سجلت تركيا، في 28 فبراير الماضي، موقفاً نادراً، بعد تأكيدها على لسان وزير الخارجية مولود شاويش أوغلو، أنها ستمنع السفن الحربية للدول المشاطئة وغير المشاطئة للبحر الأسود من عبور مضيقي البوسفور والدردنيل. وتابع: “لقد أخطرنا جميع الدول المشاطئة وغير المشاطئة للبحر الأسود بألا ترسل سفنها الحربية لتمر عبر مضائقنا”. وأضاف أوغلو أن “قرار بلاده يأتي في سياق الالتزام بقواعد معاهدة مونترو 1936”. التصريحات التركية في هذا التوقيت لا تنفصل عن طلب كييف من أنقرة إغلاق ممراتها المائية ومجالها الجوي أمام روسيا، فضلاً عن كونها جاءت في خضم مسار متعثر للمصالحة مع واشنطن والاتحاد الأوروبي بسبب العديد من القضايا الخلافية، وفي الصدارة منها حصول أنقرة على منظومة الدفاع الروسية S400، ناهيك عن اتهام أوروبي للنظام التركي بتأميم المجال العام.
دوافع متعددة
تعود مسؤولية إدارة مضيقي البوسفور والدردنيل وقت الصراعات إلى تركيا بموجب معاهدة مونترو 1936، وقد استهدفت تركيا من وراء حظر الملاحة في البوسفور والدردنيل تحقيق عدد من الأهداف على النحو التالي:
1- تعزيز شرعية اتفاقية مونترو: يتمثل أحد المداخل التفسيرية لاتجاه أنقرة نحو حسم الجدل حول البوسفور والدردنيل، بإخطار الدول المشاطئة في البحر الأسود وغير المشاطئة -رسمياً- بأنها قررت منع عبور السفن الحربية في المضيقين، للتأكيد على أنها صاحبة الحق في إدارتهما، وتعزيز شرعية معاهدة مونترو، وظهر ذلك في تصريحات وزير الدفاع التركي “خلوصي أكار” الذي قال في 1 مارس الجاري، إن بلاده ستواصل تطبيق البنود 19 و20 و21 من اتفاقية مونترو للمضائق البحرية، مبيناً أن تآكل الاتفاقية “لن يعود بالفائدة على أحد”. وتعطي الاتفاقية لتركيا الحقوق الكاملة لممارسة سيادتها على البوسفور والدردنيل، فضلاً عن حقها في تقييد مرور السفن الحربية التي لا تتبع دول البحر الأسود، وكذلك الحق في منع مرور سفن الدول التي تكون معها في حالة حرب.
ويتزامن التوجه التركي مع تصاعد الجدل حول “مونترو”، ففي مقابل ضغوط غربية باتجاه تعديل الاتفاقية، من باب تقاعس تركيا عن تنفيذها بدقّة؛ لا تزال موسكو تُبدي تحفظاتها على هيمنة تركيا على البوسفور والدردنيل، وسعت في وقت سابق -إبان العهد السوفيتي- للضغط على تركيا للسماح لها بإنشاء قواعد بحرية وجيش على طول المضيق، بحجة أن القوات التركية لا تستطيع تأمينها بمفردها. كما عرض الزعيم السوفيتي السابق “جوزيف ستالين” على الرئيس التركي آنذاك “عصمت إينونو” السماح للاتحاد السوفيتي بإنشاء قاعدة عسكرية في بحر إيجه بالقرب من الحدود اليونانية.
