ضغوط كثيفة:
لماذا استهدفت واشنطن قطاع الطائرات التركية المسيرة؟

ضغوط كثيفة:

لماذا استهدفت واشنطن قطاع الطائرات التركية المسيرة؟



وقّعت إدارة بايدن، في 27 ديسمبر الفائت، على مشروع قانون للدفاع يسمح للحكومة الأمريكية بتتبع وتقييم الآثار المترتبة على الأمن القومي الأمريكي فيما يتعلق بتوسّع برنامج الطائرات بدون طيار في تركيا. كما يسمح القانون لوزارتي الخارجية الأمريكية والبنتاجون بالإبلاغ عن صادرات الطائرات بدون طيار التركية منذ عام 2018 وما إذا كانت تلك الطائرات تحتوي على أجزاء أو تكنولوجيا صنعتها شركات أمريكية. ويُعد هذا الإجراء استكمالاً لعقوبات أمريكية على قطاع الصناعات الدفاعية التركية، لكنها المرة الأولى التي تستهدف صناعة الطائرات المسيرة، على نحو يوحي بأن واشنطن تسعى في المرحلة المقبلة إلى رفع مستوى محاصرة القطاع العسكري التركي، وتوسيع مساحات الخلاف مع أنقرة.

دعم واسع

طالب عدد واسع من النواب الأمريكيين في الفترة الماضية بضرورة تدخل الإدارة الأمريكية لمراقبة ومحاصرة برامج تركيا العسكرية، وبخاصة الطائرات المسيرة، حيث أبدى 27 نائباً من أعضاء الكونجرس في أغسطس الماضي، مخاوفهم من برنامج الطائرات المسيرة التركية، وطالب الأعضاء وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بتعليق تصاريح التصدير العسكري لتركيا إلى حين التأكد من أن برنامج الطائرات المسيرة التركية خالٍ من أي تكنولوجيا أمريكية. وفي سياقٍ موازٍ، قدم رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي بوب منينديز في نوفمبر الماضي، مشروع قانون من أجل مراقبة برنامج المسيرات التركية المسلحة عن كثب.

الإجراءات الأمريكية لمحاصرة قطاع الدفاعات التركية لم تقتصر على ذلك، ففي ديسمبر 2020 جاءت عقوبات الرئيس الأمريكي السابق ترامب على إدارة الصناعات الدفاعية التركية في ظلّ توافق داخل الكونجرس، وإعمالاً للمادة 231 من القانون الفيدرالي لمكافحة أعداء أمريكا “كاتسا”، بسبب حصولها على منظومة الدفاع الصاروخية الروسية S400، وتضمنت فرض حظرٍ على منح تراخيص أو تصاريح التصدير الأمريكية لإدارة الصناعات الدفاعية التركية، وتجميد الأصول الخاصة بمديرها، وثلاثة أفراد آخرين مرتبطين بإدارة الصناعات الدفاعية التركية.

مغزى التوقيت

يأتي قرار بايدن بمراقبة الصادرات التركية من الطائرات المسيرة في سياق تصاعد الخلافات بين البلدين، وآخرها في نهاية أكتوبر الماضي، حيث رفضت واشنطن التجاوب مع طلب تركي للحصول على 40 طائرة قتالية من نوع F16، والمساعدة في تحديث حوالي 80 من هذه الطائرات التي يملك الجيش التركي أكثر من 200 نموذج منها. وربما يمكن القول إن إدارة بايدن اختارت توقيت محاصرة قطاع الطائرات التركية المسيرة لاعتبارات رئيسية، تتمثل في:

1- انخراط المسيرات في مناطق الصراع وإثبات النفوذ: لا ينفصل قرار إدارة بايدن بشأن محاصرة صادرات تركيا من الطائرات المسيرة عن تصاعد انخراط أنقرة خلال الفترة الماضية في الملفات الإقليمية المختلفة، وفي الصدارة منها الصراعات السياسية عبر توفير الإمدادات العسكرية، وبخاصة الطائرات المسيرة لأطراف بعينها، وهو ما ظهر في دعم حكومة الوفاق الليبي في العام 2019 خلال مواجهاتها مع قوات شرق ليبيا، ودعم حكومة أذربيجان في عام 2020 ضد أرمينيا، وأخيراً تقديم دفعة من الطائرات المسيرة لحكومة أديس أبابا خلال نوفمبر الماضي لحسم حربها مع قوات تيغراي.

