رغم تصاعد فرص التقارب بين تركيا وروسيا بسبب الموقف التركي الحيادي تجاه تفاعلات الأزمة الأوكرانية، فضلاً عن توسيع مساحة التفاهمات في بعض القضايا الإقليمية؛ إلا أن ذلك لا ينفي أن ثمة اعتبارات عديدة دفعت باتجاه تنامي حدة التوتر بين البلدين في الفترة الأخيرة، وظهر ذلك في إعلان تركيا في 23 أبريل الجاري إغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات الروسية المتجهة إلى سوريا. ويتزامن القرار التركي مع تطورات ميدانية لافتة على الساحتين السورية والأوكرانية، دفعت أنقرة إلى تبني هذا القرار. كما أن غلق المجال التركي لا ينفصل عن رغبة أنقرة في توجيه رسائل إلى عددٍ من الأطراف أهمها موسكو والغرب، ومنها دعم سياسة الضغوط ضد موسكو، واستيعاب الضغوط الغربية على أنقرة، والرد على التحركات الروسية المضادة في سوريا، والاستعداد لوقف المعارك الروسية في أوكرانيا.
أعلنت تركيا في 23 أبريل الجاري عن إغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات العسكرية والمدنية التي تنقل قوات وعتاداً عسكرياً من روسيا إلى سوريا. وفي تصريحات له قال وزير الخارجية التركي شاويش أوغلو: “لقد أغلقنا المجال الجوي أمام الطائرات الروسية العسكرية، وكذلك الطائرات المدنية المتجهة إلى سوريا، وأعلنا ذلك في مارس، وانتهت المهلة في أبريل”.
وقد أثار قرار تركيا الكثير من التساؤلات، خاصة أن هذه الخطوة تعتبر من أشد إجراءات أنقرة ضد موسكو رغم تقاطعات المصالح بينهما، ورفض الأولى المشاركة في العقوبات المفروضة على روسيا (الشريك التجاري المهم، والحليف الدبلوماسي). كما فتح الإجراء التركي الباب أمام السؤال حول أسباب اتخاذ هذه الخطوة في هذا التوقيت، وعلاقتها بتطورات المشهد السوري، والحرب في أوكرانيا.
تطورات لافتة
تزامن قرار أنقرة بإغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات الروسية، مع تطورات لافتة في مسارات العلاقات التركية الروسية، أبرزها استمرار المساعي التركية للتوسط في إنهاء النزاع القائم في أوكرانيا، حيث استضافت اجتماعات بين المفاوضين الروس والأوكرانيين في إسطنبول، واجتماعاً آخر بين لافروف ونظيره الأوكراني دميترو كوليبا في أنطاليا. ويسعى الرئيس التركي حالياً إلى تنظيم قمة رئاسية روسية أوكرانية في إسطنبول، حيث أكد في تصريحات له، في 22 أبريل الجاري، أنه يعتزم الاتصال بنظيريه الروسي والأوكراني، لمناقشة إجراء محادثات سلام بينهما في تركيا.
وقد تزامنت أيضاً الخطوة التركية بإغلاق مجالها الجوي أمام روسيا مع اتجاه الأخيرة نحو تعزيز قدراتها العسكرية في شرق البحر المتوسط الذي يُعد منطقة استراتيجية لتركيا التي تقوم بعمليات تنقيب عن مكامن الطاقة شرق المتوسط. وثمة قلق تركي منذ انضمام روسيا إلى دائرة التنافس على غاز شرق المتوسط، حيث وقعت في مارس 2021 اتفاقيات مع النظام السوري تتيح لشركاتها التنقيب عن النفط والغاز في مياهها الإقليمية، وهو الأمر الذي شكل قضية خلافية جديدة، لا سيما وأن الانخراط الروسي في البحث عن الغاز بالمناطق الاقتصادية السورية من شأنه أن يضع تركيا تحت مزيد من الضغط في شرق المتوسط.
في المقابل، فإنّ القرار التركي يأتي في سياق تحسن ملموس في العلاقات التركية الأمريكية، وظهر ذلك في إعلان وزير الخارجية التركي عن الخطوة التركية بعد زيارة وفد من الكونغرس الأمريكي لتركيا في منتصف أبريل الجاري، ولقائه المسؤولين الأتراك، وتأكيد وفد الكونجرس على تصاعد فرص الوصول إلى تفاهمات مشتركة بشأن الملفات الخلافية، وفي الصدارة منها صواريخ S400 التي حصلت عليها تركيا من موسكو، وصفقة مقاتلات F16.
