تنطلق معظم الاحتجاجات التي تشهدها إيران من المناطق الطرفية ثم تنتقل إلى المحافظات الأخرى حتى تصل إلى العاصمة طهران. ويمكن تفسير ذلك في ضوء أسباب عديدة، يتمثل أبرزها في حرص النظام على منح الأولوية لتأمين العاصمة، وتصاعد الأزمات المعيشية في المناطق الطرفية، وتزايد تأثير الجماعات العرقية المسلحة التي تستخدم الحدود مع الدول الأخرى لشن هجمات ضد النظام وأجهزته وقواته المسلحة.
إن أهم ما يميز الاحتجاجات الحالية التي دخلت أسبوعها الثالث في إيران هو أن الأقاليم والمحافظات الطرفية كان لها دور بارز في اندلاعها واستمرارها، رغم وصولها إلى العاصمة طهران. ومع أن ذلك قد لا يعبر عن خاصية جديدة تتسم بها هذه الاحتجاجات أو تفرد لها نوعاً من التفردية عن مثيلاتها من الاحتجاجات السابقة، على غرار احتجاجات 2017 و2019؛ فإن ما يُضفي أهمية خاصة على تركزها في الأطراف خلال الاحتجاجات الحالية هو أنه تخللتها تحركات مسلحة من جانب بعض الجماعات المحسوبة على القوميات الإيرانية، خاصة في مناطق الأكراد والبلوش.
فقد كان لافتاً أنه مع تجاوز الاحتجاجات أسبوعها الثاني، بدأت تتصاعد حدتها في منطقة سيستان بلوشستان، حيث وقعت أحداث عنف في مدينة زاهدان خلال صلاة الجمعة، أسفرت -حسب بعض التقارير- عن مقتل 19 شخصاً، من بينهم قائد استخبارات الحرس الثوري في المنطقة علي موسوي، وأحد قواد حركة “جيش العدل” عبدالمجيد ريجي، بحسب ما تشير إليه بعض تقارير الوكالات التابعة للحرس الثوري.
ومن دون شك، فإن ذلك لا يعني أن العاصمة طهران لم يكن لها دور في اندلاع أو استمرار الاحتجاجات الحالية أو السابقة، وإنما يعني أولاً أن الاحتجاجات انطلقت من الأطراف، وأن القبضة الأمنية للنظام تركز في المقام الأول على احتواء الاحتجاجات في العاصمة قبل هذه الأطراف نظراً للأهمية الاستراتيجية التي تحظى بها العاصمة.
دوافع عديدة
يمكن تفسير تصاعد دور الأطراف في الاحتجاجات الإيرانية في ضوء دوافع عديدة تتمثل في:
1- تراجع الأوضاع المعيشية في الأقاليم: إذا كانت إيران بشكل عام تعاني من أزمة اقتصادية واجتماعية بسبب تصاعد تأثير العقوبات الأمريكية وفشل الحكومات المتعاقبة في التعامل معها، فإن حدة هذه الأزمات تبقى أكبر في المناطق الطرفية والأقاليم مقارنة بالعاصمة طهران. وبالطبع، فإن ذلك يعود إلى أن المسألة لا تتعلق فقط بارتفاع مستويات التضخم والبطالة؛ وإنما تتصل بتراجع القدرة على تقديم الخدمات المعيشية من مياه وكهرباء وغيرها، على نحو يمكن أن يفسر -إلى حد كبير- أسباب اندلاع احتجاجات متقطعة في الشهور الماضية في بعض المناطق، مثل الأحواز وأصفهان وغيرها، نتيجة نقص المياه العذبة وانقطاع الكهرباء، أو تحويل مجرى الأنهار كما يجري في إقليم الأحواز. فعلى سبيل المثال، شهدت بعض مدن الإقليم (مثل: المحمرة، والخفاجية، ومعشور، والفلاحية)، في 16 يوليو 2021، احتجاجات بسبب اتهام المواطنين للنظام بالعمل على تحويل مجرى نهر كارون لصالح محافظات أخرى، ومن ثمّ الإخلال بالتركيبة السكانية في مناطق الأحواز باعتبار أن ذلك سوف يدفع مواطنيها إلى الانتقال إلى محافظات أخرى على نحو يمكن أن يُقلل من تأثير وجود القومية العربية فيها.
