صار الملف النفطي قاسماً مشتركاً في معظم الملفات المرتبطة بمرحلة الانتقال السياسي في ليبيا، على النحو الذي يعكس محورية هذا الملف، فقد يعكس الأداء في هذا الملف مؤشرات إيجابية على الاستقرار الليبي، أو مؤشرات للتراجع وعدم الاستقرار. ووصل الأمر إلى الدرجة التي أصبح يُنظر بها إلى أن من أهم مراكز القوى في ليبيا خلال المراحل الانتقالية عمومًا، هما: رئيس المؤسسة الوطنية للنفط “مصطفى صنع الله”، ومدير المصرف المركزي “الصديق الكبير”. ومن هذا المنظور، فإن ميل أي منهما إلى طرف سياسي بعينه يعني الكفة الراجحة اقتصاديًا في المقام الأول، وهو أمر شائع في ظل حالة الاستقطاب السياسي الممتدة في الحالة الليبية.
توترات متعددة
يمكن الإشارة إلى أربعة مؤشرات تعكس تفاعلات ملف النفط في الأزمة الليبية، وجميعها ملفات متوترة أو مصدر للتوتر:
1- التوتر الأمني: ميدانياً، كانت منابع النفط الليبي، لا سيما في منطقة الهلال النفطي، مصدراً أساسياً للتوترات الأمنية الميدانية في مرحلة ازدهار الإرهاب في ليبيا عندما سعى تنظيم “داعش” إلى السيطرة على الهلال النفطي، وتشكلت عملية ما يُعرف بـ”البنيان المرصوص” التي غالباً ما يُشار إلى جهود قوى محلية فصائلية في الدفاع عنها. لكن برز الدور الرئيسي للجيش الوطني الليبي منذ عام 2019 في السيطرة على تلك المناطق، إلى أن تم توقيع الاتفاق السياسي في أعقاب عملية وقف إطلاق النار (أكتوبر 2020). لكن تندلع في الجنوب أيضاً حوادث من آن لآخر، تسعى خلالها خلايا تابعة للتنظيم تنشط في المرحلة الحالية للوصول إلى حقول النفط. كذلك، فإن عمليات اختطاف العاملين في قطاع النفط تتكرر من آن لآخر، حيث تقوم بها بعض الفصائل المسلحة. ومؤخرًا أعلنت المؤسسة الوطنية عن اختطاف اثنين من موظفيها دون الكشف عن أبعاد عملية الاختطاف، وإن كان ذلك يعكس التجاذبات السياسية والهشاشة الأمنية في مناطق النفط.
2- التوتر السياسي: يتخذ أنماطًا وأبعادًا متغيرة مرحلياً. ففي مرحلة الحرب على طرابلس، كانت هناك ضغوط على الجيش الليبي لإفساح الساحة لعمل المؤسسات النفطية والشركات، لكن القيادة العامة أصرت على أن يتم ذلك في إطار اتفاق، وهو ما جرى بشكل ما، لكن مع إخلال “عبدالحميد الدبيبة” -رئيس الوزراء- ببعض الشروط، ومنها -على سبيل المثال- وقف رواتب منتسبي الجيش الوطني، فقد تصاعدت الأزمة مجدداً بشأن هذا الملف.
وبالإضافة إلى ذلك، هناك تصعيد ذو طابع سياسي بين وزير النفط “محمد عون” و”صنع الله” تم حله قبل أسابيع على إثر قرار “عون” بإقالة “صنع الله”، ثم جدد “عون” القرار في الأسبوع الفائت. وفي كلا الحالتين بُني القرار على أساس المخالفات القانونية في الهيئة، ويعتقد أيضاً أنه لن يُنفذ إداريًا، لكن سيظل “عون” مصرًا على الاتجاه نفسه، في محاولة لعرقلة “صنع الله”، وإثارة الشكوك باستمرار في دوره كمدير للمؤسسة من جهة، والدعم الشخصي الذي يحظى به من “الدبيبة” لأسباب غير معلنة، وهو ما يحتمل معه أن “عون” يستهدف “الدبيبة” أيضاً من جهة أخرى.
