رؤية بديلة:
لماذا أعلنت الصين عن مبادرة لتسوية الحرب الروسية الأوكرانية؟

رؤية بديلة:

لماذا أعلنت الصين عن مبادرة لتسوية الحرب الروسية الأوكرانية؟



ثمة توجه صيني لمراجعة الموقف من الحرب الروسية الأوكرانية، الذي ارتكز على الحياد في بدايتها، برغم العلاقات الاقتصادية والسياسية التي تجمعها بموسكو، ووجدت بكين في استمرار الحرب فرصة ملائمة لإلهاء الولايات المتحدة وحلفائها بما يعزز تحركاتها الخارجية في المناطق الاستراتيجية من العالم، لا سيما منطقة المحيطين الهادي والهندي، ناهيك عن تعظيم مكاسبها الاقتصادية بالحصول على النفط الروسي بأسعار تنافسية، وتعزيز دورها ونفوذها السياسي على الساحة الدولية، حيث تسعى الصين إلى فرض رؤيتها ومبادرتها لنظام عالمي متعدد الأقطاب لا يسمح لقوة دولية وحدها بالهيمنة.

في 24 فبراير الجاري، أصدرت الخارجية الصينية وثيقة من 12 نقطة تدعو إلى محادثات سلام وتوضح ما أسمته “موقف الصين من التسوية السياسية للأزمة الأوكرانية”، والتحذير من استخدام السلاح النووي، وهو ما يثير التساؤلات حول دوافع الصين للإعلان عن هذه المبادرة في هذا التوقيت.