2- حرص النظام على تحصين العاصمة: يُبدي النظام الإيراني أهمية خاصة لبعض المدن الرئيسية، ولا سيما العاصمة طهران، حيث مقر الحكم الرئيسي، وكلاً من قم ومشهد، نظراً لوجود أماكن دينية بهما، على غرار ضريح الإمام الشيعي الثامن علي الرضا في مدينة مشهد، إلى جانب ضريح أخته السيدة المعصومة في مدينة قم. وهنا، فإن النظام يعتبر أن طهران تحديداً لا بد أن تحظى بأهمية فائقة، فهي مركز الثِّقل الرئيسي في أية تغييرات جذرية قد يشهدها أي نظام حاكم، على غرار ما حدث في عام 1979. وربما من هنا يمكن تفسير أسباب اهتمام النظام بقمع الاحتجاجات التي اندلعت في عام 2009، والتي قادتها ما يسمى بـ”الحركة الخضراء”، حيث قادتها العاصمة طهران وانتشرت وسط الطبقة الوسطى، على نحو اعتبره النظام مصدر تهديد لبقائه، وهو ما دفعه إلى التدخل بقوة لقمعها وفرض قيود شديدة على قادتها، ولا سيما مير حسين موسوي ومهدي كروبي، اللذين ما زالا يخضعان للإقامة الجبرية حتى الآن إلى جانب زهرا راهناورد زوجة موسوي.
3- تزايد تأثير الجماعات المسلحة في المناطق الحدودية: كان لافتاً في الاحتجاجات الحالية أن الجماعات المسلحة برز لها دور واضح، خاصة في منطقة سيستان بلوشستان، إلى جانب منطقة كردستان. ويقوم النظام حالياً بشن حملة لتشويه تلك الجماعات، حيث وجّه ضربات بواسطة صواريخ باليستية وطائرات من دون طيار ومدافع ضد مواقع الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني في شمال العراق. كما يقوم حالياً بالترويج إلى أن جماعة “جند الله” تنفذ عمليات سرقة ونهب في شوارع زاهدان. وهنا، فإن ذلك يعني أن النظام ربما يخشى من إمكانية تدخل تلك الجماعات في الاحتجاجات الحالية أو التي يمكن أن تندلع في المستقبل، على نحو يُوحي بأنه ربما يشن حملة عسكرية قوية ضد مواقع جماعة “جند الله” خلال الفترة القادمة، على غرار ما حدث في شمال العراق.
وبالطبع، فإن النظام في هذه اللحظة لا يستبعد أن تكون تلك الجماعات المسلحة تحصل على دعم خارجي، وهي الآلية الجديدة التي ربما يرى أن إسرائيل قد تعمد إلى استخدامها، بعد الاختراقات الأمنية التي قامت بها في الفترة الماضية، واستهدفت المنشآت النووية والصاروخية والعلماء النوويين والقادة العسكريين.
4- الرد على ادّعاء النظام بانتهاء الاحتجاجات: تصاعدت حدة الاحتجاجات في منطقة سيستان بلوشستان، بعد يوم واحد من إعلان محافظ طهران محسن منصوري “انتهاء الاضطرابات”، وتأكيده أن طهران “أصبحت آمنة تماماً بعد ليالٍ متتالية”. وهنا، فإن تجدد الاحتجاجات في المناطق الطرفية قد يكون -في قِسم منه- محاولة للرد على ادعاءات النظام بإنهاء الاحتجاجات. وربما يعبر ذلك عن تكتيك جديد يتبناه المحتجون، ويهدفون من خلاله إلى إنهاك قوى وأجهزة الأمن، عبر تنظيم مظاهرات في مناطق متفرقة وفي أوقات مختلفة، على نحو يوحي بأن قسماً من المحتجين ربما يحاول الاستفادة من دروس احتجاجات 2009 و2017 و2019.
مكامن الخطر
يمكن القول إن تحوّل المناطق الطرفية دائماً إلى نقطة انطلاق للاحتجاجات قد يمثل خطراً على النظام في المرحلة القادمة؛ إذ إنّ منحه الأولوية لتأمين العاصمة قد لا يكون هو الآلية التي يمكن من خلالها التعامل مع أية احتجاجات جديدة، فضلاً عن أنّ وجود القوميات الإيرانية المختلفة على الحدود مع دول الجوار، وتشابكها عرقياً مع تلك الدول، قد يمثل “ثغرة أمنية” خطيرة بالنسبة للنظام.
ومن دون شك، فإن النظام يُدرك أن بعض الثورات التي اندلعت في العديد من الدول العربية بداية من العقد الماضي، انطلقت من المناطق الطرفية، وأهمها سوريا، حيث انطلقت الثورة من درعا ثم انتقلت تدريجياً إلى المحافظات الأخرى.
ورغم أن نجاح النظام السوري، بمساعدة حلفائه من روسيا وإيران والمليشيات الشيعية التي قامت بنقلها إلى داخل الأراضي السورية، في الاحتفاظ بسيطرته على العاصمة دمشق؛ كان له دور في تغير توازنات القوى على المدى البعيد لصالحه، فإن ذلك لا ينفي -في الوقت ذاته- أن ما حدث كانت تكلفته باهظة على النظام، حيث تحولت سوريا إلى ساحة لنفوذ العديد من القوى الإقليمية والدولية، مثل إيران وروسيا وتركيا والولايات المتحدة، كما أن ثمة استحقاقات صعبة ما زالت في انتظار النظام، على غرار عمليات إعادة الإعمار وقضايا اللاجئين والنازحين، والأهم من ذلك نفوذ المليشيات الشيعية التي ما زالت تمارس مهامها على الأراضي السورية.