دلالات التوقيت:
لماذا تتجنب واشنطن تصعيد “الخلاف النووي” مع طهران؟

دلالات التوقيت:

لماذا تتجنب واشنطن تصعيد “الخلاف النووي” مع طهران؟



رغم أن التقرير الأخير الذي أصدرته الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في 10 فبراير الجاري، أشار إلى ارتفاع كمية اليورانيوم المخصب التي تمتلكها إيران لتصل إلى أكثر من 5500 كيلوجرام، إلا أنه لا يتوقع أن يتخذ مجلس محافظي الوكالة، في اجتماعه القادم الذي سيُعقد خلال الفترة من 4 إلى 8 مارس المقبل، خطوة تصعيدية كبيرة ضد إيران.

هنا، فإن عامل التوقيت يكتسب أهمية خاصة، نظراً لانشغال الأطراف المعنية بهذا الملف الحيوي، في المرحلة الحالية، بملفات داخلية وإقليمية ودولية عديدة تدفعها إلى ضبط مستوى التصعيد المتبادل، وربما الحفاظ على سقف محدد من الخطوات والخطوات المضادة، تجنباً لتفاقم الأزمة على نحو قد لا يتسامح مع مصالح وحسابات تلك الأطراف، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية وإيران.

دوافع عديدة

يُمكن تفسير أسباب حرص واشنطن وطهران حالياً على تجنب تصعيد حدة الخلاف حول الملف النووي في ضوء دوافع عديدة يتمثل أبرزها في:

1- خفض الكمية “الخطرة” من اليورانيوم: ما زالت إيران حريصة على مواصلة تخفيض مستوى التزاماتها في الاتفاق النووي، عبر زيادة كمية اليورانيوم المخصب بنسب مختلفة، إلى درجة وصلت معها إلى 27 ضعف الكمية التي قضى الاتفاق النووي الذي توصلت إليه إيران ومجموعة “5+1” في 14 يوليو 2015 (قبل أن تنسحب منه الولايات المتحدة الأمريكية في 8 مايو 2018) بأن تحتفظ إيران بها وهي 202.8 كيلوجرام.

لكن رغم ذلك، كان لافتاً أن الكمية “الخطرة” الخاصة باليورانيوم المخصب بنسبة 60% التي تُقرب إيران بشكل كبير من نسبة الـ90% اللازمة للوصول إلى مرحلة إنتاج القنبلة النووية؛ تراجعت، بحسب ما جاء في التقرير الأخير، بنحو 6.8 كيلوجرام. صحيح أن ذلك لا ينفي أن إيران لديها من اليورانيوم المخصب بنسبة 60% ما تستطيع من خلاله- إذا ما أرادت ذلك- أن تصل إلى نسبة الـ90% ومن ثم الانخراط في عملية إنتاج أكثر من قنبلة نووية، لكن الصحيح أيضاً أنَّ تعمُّدَ إيران تخفيض الكمية يوحي بأنها تسعى إلى تقليص حدة التصعيد مع الدول الغربية، أو عدم استفزاز الأخيرة، لدرجة قد تدفعها إلى تبني خطوات أكثر تصعيداً في اجتماع مجلس محافظي الوكالة القادم.

2- الاحتفاظ بخيار “الصفقة المحتملة”: ربما لا ينفصل تخفيض إيران كمية اليورانيوم المخصب بنسبة 60% عن محاولاتها الحفاظ على خيار “الصفقة” مع إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، بعد انتهاء الحرب التي تشنها إسرائيل في قطاع غزة، وفي حالة نجاح الأخير في الفوز بالانتخابات الرئاسية الأمريكية التي سوف تجري في 5 نوفمبر القادم.

وهنا، فإن المقاربة الأكثر ترجيحاً تتمثل في حرص إيران على تخفيض كمية اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، مع الاستمرار في عمليات التخصيب بنسب مختلفة، مقابل التزام أمريكي بعدم التصعيد نووياً ضد إيران على الأقل في المرحلة الحالية؛ حيث قد تتولى الدول الأوروبية (بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا) مهمة توجيه انتقادات أكثر شدة ضد إيران بسبب إمعانها في مواصلة تخفيض مستوى التزاماتها في الاتفاق النووي رداً على الانسحاب الأمريكي منه.