المبادرة الصينية لتسوية الحرب في أوكرانيا

نشرت وزارة الخارجية الصينية مقترحاً من 12 بنداً لتحقيق السلام في أوكرانيا بالتزامن مع الذكرى الأولى على اندلاع الحرب. وركز الإعلان الصيني على وقف إطلاق النار بين موسكو وكييف، والشروع في محادثات سلام بين الطرفين لإنهاء الحرب التي اندلعت فجر 24 فبراير من عام 2022. ونص الإعلان الصيني الموجود على موقع وزارة الخارجية على البنود التالية:
1- احترام سيادة كل الدول: يجب أن يكون هناك التزام صارم بالقانون الدولي المعترف به، بما يشمل أهداف ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة. إن سيادة كل الدول واستقلالها ووحدة أراضيها يجب الحفاظ عليها بشكل فعّال، وهذا يشمل كل الدول، صغيرة كانت أم كبيرة، قوية أم ضعيفة، غنية أم فقيرة، فهي كلها متساوية في المجتمع الدولي. على جميع الأطراف التمسك بالمعايير الأساسية التي تحكم العلاقات الدولية والدفاع عن العدالة الدولية. ينبغي تعزيز المساواة والتطبيق المتكافئ للقانون الدولي، مع رفض المعايير المزدوجة.
2- التخلي عن عقلية الحرب الباردة: لا يجب أن يكون ضمان أمن دولة ما على حساب الآخرين. إن أمن منطقة ما لا يجب أن يتم عبر تعزيز أو توسيع التكتلات العسكرية. يجب أخذ المصالح والمخاوف الأمنية لكل الدول على محمل الجد ومعالجتها بصورة صحيحة. لا يوجد هناك حل سهل لقضية معقدة. إن كل الأطراف يجب أن تتبع رؤية مشتركة وشاملة وتعاونية ومستدامة للأمن، مع مراعاة السلام والاستقرار على المدى الطويل، والمساهمة في تشكيل هيكل أمني أوروبي متوازن وفعال ومستدام. على كل الأطراف معارضة السعي لتحقيق الأمن على حساب أمن الآخرين، وتلافي المواجهة بين التكتلات، والعمل معاً من أجل السلام والاستقرار في القارة الأوراسية.
3- وقف الأعمال العدائية: إن الصراع والحرب لا يفيدان أحداً. إن على كل الأطراف التحلي بالعقلانية وضبط النفس، وتفادي ما يؤجج التوترات ومنع تدهور الأزمة أكثر بما يؤدي إلى خروجها عن السيطرة. على كل الأطراف دعم روسيا وأوكرانيا في العمل بنفس الاتجاه لاستعادة الحوار المباشر بأسرع وقت ممكن، من أجل خفض التصعيد تدريجياً وفي النهاية الوصول إلى وقف إطلاق نار شامل.
4- استئناف محادثات السلام: إن الحوار والمفاوضات هما الحل الوحيد القابل للتطبيق للأزمة الأوكرانية. يجب دعم وتشجيع الجهود المؤدية إلى الحل السياسي للأزمة. على المجتمع الدولي البقاء ملتزماً بالخيار الصحيح لتعزيز مفاوضات السلام ومساعدة الأطراف في الصراع على فتح باب للحل السياسي في أقرب وقت ممكن، وتهيئة الظروف والمنصات لاستئناف المفاوضات. ستواصل الصين تأدية دور بنّاء في هذا الإطار.
5- إيجاد حل للأزمة الإنسانية: من المطلوب دعم جميع التدابير التي تؤدي إلى تخفيف حدة الأزمة الإنسانية وتشجيعها. يجب أن تخضع العمليات الإنسانية لمبادئ الحياد وعدم التحيز، ولا ينبغي تسييس القضايا الإنسانية، ويجب حماية سلامة المدنيين بشكل فعال، بما يشمل إنشاء ممرات إنسانية لإجلاء المدنيين من مناطق النزاع. إن هناك حاجة لبذل مزيد من الجهود لزيادة المساعدة الإنسانية للمناطق ذات الصلة، وتحسين الظروف الإنسانية، وتوفير وصول سريع وآمن ودون عوائق للمساعدات الإنسانية، بهدف منع حدوث أزمة إنسانية على نطاق أوسع. يجب دعم الأمم المتحدة في أداء دور تنسيقي في إرسال المساعدات الإنسانية إلى مناطق الصراع.
6- حماية المدنيين وتبادل أسرى الحرب: على الأطراف المشاركة في الصراع الالتزام بالقانون الدولي الإنساني، وتفادي مهاجمة المدنيين والمنشآت المدنية وحماية النساء والأطفال وبقية ضحايا الصراع، واحترام الحقوق الأساسية لأسرى الحرب. إن الصين تدعم تبادل الأسرى بين أوكرانيا وروسيا، وتدعو كل الأطراف لتهيئة الظروف من أجل خلق ظروف أكثر ملاءمة لهذا الغرض.
7- الحفاظ على سلامة المنشآت النووية: تعارض الصين الهجمات المسلحة على محطات الطاقة النووية وغيرها من المنشآت النووية السلمية، وتدعو كل الأطراف للالتزام بالقانون الدولي بما يشمل معاهدة الأمان النووي وتجنب الكوارث النووية التي يصنعها الإنسان. تدعم الصين الوكالة الدولية للطاقة الذرية في لعب دور بنّاء في تعزيز سلامة وأمن المنشآت النووية السلمية
8- تقليص الأخطار الاستراتيجية: يجب عدم استخدام الأسلحة النووية وتجنب خوض حروب نووية، وينبغي معارضة التهديد باستخدام الأسلحة النووية، ومنع الانتشار النووي وتجنب الأزمة النووية. تعارض الصين البحث والتطوير واستخدام الأسلحة الكيماوية والبيولوجية من قبل أي دولة تحت أي ظرف من الظروف.
9- تسهيل تصدير الحبوب: إن كل الأطراف بحاجة إلى تنفيذ مبادرة حبوب البحر الأسود الموقعة من طرف روسيا وتركيا وأوكرانيا والأمم المتحدة بشكل كامل وفعال وبطريقة متوازنة، ودعم الأمم المتحدة في لعب دور مهم في هذا الصدد. تقدم مبادرة التعاون بشأن الأمن الغذائي العالمي التي اقترحتها الصين حلاً عملياً لأزمة الغذاء العالمية.
10- وقف العقوبات الأحادية الجانب: العقوبات الأحادية الجانب والضغوط القصوى لن تحل القضية، إنما هي فقط تخلق مشكلات جديدة. إن الصين تعارض العقوبات الأحادية غير المصرح بها من طرف مجلس الأمن الدولي. ينبغي على الدول المعنية التوقف عن إساءة استخدام العقوبات الأحادية الجانب و”الولاية القضائية الطويلة الذراع” ضد الدول الأخرى، وذلك حتى تتمكن من القيام بدورها في تخفيف حدة الأزمة الأوكرانية وتهيئة الظروف للدول النامية من أجل تعزيز اقتصاداتها وتحسين حياة شعوبها.
11- الحفاظ على استقرار سلاسل الصناعة والتوريد: على كل الأطراف المحافظة جدياً على النظام الاقتصادي العالمي القائم، ومعارضة استخدام الاقتصاد كوسيلة أو سلاح لتحقيق أهداف سياسية. إن الجهود المشتركة مطلوبة لتخفيف تداعيات الأزمة ومنعها من التشويش على التعاون الدولي في مجال الطاقة والأموال والتجارة والغذاء والنقل وتقويض تعافي الاقتصاد العالمي.
12- دعم مرحلة إعادة الإعمار: يحتاج المجتمع الدولي لاتخاذ إجراءات لدعم إعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الحرب في مناطق النزاع. الصين مستعدة لتقديم المساعدة ولعب دور بنّاء في هذا المسعى.