بالتوازي مع ذلك، يأتي القرار التركي الحساس مع التصعيد العسكري الروسي في سوريا، وخرق قوات النظام وروسيا اتفاق خفض التصعيد الموقّع مع أنقرة، وقصف الأماكن الواقعة تحت سيطرة الجيش التركي في شمال غرب سورية. فقد استهدفت غارات جوية روسية مناطق في ريف حلب شمالي سوريا الخاضعة لسيطرة “الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا، كما استهدف سلاح الجو الروسي قرى وبلدات عدة بمناطق نفوذ المعارضة السورية في محافظة إدلب شمال غربي سوريا. وبحسب تصريحات في 21 أبريل الجاري أطلقتها غرفة عمليات “الفتح المبين” لفصائل المعارضة المسلحة في شمال غربي سوريا المدعومة تركياً فإن “منطقة خفض التصعيد، التي تضم أجزاء من محافظة إدلب وأرياف اللاذقية وحماة وحلب، تشهد تصعيداً عسكرياً جديداً جوياً وبرياً، من قبل المقاتلات الحربية الروسية وقوات النظام”.
على صعيد ذي شأن، فإن القرار التركي لا ينفصل عن السأم من معارضة روسيا لأي توغل تركي بري في المزيد من المناطق الواقعة على الطرق الدولية والتجارية، مثل عين عيسى وتل رفعت؛ إذ تسعى تركيا إلى توسيع عملياتها العسكرية ضد قوات سوريا الديمقراطية “قسد” بالتزامن مع عملية “قفل المخلب” التي تشنها القوات التركية منذ 18 أبريل الجاري ضد منظمة حزب العمال الكردستاني شمال العراق.
هنا، يُمكن فهم قرار تركيا بإغلاق المجال الجوي أمام الطائرات العسكرية الروسية التي تنقل عتاداً إلى سوريا، خاصة أن تركيا تعي أن أي تحرك عسكري تركي للسيطرة على مدن وبلدات استراتيجية في سوريا، يحتاج إلى تفاهمات سياسية مع موسكو التي تعارض حدوث تغيرات ميدانية كبيرة على المشهد السوري في الوقت الحالي، ولا سيما في ظل انشغالها بحرب أوكرانيا.
اعتبارات متنوعة
ثمة العديد من الاعتبارات التي تقف وراء اتخاذ تركيا قرارها بشأن إغلاق المجال الجوي أمام الطائرات الروسية العسكرية الروسية التي تنقل جنوداً وعتاداً عسكرياً إلى سوريا، ويمكن بيانها على النحو التالي:
1- دعم سياسة الضغوط ضد موسكو: يمكن اعتبار قرار إغلاق المجال الجوي التركي أمام الطائرات الروسية المتجهة إلى سوريا، والمعروف عنه بأنه الأقصر مسافة أمام الجيش الروسي للوصول إلى قواعده في منطقة الشرق الأوسط وبخاصة سوريا التي تمثل نقطة استناد استراتيجية لروسيا في الإقليم، بأنه أداة من أدوات الضغط التي تتبعها تركيا لتعزيز الضغوط على المفاوض الروسي بشأن حلحلة الأزمة الأوكرانية، خاصةً أن القرار التركي الأخير سيزيد من صعوبة موسكو للوصول إلى قواعدها الاستراتيجية في الشرق الأوسط، وخاصة في سوريا، وهو ما قد يدفع روسيا نحو تليين التجاوب مع الوساطة التركية، وإيجاد تفاهمات مع كييف ووقف إطلاق النار.
وقد تبنت تركيا في هذا الإطار جملة من التدابير التصعيدية التي تستهدف الضغط من خلالها على موسكو. ويُشار -في هذا الصدد- إلى إغلاق تركيا مضيقي البوسفور والدردنيل في مارس الماضي أمام الملاحة البحرية للدول المشاطئة على البحر الأسود. كما تتوازى التحركات التركية مع تصاعد المخاوف من رغبةٍ روسيةٍ جامحةٍ للسيطرة على كامل الساحل الأوكراني، خاصة بعد إعلان موسكو، في 21 أبريل الجاري، عن سيطرتها على مدينة ماريوبول، التي تعتبر مدينة مفتاحية للسيطرة على مسار الحرب في أوكرانيا من الناحية التقنية بجانب الناحية العسكرية.