3- مواصلة سياسة “فصل الملفات”: تُبدي إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن أولوية قصوى في الفترة الحالية لعدم توسيع نطاق الصراع الحالي الذي فرضته الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، وتأمين القواعد والمصالح الأمريكية في العراق وسوريا بعد الهجمات التي تعرضت لها من جانب المليشيات الموالية لإيران والتي بلغت نحو 170 هجوماً، ودفع المليشيا الحوثية إلى وقف الهجمات التي تشنها ضد السفن المارة في البحر الأحمر، والتي وصلت إلى 60 هجوماً منذ 19 نوفمبر الماضي.

من هنا، فإن واشنطن لا تبدو في وارد المغامرة بفتح جبهة تصعيد جديدة ومباشرة مع إيران في الوقت الحالي، على نحو يمكن أن يؤدي إلى إرباك حساباتها السابقة، ويدفع المليشيات الموالية للأخيرة إلى توسيع ساحة المواجهات العسكرية مع إسرائيل، ورفع مستوى التهديدات الموجهة إلى القواعد الأمريكية في العراق وسوريا، ومواصلة تهديد حركة التجارة في البحر الأحمر.

ويعني ذلك أن واشنطن تبدو معنية في الوقت الحالي بردع إيران ووكلائها عن مواصلة سياساتهم القائمة على استهداف مصالحها وقواعدها العسكرية، وممارسة ضغوط أكبر عليها للتحرك من أجل الوصول إلى وقف لإطلاق النار في قطاع غزة، أكثر من الانخراط في تصعيد متبادل مع إيران حول الملف النووي، الذي يبدو ملفاً مؤجلاً إلى حين توافر ظروف أخرى من أجل حسمه.

4- تجنب تعزيز “قبضة” الأصوليين: ترى اتجاهات في الولايات المتحدة الأمريكية أن اتخاذ مزيدٍ من الإجراءات التصعيدية ضد إيران، في الوقت الذي تتعرض فيه الأخيرة لضغوط بسبب استمرار الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة وتصاعد حدة الضربات التي يتعرض لها وكلاؤها في لبنان وسوريا والعراق واليمن، يمكن أن يساهم في تعزيز قبضة تيار المحافظين الأصوليين، وبالتالي منحه الفرصة للضغط من أجل تبني سياسة أكثر تشدداً في التعامل مع الملفات الإقليمية المختلفة أو الملف النووي، على نحو قد لا يكون متوافقاً بالضرورة مع حسابات واشنطن في المرحلة القادمة.

وربما تكون انتخابات مجلس الشورى الإسلامي ومجلس خبراء القيادة، التي سوف تُجرَى في أول مارس القادم، محط متابعة وتقييم من جانب تلك الاتجاهات، ليس لجهة استشراف توازنات القوى السياسية في المرحلة القادمة، والتي يبدو أنها تميل لصالح تيار المحافظين الأصوليين؛ وإنما لجهة رصد وتقييم رد فعل الشارع السياسي الإيراني تجاه تلك الاستحقاقات والتي ترتبط بمدى رضائه عن السياسة التي يتبناها النظام في التعامل مع القضايا الداخلية والخارجية في آن واحد.

توافقات هشة

مع ذلك، تبدو تلك التوافقات غير المباشرة بين واشنطن وطهران هشة ومعرضة لاختبارات صعبة في المرحلة القادمة. إذ إن استمرار الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة وما يرتبط بها من تصعيد على جبهات مختلفة كفيل بإحداث تغييرات محتملة ومفاجئة في أنماط تفاعلات الطرفين مع تلك التطورات، خاصة في حالة ما إذا وقعت أخطاء جديدة في الحسابات على غرار الضربة التي تعرضت لها القاعدة الأمريكية في شمال شرق الأردن، في 28 يناير الفائت، والتي دفعت واشنطن إلى اتباع نهج أكثر تشدداً في التعامل مع تهديدات طهران ووكلائها. إذ إن ارتكاب مزيدٍ من الأخطاء قد يغير الحسابات ويدفع ملفات أخرى خلافية، على غرار الملف النووي، إلى الواجهة من جديد.