النجاحات التي حققتها الطائرات المسيرة التركية غيرت خارطة الصراعات في إقليم الشرق الأوسط، وكذلك طريق الطموحات الجيوسياسية في منطقة جنوب ووسط آسيا، كما زادت من ثقة أنقرة في تعاملاتها مع حلفاء الولايات المتحدة شرق المتوسط، أي قبرص واليونان بشأن النزاعات الإقليمية على مكامن الطاقة شرق المتوسط وبحر إيجه. هنا، يمكن فهم قلق واشنطن، خاصة أن هذه النجاحات وفرت بيئة خصبة لتحرير تركيا من القيود التنظيمية التي كانت تفرضها الولايات المتحدة على تركيا بشأن الحصول على المسيرات الأمريكية، ناهيك عن أن أنقرة باتت تتبنى سياسة الباب المفتوح والبيع لأي دولة لديها المال لشراء المسيرات التركية. كما زادت وتيرة المخاوف الأمريكية بعد تأكيد الرئيس التركي مطلع عام 2021 أن بلاده تلقت طلبات من دول أوروبية لشراء طائرات مسيرة تركية، بينها سخ من الطائرات “درونز”، و”بيرقدار”، و”العنقاء”.

2- مضاعفة الضغوط على قطاع الصناعات الدفاعية: تزامن تمرير الرئيس بايدن مشروع قانون مراقبة وتتبع وتقييم الآثار المحتملة لبرنامج الطائرات التركية المسيرة على الأمن القومي الأمريكي، مع إعلان رئيس الصناعات الدفاعية التركية إسماعيل دميرال، في 25 ديسمبر الماضي، أن منظومة الدفاع الجوي التركية “حصار” أنهت جميع تجاربها بنجاح، وأصبحت مستعدة للخدمة. ويمكن للمنظومة تدمير الطائرات الحربية والطائرات المسيرة والمروحيات والصواريخ الباليستية، وسيتم استخدامها لحماية المنشآت الاستراتيجية التركية. في هذا السياق، ربما سعت إدارة بايدن من خلال التوجه نحو مراقبة المسيرات التركية إلى إضعاف قطاع صناعات الدفاعات التركية، وتكثيف الضغوط عليه، وهو ما انعكس في طلب مشروع القانون الذي وقّعه بايدن في 27 ديسمبر الماضي من وزارة الخارجية تحديد ما إذا كانت صادرات تركيا تمثل انتهاكاً لقانون مراقبة تصدير الأسلحة.

والأرجح أن مشروع القانون الأخير الذي وقّعه بايدن لم يكن الأول من نوعه في سياق محاصرة الصناعات الدفاعية التركية، ففي 15 ديسمبر 2021 اتخذت الإدارة الأمريكية سلسلة من القيود على الشركات في تركيا، حيث أدرجت وزارة التجارة الأمريكية بعض الشركات في تركيا وجورجيا وماليزيا في القائمة السوداء بدعوى توريد أو محاولة توريد منتجات أمريكية المنشأ لتقديم الدعم المالي لصناعة الدفاع الإيرانية، واعتبرت الوزارة -في بيان لها- أن هذه الإجراءات تنتهك قواعد مراقبة الصادرات الأمريكية.