2- استيعاب الضغوط الغربية على أنقرة: لا ينفصل القرار التركي بحظر الملاحة الجوية أمام الطائرات الروسية المتجهة نحو سوريا، عن رغبة أنقرة في استيعاب الضغوط الغربية التي وجَهت انتقادات لتركيا بسبب عدم انخراطها في العقوبات المفروضة على موسكو. بالتوازي مع ذلك، فإن القرار التركي يحمل في طياته إشارات للغرب بأن تركيا لديها وسائل وأدوات ضغط على الجانب الروسي من جهة، وامتلاك القدرة على تأمين مصالح الحلفاء في الناتو، بعيداً عن العقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب على موسكو من جهة أخرى. وحيث إن تركيا تعلم أن خطوة إغلاق مجالها الجوي ستكون محل قبول القوى الغربية، وحلف الناتو، الذي سيعتبر أن أنقرة اتخذت ما يجب عليها في دعم مطالب الحكومة الأوكرانية؛ فقد سعت أنقرة إلى توظيف خطوتها الأخيرة بإغلاق مجالها الجوي أمام موسكو لتسجيل نقاط دبلوماسية في ملفاتها الشائكة مع واشنطن وأوروبا بعد سنوات من التوتر، وهو ما ظهر في مساعي واشنطن لحل أزمة توريد طائرات F16 لتركيا، فضلاً عن تخفيف الاتحاد الأوروبي من انتقاداته للداخل التركي.
3- الرد على التحركات الروسية المضادة في سوريا: تستهدف تركيا بصورة أساسية من وراء إغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات الروسية المتجهة إلى سوريا على وجه التحديد في الوقت الحالي، الرد على التصعيد الكلامي والميداني المكثف الذي تقوم به روسيا ضد الفصائل الموالية لتركيا في الداخل السوري، سواء في شكله المباشر أو غير المباشر. ويدلل على ذلك استهداف غارات جوية روسية، في 22 أبريل الجاري، مناطق في ريف حلب شمالي سوريا الخاضعة لسيطرة “الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا، كما خرقت روسيا اتفاق خفض التصعيد الموقع مع أنقرة منذ عام 2020، حيث قصف سلاح الجو الروسي الأماكن الواقعة تحت سيطرة الجيش التركي في محافظة إدلب شمال غرب سورية. كما يأتي القرار التركي الأخير في سياق محاولات أنقرة للضغط على روسيا للحصول على ضوء أخضر لتدخل عسكري تركي في مناطق نفوذ قوات سوريا الديمقراطية، وهو الأمر الذي لا تزال تعارضه موسكو بشدة.
4- الاستعداد لوقف المعارك الروسية في أوكرانيا: تُدرك تركيا أن ممارسة المزيد من الضغوط النوعية على موسكو من دون انخراط عسكري مباشر إلى جانب أوكرانيا في هذا التوقيت، سيشكل سنداً ومبرراً لدور تركي فاعل في أوكرانيا ما بعد الحرب في المجالات المختلفة، وعلى رأسها الملف الاقتصادي وجهود إعادة الإعمار. ويُشار في هذا الإطار إلى أن كييف ترى في أنقرة شريكاً استراتيجياً مهماً. لذا، فإن تركيا من خلال ممارساتها الضاغطة على موسكو، ستكون في وضع يسمح لها بالفوز بجزء كبير من عقود إعادة الإعمار حال وقف الحرب وإحلال السلام في أوكرانيا.
محاصرة موسكو
ختاماً، يمكن القول إن القرار التركي بإغلاق المجال الجوي أمام روسيا يأتي في سياق محاصرة التحركات الروسية المضادة للمصالح التركية في سوريا، فضلاً عن أن تركيا عبر هذه الخطوة يمكن أن تستوعب الضغوط الغربية عليها. لكن رغم المكاسب التركية من وراء القرار الأخيرة، فإن ذلك قد يزيد من مساحات التوتر المستترة بين موسكو وأنقرة، والتي وصلت إلى الذروة بعد إغلاق الثانية مضيقي البوسفور والدردنيل أمام الملاحة الروسية، وتوجه الأولى نحو استهداف المصالح التركية في الشمال السوري.