2- تأكيد المكانة الاستراتيجية التركية لدى الغرب: لا ينفصل القرار التركي بحظر الملاحة في البوسفور والدردنيل عن رغبة أنقرة في توجيه إشارات للغرب بأن تركيا لا تزال تمثل نقطة الاستناد الاستراتيجية لتأمين مصالح الناتو، باعتبارها المدخل الأهم في محاصرة النفوذ الروسي. وظهر ذلك في توصيف أنقرة، في 27 فبراير الماضي، للأزمة الراهنة بين موسكو وكييف بأنها “حالة حرب”. وحيث إن تركيا تعلم أن خطوة إغلاق المضيقين ستكون مرضية لأوكرانيا والناتو، الذي سيعتبر أن أنقرة اتخذت ما يتوجب عليها في دعم مطالب الحكومة الأوكرانية؛ فقد سعت أنقرة إلى توظيف الأزمة الأوكرانية لتسجيل نقاط دبلوماسية في ملفاتها الشائكة مع واشنطن وأوروبا بعد سنوات من التوتر، حيث أعلنت وسائل إعلام تركية في 28 فبراير الماضي أن مستشار الرئيس التركي إبراهيم قالن ناقش مع مستشار الأمن القومي الأمريكي خلال اتصال هاتفي الأزمة الأوكرانية. كما أعلن وزير الخارجية الأمريكي، في 28 فبراير، عن تقديره لتركيا لتطبيقها اتفاقية مونترو، ووجه شكره لتركيا على دعمها القوي في الدفاع عن أوكرانيا وسيادتها وسلامة أراضيها.
في المقابل، تراهن أنقرة على توظيف الأزمة الأوكرانية في إفشال نظرية الأمن الأوروبي التي تبنتها أوروبا منذ انتهاء الحرب الباردة، وتراجعت فيها مكانة أنقرة بعد زوال الخطر السوفيتي. في هذا السياق، ربما أرادت عبر الإعلان عن مضيقي البوسفور والدردنيل، بعد تعالي صوت انفجارات القنابل وجنازير الدبابات عبر الحدود في أوكرانيا، إعادة التأكيد على أن تركيا نقطة حاكمة ومفصلية في الأمن الأوروبي، ومن ثم دفع واشنطن ومعها الشركاء الأوروبيون خلال المرحلة المقبلة نحو تعزيز الوضع الدفاعي في تركيا.
3- طمأنة الحليف الأوكراني: وهو ما تعكسه المواقف التركية تجاه الأزمة، حيث اعتبرت تركيا أن هناك حالة حرب بين روسيا وأوكرانيا، واتجهت نحو إغلاق البوسفور والدردنيل. كما اعتبرت في وقت سابق الهجوم الروسي على أوكرانيا ضربة قاصمة للسلام. والأرجح أن إغلاق البوسفور والدردنيل لا ينفصل عن تصاعد ضغوط كييف على أنقرة، خاصة أن الثانية ترتبط بعلاقات قوية مع أوكرانيا وصلت إلى حد التعاون في تصنيع الطائرات المسيرة، وتبادل الأسلحة والإنتاج. كما تتمتع تركيا بعلاقات استراتيجية مع روسيا أيضاً وتجاور الدولتين في البحر الأسود. وبموازاة ذلك، أكدت تركيا أن إغلاق البوسفور والدردنيل يتماشى مع جميع أحكام اتفاقية مونترو الخاصة بتنظيم المضائق، ولا ينفصل عن مخاوف تركية من ارتدادات سلبية محتملة للأزمة الأوكرانية على أمنها القومي.
