إدارة الصراع:
لماذا استهدفت قاعدة التنف في سوريا مجدداً؟

إدارة الصراع:

لماذا استهدفت قاعدة التنف في سوريا مجدداً؟



تعرّضت قاعدة التحالف الدولي في منطقة التنف شرق سوريا لهجوم جديد، في 20 يناير الجاري، بواسطة طائرات مسيرة مجهولة الهوية، أسفر عن وقوع إصابات في صفوف ما يسمى بـ”قوات جيش سوريا الحرة” (جيش مغاوير الثورة سابقاً). ورغم أن استهداف قاعدة التنف ليس الأول من نوعه، حيث سبق ذلك هجوم عن بُعد ضد القاعدة في 15 أغسطس الماضي، وهجوم آخر بــ5 مسيرات في 20 أكتوبر الماضي، وصفته القيادة المركزية الأمريكية بأنه “هجوم متعمد ومنسق”، فإن توقيت الاستهداف الأخير يثير تساؤلات عديدة، لا سيما أنه يتزامن مع تصاعد حدة الخلافات بين الولايات المتحدة الأمريكية والعديد من القوى الدولية والإقليمية، وتحديداً روسيا وإيران، حول بعض الملفات، على غرار الحرب الأوكرانية وتعثر المفاوضات النووية.

تطورات مترابطة

كان لافتاً أن الهجوم الأخير توازى مع تطورات بارزة طرأت على الساحتين الإقليمية والدولية، ويتوقع أن يكون لها تأثير مباشر على الترتيبات السياسية والأمنية التي يجري العمل على صياغتها خلال المرحلة القادمة. إذ جاء بعد اللقاءات الأخيرة التي جمعت مسئولين عسكريين وأمنيين من تركيا وسوريا برعاية روسية، على نحو أثار استياءاً واضحاً من جانب إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، التي أعلنت على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية نيد برايس، أكثر من مرة، رفضها التقارب التركي مع النظام السوري، باعتبار أن ذلك يهدد مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) التي تعد حليف واشنطن الرئيسي في الحرب ضد تنظيم “داعش”.

كما أن الهجوم على القاعدة تزامن مع تصاعد الدعوات التي وجهتها الولايات المتحدة الأمريكية إلى حلفائها الغربيين، خلال الفترة الماضية، بضرورة تزويد أوكرانيا بتقنيات عسكرية متقدمة، إلى جانب إعلانها، في 19 يناير الجاري، عن تقديم حزمة جديدة من المساعدات العسكرية للأخيرة بقيمة 2.5 مليار دولار، تشمل مئات المركبات المدرعة من أنواع مختلفة.

ومن دون شك، لا يمكن فصل هذا الهجوم عن إقرار البرلمان الأوروبي، في 19 يناير الحالي، مشروع قانون يطالب الاتحاد الأوروبي بإدراج الحرس الثورى الإيراني وقوات “الباسيج” وفيلق القدس على قائمة المنظمات الإرهابية الأوروبية، وذلك في سياق تصاعد حدة التوتر في العلاقات بين إيران والدول الغربية، على خلفية الدعم العسكري الإيراني لروسيا في الحرب الأوكرانية، وإعدام نائب وزير الدفاع الإيراني الأسبق- الحاصل على الجنسية البريطانية- على رضا أكبري، فضلاً عن الدعم الغربي للاحتجاجات الداخلية في إيران.

أهداف رئيسية

على ضوء ذلك، يمكن القول إن الجهة المسئولة عن هذا الهجوم سعت عبره إلى تحقيق أهداف عديدة يتمثل أبرزها في:

1- الرد على الانخراط الأمريكي الكثيف في سوريا: يأتي هذا الهجوم، على الأرجح، في سياق الرد على التحركات الأمريكية الكثيفة على الساحة السورية، وآخرها عودة الولايات المتحدة الأمريكية إلى تعزيز حضورها ميدانياً على تلك الساحة، حيث أعلنت، في منتصف ديسمبر الماضي، عن الشروع في تأسيس أول قاعدة عسكرية لها بمدينة الرقة، وهو ما يشير إلى احتمال تكريس الوجود العسكري الأمريكي طويل الأمد في سوريا، بشكل يتعارض مع مصالح خصوم واشنطن الإقليميين والدوليين المنخرطين في المشهد السوري.

2- ممارسة ضغوط أقوى على واشنطن: ربما لا ينفصل الهجوم الأخير على قاعدة التنف- التي تمثل نقطة مركزية للوجود العسكري الأمريكي في سوريا- عن سعى بعض القوى، لا سيما إيران، إلى ممارسة ضغوط أقوى على واشنطن، في سياق المواجهة غير المباشرة التي تجري على الساحة السورية، بين إيران وإسرائيل، خاصة أن الأخيرة تحرص باستمرار على مهاجمة مواقع تابعة لإيران وحزب الله والنظام السوري، وكان آخرها استهداف مطار دمشق في 2 يناير الجاري، بشكل فرض، وفقاً للرؤية الإسرائيلية، تداعيات قوية على الوجود العسكري الإيراني في سوريا بشكل عام.