3- الفشل في تجاوز القضايا الخلافية: يشير توقيع الرئيس الأمريكي جو بايدن على مشروع قانون لمراقبة وتتبع صادرات تركيا من الطائرات المسيرة إلى استمرار الملفات الشائكة بين البلدين، واتساع مساحة التوتر بينهما، حيث لم تفلح المحادثات المباشرة التي جرت بين أردوغان وبايدن على هامش قمة الناتو في بروكسل في يونيو الماضي، وكذلك اللقاء الذي جمعهما في أكتوبر الماضي على هامش قمة العشرين بروما، في تحقيق انفراجة كبيرة في العلاقات.

والأرجح أن ثمة قضايا خلافية كبرى بين أنقرة وواشنطن، في الصدارة منها استمرار معارضة واشنطن حصول تركيا على منظومة الصواريخ الروسية إس-400، كما ترفض واشنطن مطالب تركية متكررة بتسليم رئيس حركة “خدمة” فتح الله غولن، الذي يتهمه الرئيس أردوغان بتدبير الانقلاب الفاشل في صيف 2016. كما يستمر مناخ الشحن بين البلدين بسبب رفض الرئيس التركي للدعم الأمريكي لأكراد سوريا، وبخاصة قوات سوريا الديمقراطية “قسد” التي تصنفها أنقرة إرهابية، وتعتبرها امتداداً لحزب العمال الكردستاني. كما بلغ التوتر ذروته بعد خذلان واشنطن الرئيس التركي باصطفافها إلى قبرص واليونان في أزمة شرق المتوسط.

4- تصاعد حدة الاحتقان في الداخل التركي: لا يمكن فصل مساعي واشنطن لمحاصرة قطاع المسيرات التركية التي أثبتت نجاحات هائلة في عدد واسع من الصراعات الإقليمية، عن تصاعد حالة الاحتقان في الداخل التركي بسبب التدهور الحادث في سعر صرف العملة التركية “الليرة”، وتراجع مؤشرات الاقتصاد، ناهيك عن الضغوط السياسية التي تمارسها المعارضة على الرئيس التركي بضرورة إجراء انتخابات مبكرة.

من هنا، يمكن القول إن الولايات المتحدة تحاول من خلال ذلك التأثير على المشهد السياسي التركي الحالي، وتوجيه رسالة إلى المعارضة التركية في الداخل مفادها أن تركيا ربما تشهد مزيداً من التوتر في علاقاتها الخارجية، وبخاصة مع واشنطن بسبب سياسات الرئيس التركي، وأن واشنطن قد تكون أكثر انفتاحاً على خصوم أردوغان، خاصة أن بايدن سبق وأن وبخ الممارسات السلطوية للرئيس “أردوغان” في الداخل التركي، وانتقد سعيه لتأميم المجال العام وتقييد الحريات. ففي مقابلة له مع صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية في ديسمبر 2019، أكد “بايدن” على ضرورة دعم المعارضة التركية حتى تتمكن من الإطاحة بـ”أردوغان” الذي وصفه بـ”المستبد”.

تحدٍّ إضافي

في الختام، يمكن القول إن توقيع الرئيس بايدن على مشروع قانون لمراقبة وتتبع صادرات تركيا من الطائرات المسيرة قد يُشكل تحدياً إضافياً على مسارات العلاقة المتوترة بين البلدين. غير أن براجماتية تركيا قد تدفعها إلى انتهاج مرونة لاحتواء تداعيات هذا القانون، وضبط حدود التوتر مع واشنطن بالنظر إلى المصالح المعقدة والمتشابكة، وتجلى ذلك في تصريحاتالمتحدث باسم الرئاسة التركية، الذي أشار في 30 ديسمبر الماضي إلى أن بلاده بعثت برسالة إلى واشنطن بشأن إنشاء وتشغيل آلية تتعلق بمعالجة القضايا الخلافية في العلاقات بين البلدين، وأكد قالن أن العلاقة بين البلدين متجذّرة ولها تاريخ طويل، وأنهما حليفان في “الناتو”.