دور “المحايد”

أظهرت بكين موقفاً محايداً مع بداية الحرب الروسية في أوكرانيا، ويمكن الإشارة إلى تطوراته على النحو التالي:

1- اعتماد خطاب حذر تجاه الحرب، فقد حافظت بكين على خطاب حذر تجاه تطورات الحرب، فامتنعت عن تأييد التحرك الروسي أو إدانة هذا التحرك، حيث امتنعت عن التصويت على قرارات الأمم المتحدة التي تدين الحرب الروسية الأوكرانية، ولم تصوت على أي قرار ضد روسيا، باستثناء قرار الجمعية العامة في أبريل 2022 بتعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، والذي صوتت ضده. ومن ثم ركزت الصين على دعوة جميع الأطراف إلى “ضبط النفس”، وطالبت بحل سياسي سلمي من خلال المفاوضات الدبلوماسية، ودافعت بكين عن موقفها بأنه يستند إلى مبادئ ميثاق الأمم المتحدة، ويجب تقييمه “بموقف موضوعي وحيادي”.

2- موازنة موقفها بين الدول الغربية وروسيا، فبرغم أن الصين أكدت على السيادة والسلامة الإقليمية في إشارة مستترة إلى انتهاك روسيا لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة لكنها أكدت على “الأمن المشترك والشامل والتعاوني والمستدام” و”المخاوف الأمنية المشروعة لجميع البلدان”، في إشارة إلى التحدي الأمني ​​ الذي يطرحه توسع الناتو باتجاه الشرق. فعلى الرغم من أن بكين سعت إلى النأي بنفسها عن موسكو، إلا أن الوضع العسكري الروسي المستمر في أوكرانيا لم يدفع شي لقطع علاقته مع بوتين، ففي 14 نوفمبر 2022، وفي قمة مجموعة العشرين في إندونيسيا، أخبر شي بايدن بأن الصين “قلقة للغاية بشأن الوضع الحالي في أوكرانيا”، وألقى خطاباً يؤكد على أن “الصين تقف إلى جانب السلام”. كما أعلن شي لبايدن أنه يجب أن تكون هناك محادثات سلام بين روسيا وأوكرانيا”. لذلك، أظهرت بكين، من خلال رفضها التحيز علناً ورفضها لعب دور فعال في صنع السلام في الأمم المتحدة، أنها “الشريك الصامت” لموسكو الذي ينوي إبطاء الصراع أو وقفه بشروط مواتية.

3- معارضة سياسة العقوبات الغربية على موسكو، حيث واصلت الصين التجارة مع كل من روسيا وأوكرانيا ولم تحاول بشكل كبير الالتزام بالعقوبات الغربية ضد روسيا. وبالتالي أظهرت الصين درجة محدودة من الدعم لروسيا وسط حياد مُعلن، إذ انتقدت بشدة استخدام العقوبات ضد روسيا وتزويد أوكرانيا بالسلاح، وقالت وزارة خارجيتها إن العقوبات فاقمت أزمة الغذاء والتحديات الاقتصادية في البلدان النامية في وقت يكافح فيه العالم للتعافي من وباء كورونا. وفي الوقت نفسه، قدّمت الصين لروسيا دعماً اقتصادياً ضمنياً مكّنها من مواصلة الحرب من خلال شراء النفط الروسي بكميات قياسية. ولذلك، تُشير بعض التقارير إلى دعم اقتصادي صيني ضمني لموسكو من خلال تجارة الصين المستمرة والمتوسعة، واستغلال الثغرات في العقوبات الدولية، حيث زادت الشحنات الصينية إلى روسيا بأكثر من 26 بالمائة مقارنة بالعام السابق، وزادت الواردات بنحو 60 بالمائة خلال الفترة نفسها. وبرغم أن بكين قد لا تقف جنباً إلى جنب مع موسكو في ساحة المعركة، فإنها تساعدها في تمويل هذه الحرب بعدم التزامها بسياسة العقوبات الغربية.