3- رفع كُلفة تعثر المفاوضات النووية: تتعرض المصالح الأمريكية في العراق وسوريا لهجمات من هذا النوع، بشكل دائم، مع تعثر المفاوضات النووية التي كانت تجري بين إيران والقوى الدولية، منذ أبريل 2021، وتوقفت في أغسطس 2022، على خلفية عدم الوصول إلى توافق حول المسودة التي طرحها مسئول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل. وهنا، فإن اتجاهات عديدة تشير إلى أن إيران ربما تحاول عبر ذلك رفع كُلفة الرفض الأمريكي للشروط التي تبنتها خلال المفاوضات، على غرار رفع العقوبات الأمريكية المفروضة عليها، وإزالة الحرس الثوري من قائمة التنظيمات الإرهابية التي تصدرها وزارة الخارجية الأمريكية.

4- مواجهة الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا: لا يمكن استبعاد أن يكون الهجوم الأخير محاولة لتشتيت الجهود الأمريكية على أكثر من ساحة، خاصة أنه يتوازى مع استمرار تحركات واشنطن لحشد الدول الغربية من أجل رفع مستوى الدعم العسكري الذي تقدمه لأوكرانيا، لمساعدتها على إدارة العمليات العسكرية مع روسيا. وتمثلت آخر مؤشرات هذا الدعم في إعلان ألمانيا، في 25 يناير الجاري، عن إرسال دبابات “ليوبارد 2” إلى أوكرانيا، بعد أن كانت تتحفظ في البداية على تقديم أسلحة ثقيلة إلى الأخيرة، وهو ما دفع روسيا إلى تأكيد أنها سوف تعتبر إطلاق قذائف من هذه الدبابة بمثابة “استخدام للنووي”. ومن دون شك، فإن ذلك يوحي بأن روسيا تتعمد التغاضي عن تلك الهجمات التي تستهدف الوجود العسكري الأمريكي في سوريا، في سياق إدارتها للمواجهة الواسعة مع الدول الغربية في أوكرانيا.

5- إثبات القدرة على تنفيذ عمليات نوعية: رغم الغموض الذي ما زال يكتنف هوية الجهة المسئولة عن تنفيذ الهجوم، إلا أن هذه الجهة حاولت عبر ذلك تأكيد قدرتها على تنفيذ عمليات نوعية تستهدف الحضور العسكري الأمريكي في سوريا، رغم كل الإجراءات التي تتخذها واشنطن لحماية هذا الوجود، وهو ما يعني أنه قد يتكرر في المستقبل، في حالة ما إذا توافق ذلك مع حسابات هذه الجهة، ورؤيتها لمسارات التطورات التي تشهدها الساحة السورية، أو المواجهات غير المباشرة بين العديد من القوى المنخرطة في تلك الساحة.

6- تقليص دور الفاعلين المحليين: قد يكون حلفاء واشنطن داخل سوريا، ولا سيما المليشيات الكردية، هم المستهدف الأهم من هذا الهجوم، على اعتبار أن الفترة القادمة ربما تشهد صياغة ترتيبات سياسية وأمنية جديدة قد تتعارض مع مصالحهم، خاصة في حالة الوصول إلى تفاهمات بين تركيا وسوريا، برعاية روسية، على نحو سوف يدفعهم إلى محاولة التحرك من أجل معارضة ذلك. وهنا، فإن هذا الهجوم يمثل أيضاً رسالة إلى حلفاء واشنطن بأن مصالحهم قد تتعرض للاستهداف في حالة ما إذا حاولوا عرقلة تلك التفاهمات المحتملة.  

تصعيد مستمر

في الختام،يمكن القول إن استهداف قاعدة التنف يأتي في ظل تحولات بارزة تشهدها الساحة السورية، فرضتها التحركات التي تقوم بها بعض القوى الدولية والإقليمية من أجل إعادة تشكيل خارطة التوازنات الداخلية وصياغة ترتيبات أمنية وسياسية تتوافق مع مصالحها في المقام الأول، وهو ما يعني أن هذا الهجوم ربما لن يكون الأخير، باعتبار أنه يمثل جزءاً من إدارة الصراع بين هذه القوى، لا سيما في ظل اتساع نطاق الخلافات فيما بينها حول العديد من الملفات المعنية بها أو المنخرطة فيها بشكل مباشر.