد عدداً من التوترات في الفترة الماضية، يمكن لإريتريا تقديم صورة إيجابية باعتبارها تساهم في توفير الأمن والاستقرار في المنطقة، بعد أن تعرض النظام الحاكم فيها لإدانات واضحة، عقب المشاركة مع الحكومة الإثيوبية في حرب تيغراي؛ مما تسبب في العقوبات التي فرضتها واشنطن على إريتريا، في نوفمبر الماضي، فضلاً عن عقوبات سابقة لمجلس الأمن عليها لاتهامها بدعم “حركة الشباب” الصومالية.

ومن جانب آخر، هناك محاولة إريترية لتجاوز التعاون المباشر مع الخرطوم، إلى التعاون مع الاتحاد الأوروبي، بخصوص استضافة المليشيات التابعة للحركات المسلحة من إقليم دارفور، التي كانت تقاتل في ليبيا. وفي ظل بحث الاتحاد الأوروبي في شأن إخراج هذه المليشيات من المشهد الليبي، عبّر أفورقي عن استعداد بلاده لتلك الاستضافة.

2- اكتساب ساحة للنفوذ في القرن الأفريقي: من خلال محاولة التدخل في الشئون الداخلية للسودان، كما تم من قبل في الصومال، في العقد الأول من القرن الحالي، تستهدف إريتريا تقوية مكانتها وممارسة دور إيجابي يدعم موقعها الإقليمي، بشكل يضع أسمرة في مقدمة دول القرن الأفريقي الفاعلة، بعد زعزعة الدور الإثيوبي نتيجة الحرب في إقليم تيغراي.

وبدلاً من العزلة السابقة، وعبر الدخول على خط التوتر في شرق السودان، يبدو بوضوح هدف إريتريا في تفعيل دورها داخل المنظمات الإقليمية، التي فَعَّلت عضويتها فيها، خلال السنوات القليلة الماضية، بعد توصلها إلى اتفاق مع إثيوبيا، عام 2018، في شأن العلاقات بين البلدين، بعد قطيعة استمرت نحو 17 عاماً؛ وأهم هذه المنظمات الهيئة الحكومية للتنمية “إيغاد”، والاتحاد الأفريقي.

3- رسم خريطة تحالفات إقليمية جديدة: يُلاحَظ من التحركات السياسية لإريتريا، أنها تجاوزت الموقف الحذر من إجراءات المكون العسكري في السودان، في 25 أكتوبر 2021، وأنها من خلال عروضها في القيام بدور “الوساطة”، سواء فيما يخص الداخل السوداني، أو فيما بين السودان وإثيوبيا؛ إنما تحاول ممارسة دور إقليمي مميز، ترسم من خلاله ملامح خارطة تحالفات جديدة، في منطقة القرن الأفريقي.

فإضافةً إلى المبادرة التي تقدم بها الرئيس الإريتري، في أبريل الماضي، إلى رئيس المجلس الانتقالي، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، للتوسط في حلحلة الأزمة السياسية في السودان، وفضلاً عن محاولة إريتريا الدخول على خط التوتر في إقليم شرق السودان؛ فقد عرض أفورقي وساطة بلاده بين الخرطوم وأديس أبابا في قضية الحدود بين البلدين، وذلك عندما أرسل وزير خارجيته عثمان صالح، إلى الخرطوم، في يوليو من العام الماضي، للتباحث في هذا الأمر. إلا أن الخرطوم رفضت الوساطة الإريترية، استناداً إلى مُبرر “عدم حيادية أسمرة”.

واللافت، رغم ذلك، أن تنامي العلاقات بين إريتريا والسودان، خصوصاً بعد سقوط نظام البشير، يعتمد على رؤية أسمرة في أهمية التقارب مع المجلس العسكري أكثر من المدنيين؛ من حيث إن الاحتمال الأقرب -بالنسبة إليها- هو تولي العسكريين للسلطة في السودان، أو على الأقل التحكم في مساراتها؛ وهو ما يختلف عن نظام البشير، الذي كانت خلفيته قائمة على الإسلام السياسي، وكان -بحسب الرؤية الإريترية- يدعم التيار الإسلامي المعارض لنظام أفورقي في إريتريا.

4- استيعاب بعض الجماعات الإثنية في السودان: أتاحعدم جدية السلطات الحاكمة في إيجاد حل للتوتر من الداخل، في الشرق، وفشل اللجنة المكلفة بالملف برئاسة نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي، الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، في إدارة الأزمة؛ الفرصة لإريتريا في الدخول على خط ملف الشرق، خاصة أنها تعتمد في ذلك على القرب الجغرافي، والتداخلات القبلية والإثنية بين إريتريا وشرق السودان.

ومن الواضح أن أسمرة تُعد لاعباً رئيسياً في تطورات المشهد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي أيضاً، في إقليم الشرق، بفعل الحدود البرية المشتركة بينهما، وعلاقاتها مع الكثير من المكونات الأهلية الفاعلة في الإقليم.

وفضلاً عن أن نظام أسمرة يعوّل على إدراك السلطة الحاكمة في السودان أنها تمتلك مفاتيح تهدئة الأوضاع؛ فإن التدخل في ملف شرق السودان لا يمثل فقط أهمية بالنسبة لإريتريا باعتباره واجهة شمالية غربية لأمنها القومي، ولكن أيضاً يُتيح لها تعزيز مكاسبها بعد الاتفاق على فتح الحدود، وهو ما من شأنه إنعاش الاقتصاد بين البلدين، وتنشيط الحركة التجارية، خصوصاً مع اعتماد اقتصاد إريتريا على السلع السودانية، الصناعية والزراعية، المتداولة بين القبائل والإثنيات المتداخلة على الحدود بين البلدين.

قضايا شائكة

في هذا السياق، يبدو أن المبادرة الإريترية ربما تستغرق وقتاً إلى أن تتبلور في مقترح لحل الأزمة السياسية في السودان، وربما تواجه محاولات أسمرة بعضاً من الصعوبات بخصوص تدخلها في ملف شرق السودان، لكن رغم ذلك فإن هناك مجموعة من القضايا “الشائكة” التي تدفع إلى التقارب الإريتري مع السودان، في إطار محاولة تفعيل “التفاهمات” بين الطرفين حولها.

فهناك قضايا تخصّ الداخل الإريتري متعلقة بالاقتصاد والأمن، وتتصل بطبيعة المشكلات القائمة في منطقة “الفشقة” الحدودية المتنازع عليها بين السودان وإثيوبيا، فضلاً عن مشكلة إقليم تيغراي، وما تمثله جبهة تحرير تيغراي من تهديد لنظام أسمرة، إلى جانب مشكلة التداخل القبلي والإثني، بين إريتريا وإقليم شرق السودان، وما يفرضه التوتر في الإقليم من تداعيات على الداخل الإريتري.

هذه القضايا مجتمعة، وفي مقدمتها سوء العلاقات بين أسمرة وأديس أبابا، أدت إلى تحرك إريتريا تجاه السودان وفق مسارين: الأول، تفاهمات بشأن العلاقات بين البلدين. والثاني، نقاشات بخصوص إثيوبيا وعلاقتها بالسودان. وهذه القضايا في الوقت الذي تجعل فيه إريتريا تهتم بالتقارب مع السلطة الحاكمة في السودان؛ فإنها تدفعها أيضاً إلى التدخل في تفاعلات شرق السودان، كمحاولة من جانبها للخروج من عزلتها، خلال سنوات مضت، وتعزيز دورها كـ”فاعل” في منطقة القرن الأفريقي.