يمكن تفسير مغزى توقيت الإعلان عن تأسيس “الباسيج البحري” في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في الرد على تشكيل بحرية دولية جديدة في البحر الأحمر، وترجمة تهديدات وزير الدفاع الإيراني إلى خطوات إجرائية على الأرض، وموازنة تعزيز القدرات العسكرية للجيش الإيراني، وتزايد القلق من استمرار الوجود العسكري الأمريكي بمستواه الحالي في المنطقة.
يكتسب تطوير القدرات العسكرية اهتماماً خاصاً من جانب النظام الإيراني، في ظل تصاعد حدة التوتر في العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل تحديداً. ورغم أن هذه الأهمية ليست جديدة، إلا أن ثمة مؤشرات عديدة تُوحي بأن النظام في إيران سوف يعمد خلال المرحلة القادمة إلى محاولة تحقيق “قفزات” في هذه القدرات، بالتوازي مع الاعتماد على البروباجندا للتضخيم من القدرات التي يمتلكها بالفعل في إطار سياسة “استعراض القوة” التي يتّبعها باستمرار.
ففي هذا السياق، أعلن قائد القوة البحرية في الحرس الثوري العميد علي رضا تنكسيري، في 19 ديسمبر الجاري، عن تشكيل قوة تعبئة بحرية مكونة من 55 ألف عنصر، في إطار “قوة حشد بحري” تستخدم في أوقات الحرب والسلم، حسب تعبيره.
دوافع عديدة
يُمكن تفسير اتجاه إيران إلى الإعلان عن هذه الخطوة في هذا التوقيت تحديداً في ضوء عوامل عديدة يتمثل أبرزها في:
1- تشكيل قوة بحرية دولية في البحر الأحمر: كان لافتاً أن التصريحات التي أدلى بها تنكسيري جاءت بعد ساعات قليلة من إعلان الولايات المتحدة الأمريكية عن تشكيل قوة بحرية جديدة لحماية الملاحة في البحر الأحمر بعد تصاعد حدة الهجمات التي تشنها المليشيا الحوثية ضد السفن الإسرائيلية أو السفن المتجهة إلى إسرائيل بشكل عام.
وجاءت القوة البحرية الجديدة تحت مسمى “المبادرة الأمنية المتعددة الجنسيات”، وتضم إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية، كلاً من البحرين، وبريطانيا، وفرنسا، وسيشل، والنرويج، وهولندا، وأسبانيا، وإيطاليا، وكندا. وتهدف، حسب تصريحات وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن الذي يقوم بجولة حالياً بمنطقة الشرق الأوسط تشمل البحرين وقطر وإسرائيل، إلى “ضمان حرية الملاحة لكل الدول وتعزيز الازدهار والأمن الإقليميين”.
ومن دون شك، فإن مثل هذا التوجه يتعارض مع سياسة إيران بالفعل، التي ترى أن أى جهود تُبذل لتكوين حشد أمني إقليمي أو دولي لا تكون طرفاً فيه هي جهود تستهدفها في المقام الأول، ومن ثم فإنها اعتبرت، على ما يبدو، أنه من الضروري الرد على تلك الخطوة بخطوة تصعيدية مقابلة.
2- تعزيز تهديدات وزير الدفاع الإيراني للولايات المتحدة: كان لافتاً أنّ إعلان العميد تنكسيري عن تشكيل “الباسيج البحري” جاء بعد أن وجّه وزير الدفاع الإيراني محمد رضا آشتياني، في 14 ديسمبر الجاري، تحذيرات مباشرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الدولية من عواقب تشكيل قوة بحرية جديدة، معتبراً أن ذلك سوف يعرض الدول المشاركة في تلك القوة لـ”مشكلات استثنائية”.
ورغم أن آشتياني لم يوضح طبيعة هذه “المشكلات الاستثنائية” التي تحدث عنها في تصريحاته، فإن الإعلان عن تشكيل “الباسيج البحري” يعني أن إيران تحاول ترجمة تصريحات وزير دفاعها إلى خطوات إجرائية على الأرض، بما يوحي بأن “الباسيج البحري” الجديد الذي شكلته إيران يمكن أن يقوم بأداء مهام تعرقل قدرة القوة البحرية الدولية التي قامت الولايات المتحدة الأمريكية بتشكيلها على تنفيذ أهدافها، لا سيما الخاصة بمنع المليشيا الحوثية من مواصلة شن هجماتها ضد السفن الإسرائيلية أو المتجهة إلى إسرائيل.
وقد توازى ذلك مع تصريحات صدرت أيضاً عن قيادات حوثية تفيد بأن المليشيا لن تتوقف عن شن هذه الهجمات حتى بعد تشكيل هذه القوة، حيث قال المسؤول الحوثي محمد البخيتي في تغريدة على منصة “إكس”، في 19 ديسمبر الجاري: “حتى لو نجح الأمريكيون في حشد العالم كله، فإن عملياتنا لن تتوقف”.