دوافع بكين

تظاهرت الصين بخيار الحياد خلال الفترات الأولى للحرب، وحثت “جميع الأطراف” على ممارسة ضبط النفس، وهو ما يمكن تفسيره بالدوافع التالية:

1- تخفيف الضغط على الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ: حيث وجدت الصين في هذه الحرب فرصة ملائمة لإلهاء الغرب عن محاولات التصدي لها، ومن ناحية أخرى يسمح ذلك للصين بحرية الوصول دون عوائق إلى آسيا الوسطى والشرق الأقصى. والأهم من ذلك، أن الصين ستكون في وضع أفضل بكثير لحل قضية تايوان، وفقاً لشروطها الخاصة وبتكلفة أقل بكثير. وفي هذا السياق يشير مراقبون إلى أن الحرب الروسية كانت مفيدة إلى حد ما للأهداف الاستراتيجية للصين من خلال تصوير الناتو والولايات المتحدة على أنهما جهات مزعزعة للاستقرار أدت إلى إثارة الصراع في أوكرانيا وإطالة أمده.

ويأتي ذلك في الوقت الذي بعثرت فيه الحرب جهود الولايات المتحدة وتحدت بشدة قدرة الدول الأوروبية على التدخل في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وبينما تحتاج روسيا إلى دعم الصين السياسي والاقتصادي، تحتاج الصين بدورها إلى روسيا لإبقاء الولايات المتحدة متورطة في الشؤون الاستراتيجية لأوروبا. وكلما انخرطت واشنطن والناتو في الحرب بشأن أوكرانيا مع روسيا، زادت الحرية الاستراتيجية التي تمارسها الصين في المحيطين الهندي والهادئ، بما في ذلك التعامل مع تايوان.

2- شراء النفط الروسي بأسعار مخفضة وتعزيز العلاقات التجارية مع موسكو، حيث فرضت الدول الغربية حظر استيراد النفط من روسيا وقطعت العديد من الشركات الغربية علاقاتها مع روسيا تماماً، بينما واصلت بكين شراء النفط الروسي، وإن كان ذلك بأسعار مخفضة، واستخدمت اليوان بشكل متزايد بدلاً من الدولار الأمريكي لتمويل تلك المشتريات، بما يساعد الاقتصاد الروسي على مواجهة العقوبات الغربية، لذلك ارتفعت حصة اليوان في سوق العملات الروسية من أقل من 1% إلى 48 % بين يناير ونوفمبر من العام الماضي. وارتفعت التجارة بين روسيا والصين في العام الماضي بنسبة 34.3 % على أساس سنوي إلى مستوى قياسي بلغ 190 مليار دولار أمريكي، وأصبح اليوان الصيني العملة الأجنبية الأكثر تداولاً في بورصة موسكو في أكتوبر 2022.

وقد بدأت تظهر تقارير في يونيو 2022 تُفيد بأن الصين قد تجاوزت ألمانيا كأكبر مستورد للنفط الروسي، في حين حلت روسيا محل السعودية كأكبر مورد للنفط الخام للصين. وتشير التقارير إلى أن ما يقرب من نصف جميع الإيرادات السنوية للحكومة الروسية يأتي من النفط والغاز، وبعد أن تراجعت مبيعاتها إلى دول الاتحاد الأوروبي خلال العام الماضي، بسبب تأثير العقوبات، صدرت روسيا ضعف الكمية إلى الصين في عام 2022 مقارنة بالعام السابق. وعندما حاولت مجموعة الدول السبع مع الاتحاد الأوروبي وأستراليا، فرض سقف عالمي لسعر النفط الروسي المنقول بحراً، رفضت الصين الامتثال.