3- التوتر الاجتماعي: كان يُنظر إلى أن ملف النفط هو جوهر نمط عدم التوزيع العادل للثروات في البلاد، فقد كان الشرق -على سبيل المثال- يعاني من الحصول على عائداته عبر المصرف المركزي الرئيسي في ظل مرحلة الانقسام التي لا تزال قائمة، كما اعتبرت العديد من الفئات الاجتماعية، ولا سيما أبناء القبائل، أنهم محرومون من الوظائف في هذا القطاع الحيوي. أضف إلى ذلك أن الجنوب ربما كان أيضاً أكثر حرماناً من الشرق، رغم وجود حقوق نفطية كبيرة في الجنوب ولا سيما حقل الفيل؛ إلا أن الحكومة التفتت إلى هذا الجانب مؤخراً، وتم الإعلان عن إنشاء مصفاة للتكرير في الجنوب، وسوف تستغرق بعض الوقت.
وقد كان ملف النفط أحد ملفات الأزمات في جنوب البلاد، ولا يزال مرتبطاً بالبعد الاجتماعي عبر محورية دور بعض القبائل التي يمكنها تأمين الحقول أو التعامل مع الشركات الدولية المنتجة للنفط.
4- التوتر الخارجي الإقليمي والدولي، حيث تتسابق العديد من الدول على تحسين حصص الاستحواذ النفطي في ليبيا، وإبرام عقود التنقيب والصيانة والبنى التحتية حالياً، وبعضها كان قد توقف بسبب المعارك المسلحة وعدم الاستقرار الأمني، مع الوضع في الاعتبار أن العديد من تلك الشركات تدعم أطرافاً معينة في الصراع في كل مرحلة من المراحل. على سبيل المثال، دعمت شركة “توتال” الفرنسية القيادة العامة في مرحلة حرب طرابلس، لكنّ بعضها يعود حالياً في إطار تفاهمات سياسية، وتحول موازين القوى والحصص التي تتباحث القوى الدولية حولها. فقد عادت مؤخراً -على سبيل المثال- شركات مثل “تاتنفط” الروسية، وشركات إيطالية وفرنسية وأمريكية. ومع اتجاه زيادة الإنتاج يُعتقد أن التنافس سيتزايد بين القوى الرئيسية والقوى الطامحة للحصول على حصة، مثل تركيا على سبيل المثال.
تداعي الأزمات
من المتصور أن هناك أربعة أطراف رئيسية هي المتحكمة في هذا الملف، وهي بالترتيب: القوى الخارجية، على اعتبار أن هذا الملف هو ملف خارجي بالدرجة الأولى على مستوى الإنتاج والتصدير. ثم المؤسسة الوطنية للنفط التي تقرر السياسات بغض النظر عن دور وزارة النفط على اعتبار أن هناك “خطاً ساخناً” بين المؤسسة ورئيس الحكومة، وكلاهما يهمش دور وزارة النفط التي يُثار الجدل من آن لآخر حول طبيعة دورها بالأساس. ثم الفصائل المسلحة وجماعات التطرف التي تسعى إلى الحصول على قدر من الثروة النفطية عبر التهريب أو السرقات، أو حتى لفرض واقع لصالح جماعات أو أطراف سياسية. والحلقة الأضعف هي القوى الاجتماعية التي تدفع كلفة تعامل باقي الأطراف مع الملف النفطي كملف غنيمة.
ولكن تتداعى الأزمات في هذا الملف نتيجة عدة عوامل أساسية، منها:
1- غياب الطبيعة المؤسسية: على الرغم من الإشارة الدائمة إلى “المؤسسة النفطية” إلا أنها لا تعكس طابعاً مؤسسياً بقدر ما تعكس توافقات جماعات مصالح وأشخاص. وإحدى الإشكاليات الراهنة هي أنه مع شيوع ثقافة الجهوية في ليبيا، فلا يوجد من يعبر داخل مؤسسة النفط عن مصالح بعض الأقاليم، وهناك استحواذ من الغرب الليبي على المؤسسة النفطية. إضافة إلى عدم ثقة العديد من القوى في “صنع الله” الذي يدير المؤسسة بمركزية كاملة.