3- موازنة تعزيز قدرات الجيش الإيراني: رغم حرص المسؤولين في النظام الإيراني على تأكيد الوحدة والتماسك داخل القوات المسلحة الإيرانية، والتي تشمل الجيش النظامي والحرس الثوري، والذي بدا جلياً حتى في إضفاء وجاهة خاصة على تحذيرات آشتياني السابق ذكرها بالإعلان عن تشكيل “الباسيج البحري”؛ إلا أن ذلك لا ينفي في الوقت نفسه أن هناك حالة من التنافس “الخفي” قائمة بين الطرفين، بدت جلية في الأعوام الثلاثة الأخيرة، وتحديداً بعد غياب القائد السابق لـ”فيلق القدس” التابع للحرس الثوري قاسم سليماني عن المشهد بعد اغتياله في عملية عسكرية أمريكية في بغداد في 3 يناير 2020.
إذ حرص الجيش الإيراني على تعزيز قدراته العسكرية في مجالات متعددة كانت حكراً على الحرس الثوري في المرحلة الماضية، على غرار الصواريخ الباليستية والمسيرات. لكنّ الخطوة الأهم التي أعلن عنها الجيش تمثلت في استعداده لتسلم مقاتلات “سوخوي 35” من روسيا، والتي تكرر الحديث عن إبرام صفقة بين الدولتين بشأنها لم تؤكدها تصريحات رسمية من روسيا حتى الآن.
وهنا، لا يمكن استبعاد أن يكون أحد أهداف الإعلان عن تشكيل “الباسيج البحري” في هذا التوقيت، هو موازنة الإعلانات المتكررة من جانب مسؤولي وقادة الجيش الإيراني عن تطوير القدرات العسكرية للأخير.
4- تبنّي سياسة حذرة تجاه الوجود العسكري الأمريكي في الإقليم: أبدت إيران خلال الفترة الماضية قلقاً واضحاً إزاء تزايد الوجود العسكري الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط. فقد قرأت إعلان الولايات المتحدة الأمريكية عن إرسال حاملتي طائرات أمريكيتين إلى منطقة شرق المتوسط مع بدء العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة، وهما “يو إس إس جيرالد فورد” و”يو إس إس أيزنهاور”، على أنه محاولة لردعها عن التدخل مباشرة في الحرب أو الإيعاز للمليشيات الموالية لها بالانخراط فيها.
لكن الأهم من ذلك هو أنها باتت ترى أن الولايات المتحدة قد لا تتجه مجدداً إلى تقليص هذا الوجود العسكري حتى بعد انتهاء العمليات العسكرية التي تشنها إسرائيل في قطاع غزة أياً كان المسار الذي سوف تنتهي الحرب الحالية التي تدور رحاها بين إسرائيل وحركة حماس.
ويعني ذلك أن واشنطن، في رؤية طهران، سوف تعمل على رفع مستوى تهديداتها لإيران خلال المرحلة القادمة، خاصةً مع اقتراب موعد إجراء الانتخابات الرئاسية، التي تعني عدم قدرة إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن على تسوية الخلافات العالقة مع إيران في بعض الملفات، وفي مقدمتها الملف النووي، فضلاً عن برنامج الصواريخ الباليستية، إلى جانب الدعم العسكري الذي تقدمه لروسيا لمساعدتها على إدارة عملياتها العسكرية في أوكرانيا.
ومن هنا، ربما يُمكن تفسير أسباب اهتمام إيران بوجود حاملة الطائرات “يو إس إس أيزنهاور” في منطقة الخليج العربي، والتي تحركت من منطقة شرق المتوسط ووصلت إلى مضيق هرمز في 26 نوفمبر الفائت للقيام بدورات لحماية حركة الملاحة، حيث حرص الحرس الثوري على نشر فيديو، في 17 ديسمبر الجاري، يزعم فيه أن التحذيرات التي وجهتها قواته البحرية إلى حاملة الطائرات الأمريكية دفعتها إلى تغيير مسارها بعد أن أجابت -حسب تصريحات تنكسيري نفسه- على كل الأسئلة التي وجهتها القوات البحرية الإيرانية، وخضعت لكافة إجراءات السيطرة والمراقبة من جانب هذه القوات.
توتر متصاعد
ختاماً، يمكن القول إن اتجاه إيران للإعلان عن خطوات جديدة لتعزيز قدراتها العسكرية أو على الأقل للترويج لهذه القدرات يمثل مؤشراً على أنها تبدو مقبلة على مرحلة جديدة في علاقاتها مع خصومها، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الحالية التي تدور رحاها في قطاع غزة، على نحو يعني أنها ربما تسعى إلى اتخاذ مزيد من الإجراءات التصعيدية، سواء على مستوى برنامجيها النووي والصاروخي، أو على مستوى نفوذها الإقليمي في المنطقة.