3- تعزيز النفوذ السياسي للصين على الساحة الدولية، حيث أكدت بكين على أهمية الشراكة التي لا حدود لها مع روسيا، والتعاون في مواجهة توسع حلف شمال الأطلسي في أوروبا الشرقية، وخاصة بعد توقيع اتفاقية أوكوس بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية في منطقة المحيط الهندي-الهادئ. ناهيك عن التفاهمات الروسية-الصينية حول ضرورة بناء نظام دولي جديد متعدد الأقطاب بشكل يحول دون سيطرة قطب واحد على النظام الدولي. وإذا كانت الحرب قد عززت من توحيد الدول الغربية، وتحفيز هذه الدول على تعزيز التعاون الأمني المشترك من خلال حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، فقد وجدت بكين في هذا السياق فرصة لتعزيز تحركاتها وضغوطها في السياسة الدولية.

وبرغم ما يقال حول خطأ التقديرات والحسابات الروسية والصينية في تحقيق انتصار حاسم وسريع في هذه الحرب، لكن ليس ثمة خلاف على أن بكين قد سعت إلى استثمار هذا السياق الدولي في تعزيز وحماية مصالحها الخارجية في مواجهة القوى المنافسة، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى مختلف الأصعدة والمناطق الاستراتيجية من العالم. وفي هذا السياق، قدمت بكين مبادرة الأمن العالمي التي أعلنها الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال خطابه في منتدى بواو الآسيوي في مارس 2022، وطرحت رؤية بديلة للرؤية الأمنية التي تقودها الولايات المتحدة في المحيطين الهندي والهادئ. 

دوافع الوسيط

تتمثل دوافع الصين لطرح مبادرتها في هذا التوقيت، على النحو التالي:

1- احتواء التصعيد الأمريكي وحماية الحليف الروسي، حيث يتفق العديد من الخبراء على أن الصين ظلت مطمئنة لأن تلعب دوراً “شبه محايد” تجاه الحرب، حيث اتجهت روسيا إلى التصعيد والتلويح باستخدام السلاح النووي. لذلك، كان قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتعليق مشاركة روسيا في اتفاقية الحد من الانتشار النووي من بين أهم العوامل التي دفعت الصين لطرح هذه المبادرة لوقف التصعيد في الحرب، وفي الوقت نفسه فإن بكين لا تريد وقف القتال بأي ثمن أو شروط تصل إلى حد الهزيمة الروسية، حيث تعتبر الصين روسيا شريكاً في منافستها مع الولايات المتحدة. وتخشى بكين من تعرض روسيا لهزيمة مذلة في أوكرانيا تهدد بقاء بوتين في السلطة وانهيار نظامه وقيام حكومة جديدة موالية للغرب. ومن ثم فإن أفضل خيار بالنسبة للصين هو وقف التصعيد الذي يترك بوتين في السلطة ويحافظ على مكانة روسيا كقوة عالمية.

2- منع الأطراف المتحاربة من تحقيق انتصار حاسم، فلم تتمكن كييف من تحقيق انتصار كامل على روسيا وطرد القوات الروسية، ولم تستطع موسكو فرض سيطرتها السياسية حتى في المناطق التي خضعت لسيطرتها العسكرية، في الوقت الذي ترى فيه بكين أن الوقت ملائم لطرح مبادرتها، حيث إن الانتصار الكامل لأي من الجانبين، سواء كانت روسيا أو أوكرانيا، ليس في مصلحة بكين، فإذا انتصرت أوكرانيا فستتعزز هيمنة الولايات المتحدة التي ستكون أكثر ثقة في مواجهة سياسة الصين لإعادة توحيد الصين ومنع دمج تايوان. فيما ستكون روسيا المهزومة والمدمرة أكثر حرصاً على صنع السلام مع الغرب وتحقيق التوازن ضد اعتمادها على الصين. لذلك، يرى مراقبون أنه من المهم للغاية بالنسبة للصين أن تمنع روسيا من الانهيار في ساحة المعركة بأي وسيلة علنية أو سرية، باعتبارها قوة مهمة تتحدى الهيمنة الأمريكية. ومن ناحية أخرى، فإن الانتصار الحاسم لروسيا في ساحة المعركة الأوكرانية ليس شيئاً تريده الصين حقاً، فقد تسعى روسيا للعودة إلى التكامل الاقتصادي مع أوروبا.