2- انتشار الهشاشة الأمنية: لا توجد مؤسسات أمنية لديها القدرة على فرض الأمن والانضباط بشكل عام في ظل هيمنة الفصائل المسلحة، بل إن أغلب الأجهزة الأمنية هي واجهات لفصائل مسلحة، وأبرزها جهاز دعم الاستقرار الذي دعت اللجنة العسكرية إلى حله دون استجابة حكومية لهذا الأمر. صحيح أن هذه الأجهزة تحصل على رواتبها من الحكومة عبر المصرف المركزي، لكنها تتجه إلى الضغط على مؤسسة النفط أحياناً للحصول على مكاسب جديدة -وخصوصاً إدارية- لتعيين شخصيات أو إزاحة آخرين.
3- إدارة التوترات المستدامة: واقعياً، لا ترى الأطراف الرئيسية المتحكمة في هذا الملف أن هناك أزمة إلا حينما تتعطل عملية الإنتاج، أما باقي الملفات فغالباً ما ينظر إليها على أنها ملفات هامشية تجري في السياق الليبي العام، فالتوترات الأمنية هي توترات مستدامة بطبيعة الحال، والاستقطاب السياسي هو أمر قائم وليس مستجداً، وحتى التوترات ذات البعد الاجتماعي يتم التعامل معها بقرارات سياسية، أو يتم تجاهلها أو تأجيلها بوعود؛ وبالتالي يسود منطق إدارة التوتر.
تجاوز التعثرات
في الحاصل الأخير، يمكن القول إنأي سيناريو مستقبلي بشأن الملف النفطي مرتبط بحالة الاستقرار السياسي إذا ما تمكّنت ليبيا من تجاوز التعثرات الحالية سوف ينعكس إيجابياً على الملف النفطي، مع الوضع في الاعتبار عدة نقاط أساسية:
1- قد تؤدي حالة عدم الاستقرار السياسي، في حالة عدم إجراء الانتخابات أو عدم القبول بنتائجها والعودة مرة أخرى إلى مربع الانقسام، إلى تداعيات صعبة، خاصة إذا ما تم استثمار حالة الهشاشة الأمنية، حينئذ يُتوقع بروز الملف النفطي كأبرز ملفات الأزمة الليبية، وربما ستسعى جهات وفصائل للسيطرة على مصادر النفط مرة أخرى.
2- قد تؤدي حالة الضيق الاجتماعي لدى بعض القواعد الاجتماعية كالقبائل إلى توجيه فائض الغضب والنقمة من السياسات التي تتبعها الأطراف المتصارعة إلى المنشآت النفطية، وبالتالي ستتوالى عمليات وقف الإنتاج أو الاضطرابات الأمنية.
3- استمرار حالة ضعف المؤسسة الأمنية في ظل تحكم المليشيات سوف يزيد من عامل الفوضى المتوقعة، وستنعكس في العديد من المظاهر، ومنها زيادة عمليات اختطاف العاملين في المجال النفطي كورقة للمساومة من جانب الفصائل المسلحة. وحتى الآن لا تزال هذه العمليات مرتبطة بأشخاص محليين، لكنها قد تتحول تدريجياً مع الوقت إلى توسيع دائرة الاستهداف للعمال الأجانب أو موظفي الشركات الأجنبية، وبالتالي فالصراع حتى الآن في هذا السياق لا يزال محلياً، بالنظر إما إلى صراعات على وظائف إدارية، أو الضغط من أجل تغيير سياسات إدارة قطاع النفط.
4- استمرار الاستحواذ الجهوي، مع غياب التمثيل العادل في المؤسسات النفطية، قد يقود إلى عملية انفجار اجتماعي، وهي مسألة أصبحت شائعة، ويمكن النظر إلى موقف نائب رئيس الحكومة من إعادة تشكيل “الدبيبة” لمجلس إدارة شركة الاتصالات على أنه مقدمة أيضاً لموقف مماثل تجاه مؤسسة النفط التي يشكل بقاء “صنع الله” فيها