سياقات مناسبة
تأتي استجابة أنقرة لمطلب أوكرانيا بإغلاق مضيقي البوسفور والدردنيل في سياق جملة من السياقات الملائمة التي تدعم السلوك التركي، وهو ما يمكن بيانها على النحو التالي:
1- توافر سند قانوني: تُعد تركيا بموجب بنود معاهدة “مونترو” 1936 صاحبة السيادة على إدارة مضيقي البوسفور والدردنيل، حيث إن المادة 19 من اتفاقية “مونترو”، تتيح لتركيا الحق في عبور أو منع مرور السفن الحربية في البوسفور والدردنيل في حالة الحرب، بينما تنص المادة 20 من الاتفاقية على أنه إذا كانت تركيا نفسها منخرطة في حرب، فالأمر متروك لأنقرة لتقرر ما إذا كانت ستُبقي المضيق مفتوحاً أمام السفن الحربية أم لا. كما تنص المادة 21 من “مونترو” على أنه إذا اعتبرت تركيا نفسها مهددة بخطر وشيك بالتعرض للحرب، فيمكنها إغلاق المضائق. ويبدو أن تطورات الأزمة، وغياب فرص التسوية السلمية في ظل إصرار طرفي الصراع على التصعيد؛ دفعت تركيا إلى إغلاق البوسفور والدردنيل، واعتبرت أن قرارها لا يتعارض مع البنود القانونية لمعاهدة مونترو.
2- تهديد الأمن التركي: وهو ما انعكس في اعترافات تركيا رسمياً، في 27 فبراير الجاري، بوجود “حالة حرب” بين موسكو وكييف، بعدما وصفت المشهد في وقت سابق بـ”هجوم غير مقبول”. ويمنح هذا الاعتراف أنقرة الحق في تطبيق اتفاقية مونترو لعام 1936 التي تقيد وصول الطرفين المتحاربين إلى المضيقين اللذين تسيطر عليهما تركيا، ويربطان البحر المتوسط والبحر الأسود. والأرجح أن تركيا أقدمت على هذه الخطوة باعتبار أنه بات هناك ما يهدد أمنها القومي، أو قد يمس سيادتها الوطنية، بعد تصاعد موجات اللجوء من الأوكرانيين على دول الجوار، وفشل المحادثات التي جرت في 28 فبراير الماضي بين موسكو وكييف في بيلاروسيا.
3- لجم الصراع واستيعاب الضغوط: بموجب اتفاقية مونترو، تسيطر تركيا على مرور السفن بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود، مما يجعلها لاعباً أساسياً في الصراع الحالي بين أوكرانيا وروسيا. في هذا السياق، تعتقد تركيا أن إغلاق البوسفور والدردنيل يمثل أولوية للضغط على أطراف الصراع لإسكات أصوات المدافع والدخول في التفاوض الدبلوماسي. وخلف ما سبق تحاول تركيا عبر إغلاق البوسفور والدردنيل تحييد الضغوط الغربية التي تُمارس عليها لمحاصرة الهجوم الروسي على أوكرانيا، وذلك من خلال إغلاق المضيقين. كما تخشى أنقرة حال استمرار الملاحة في المضيقين، الدخول في “موقف عدائي” مع واشنطن والقوى الغربية التي اتجهت إلى فرض عقوبات مالية وعسكرية على موسكو.
توتر إضافي
خلاصة القول، إن ثمة جملة من الأهداف المصلحية التي دفعت أنقرة إلى حظر الملاحة في البوسفور والدردنيل، وهو ما انعكس في مساعي أنقرة لتوظيف الأزمة الأوكرانية لترسيخ سيادتها على المضيقين، وحلحلة القضايا الخلافية مع الغرب. ورغم أن وزير الخارجية التركي عشية إعلانه عن إغلاق البوسفور والدردنيل تعمد التأكيد على منع مرور جميع السفن للدول المشاطئة وغير المشاطئة في محاولة لإظهار أن القرار يشمل جميع الدول، ولا يستهدف موسكو بشكل مباشر؛ غير أن الخطوة التركية قد تضيف توتراً إضافياً للخلافات بين أنقرة وموسكو، وتساهم في تفجير ملفات خلافية بين البلدين في سوريا وليبيا والقوقاز، ومناطق أخرى. كما يتوقع أن تسفر الخطوة التركية عن أضرار محتملة في واردات أنقرة الكبيرة من روسيا، وبخاصة الطاقة والسلع الغذائية، فضلاً عن انتكاسة متوقعة للقطاع السياحي التركي في وقت تشهد فيه البلاد أزمة اقتصادية.