3- تخوف الصين من نهاية غير مواتية للحرب، حيث يبدو أن مصلحة الصين في استمرار اعتماد روسيا عليها، والإبقاء عليها منهكة. فالسكك الحديدية بين الصين وقرغيزستان وأوزبكستان، وخط أنابيب الغاز “قوة سيبيريا رقم 2″، وما إلى ذلك، كلها أصبحت ممكنة بسبب الصراع بين روسيا وأوكرانيا، ولم يكن ليتحقق اتفاق السكك الحديدية بين الصين وقرغيزستان وأوكرانيا بهذه السهولة، حيث ظلت الصين وروسيا تتفاوضان حول هذه المسألة لسنوات عديدة قبل بدء الصراع الروسي الأوكراني. لذلك، تتخوف بكين من نهاية غير مواتية للحرب إذا انتهت بشكل مفاجئ بحل شامل بين روسيا والغرب، أو أن تختار روسيا الاستسلام والتسوية مع الولايات المتحدة والغرب في حالة حدوث هزيمة عسكرية أو تغييرات جذرية في الوضع السياسي المحلي، أو انهيار اقتصادي.

4- الحفاظ على معادلة توازن القوى في غرب آسيا، حيث تحرص الصين على عدم خروج روسيا منتصرة أو منهزمة من الحرب بشكل يؤثر على معادلة توازن القوى في أسيا، حيث يرى بعض المراقبين أنه في حال تحقق الحل الوسط بين الولايات المتحدة وروسيا في الأيام المقبلة، فسيكون ذلك في غير صالح الصين، حيث كشف الصراع الروسي الأوكراني عن نقاط ضعف الهند ووضعها تحت ضغط هائل من الولايات المتحدة والقوى الأوروبية الأخرى، فبمجرد وصول روسيا إلى تسوية مع الدول الغربية، فسيكون لدى الهند فرصة كبيرة لتعزيز التعاون مع روسيا وتعزيز قدرة الهند على استثمار المزيد من الوقت والطاقة في “موازنة” الصين. وبمجرد أن تتصالح روسيا مع الغرب أيضاً ستقترب اليابان على الفور من روسيا، وستكون اليابان تحت قيادة الولايات المتحدة على استعداد لزيادة مواجهتها للصين.

5- التوصل إلى تفاهمات سياسية مع واشنطن، فبرغم إعلان بكين عن مبادرتها لإنهاء الحرب في أوكرانيا، لكنها لم تطالب بسحب القوات الروسية من أوكرانيا، ويبدو أن بكين تحاول استخدام وساطتها في إنهاء الحرب كورقة ضغط أو مساومة على الموقف الأمريكي من السياسة الصينية تجاه تايوان، والتطلع إلى التوصل إلى تفاهمات مشتركة حول تسوية الحرب في أوكرانيا بشكل يُحقق مصالح الطرفين، ولا سيما بعد أن حذر أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأمريكي، في 19 فبراير 2023، الصين من تقديم مساعدات عسكرية لروسيا. لذلك عرضت بكين خطة السلام الصينية لاستئناف محادثات السلام والتفاوض على تسوية سياسية للحرب.

استباق التسويةجملة القول، دفعت تطورات الحرب الأوكرانية منذ بداية العام الجاري، وخاصة تحذير واشنطن لبكين من تقديم دعم عسكري لموسكو، وإعلان الرئيس الروسي عن انسحاب روسيا من اتفاقية الحد من الانتشار النووي (نيو ستارت)، إلى طرح المبادرة الصينية لإنهاء الحرب الروسية في أوكرانيا، ويبدو أن هذه العوامل غيرت من حسابات بكين ودفعتها إلى استباق أي تسوية محتملة للحرب تتعارض مع مصالحها الخاصة، ولذلك طرحت بكين رؤيتها الخاصة لتسوية الحرب بما يتفق مع مصالحها، ويحافظ على توازنات القوى في المنطقة، ويقلص من مستوى التصعيد السياسي مع واشنطن بإظهار رغبة بكين في حل الصراع بالطرق السلمية.