عادت روسيا مجدداً إلى ترتيب أوراقها في ليبيا بنشاط دبلوماسي عبر إعادة فتح سفارتها في طرابلس، وهو ما يعكس رغبة موسكو في الانفتاح على جميع أطراف النزاع الليبي لضمان تعظيم مصالحها والوصول إلى توافقات سياسية معهم، خاصة أنها ترتبط بعلاقة جيدة مع “فتحي باشاغا” رئيس الحكومة الليبية المنتخبة من مجلس النواب في شرق ليبيا، وهذا الأمر يحمل جملة من الدلالات، منها: فتح قنوات اتصال روسية مع حكومة “الدبيبة” لتحقيق مصالحها الاستراتيجية، وتوجه روسي لقيادة وساطة بين الفرقاء الليبيين، واستخدام ليبيا كورقة ضغط على المجتمع الدولي، والتغلغل الاقتصادي والسياسي الروسي في جميع أنحاء ليبيا، وتأمين الدخول في مواجهة مع الغرب بقواعد في ليبيا.
كشف نائب وزير الخارجية الروسي “ميخائيل بوغدانوف”، في 20 سبتمبر 2022، لوسائل إعلام روسية عن توجه بلاده لاستئناف عمل السفارة الروسية في العاصمة الليبية طرابلس التي تم إغلاقها في 2014 وتسيطر عليها حكومة “الدبيبة”، وذلك بعد اعتماد الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” لأوراق اعتماد السفير الليبي لدى موسكو “إمحمد المغراوي” إذ قال “بوتين” وقتها إن بلاده تسعى جاهدة لحل أزمة الصراع التي تشهدها ليبيا، وهذا باستئناف عملها في المجالات كافة وفقاً للتغييرات التي يشهدها العالم المتجه نحو “التعددية القطبية”، كما كشفت مصادر دبلوماسية ليبية أن “المغراوي” سيبدأ مهام عمله في طرابلس مطلع أكتوبر المقبل.
وفي الوقت ذاته، فإن روسيا التي تدعم حكومة “باشاغا” تدرس حالياً فتح قنصلية لها في مدينة بنغازي شرق ليبيا، وفقاً لما أعلنه رئيس قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بوزارة الخارجية الروسية “ألكسندر كينشاك” مطلع سبتمبر 2022، بأن موسكو تخطط لفتح القنصلية العامة في بنغازي بعد استئناف عمل سفارتها في طرابلس، قائلاً، السبب وراء ذلك أن “روسيا لا تدعم أياً من الأطراف المتصارعة في ليبيا، ومستعدة لبدء اتصالات مع جميع مراكز القوة الليبية”.
وفي ظل هذه التطورات التي تأتي مع تصاعد حدة الاشتباكات المسلحة بين أطراف النزاع في ليبيا ومساعي بعض القوى الإقليمية والدولية للوساطة بين الفرقاء الليبيين، فإن توجه روسيا لتعزيز دورها في الأراضي الليبية في هذا التوقيت تحديداً، يحمل جملة من الدلالات، على النحو التالي:
توجه براجماتي
1- فتح قنوات اتصال روسية مع “الدبيبة” لتحقيق مصالحها الاستراتيجية: أدركت موسكو مؤخراً بعد انقطاعها لمدة عن المشهد الليبي جراء انشغالها بالحرب مع أوكرانيا، أن حكومة الوحدة الوطنية برئاسة “عبدالحميد الدبيبة” تحظى بدعم دولي بل وإقليمي أيضاً، وخاصة بعد أن فشلت حكومة “باشاغا” التي تدعمها موسكو خلال الفترة الماضية في السيطرة على العاصمة طرابلس، وعليه ارتأى “بوتين” أنه من الضروري أن تعمل بلاده مع جميع أطراف النزاع الليبي، وأن تكون لها علاقة بحكومة “الدبيية” التي نجحت المليشيا الموالية لها خلال الفترة الماضية في تحقيق بعض الانتصارات العسكرية على كتائب غرب ليبيا، وهو ما نجم عنه فشل “باشاغا” في الاستيلاء على طرابلس.
الأمر الذي يؤكد أن حكومة الوحدة الوطنية ليس من السهل إسقاطها، سواء على المستوى العسكري أو السياسي، وهو ما يفرض أمراً واقعاً على موسكو استغلاله بطريقة تُحقق مصالحها الاستراتيجية، خاصة أن ليبيا تلعب دوراً في سوق الطاقة العالمي الذي يشهد أزمة حالياً جراء الحرب الروسية الأوكرانية، فهي ثاني أكبر مصدر إفريقي للنفط، إذ ارتفعت صادراتها إلى نحو 1.2 مليون برميل يومياً خلال عام 2021، هذا في الوقت الذي يفرض فيه الغرب عقوبات على النفط الروسي، وعليه فإن توجه موسكو نحو حكومة “الدبيبة” التي تتحكم في إيرادات النفط هدفه تعزيز دورها في ملف النفط والغاز الليبيين، بما يمنحها القدرة على التأثير في مسار إمدادات وصادرات النفط الليبي إلى الغرب.
وساطة موسكو
2- توجه روسي لقيادة وساطة بين الفرقاء الليبيين: تحسين موسكو لعلاقتها مع حكومة “الدبيبة” بفتح قنوات للتواصل الدبلوماسي قد يمكنها خلال الفترة المقبلة من لعب دور الوساطة بين الفرقاء الليبيين، خاصة أنها أكدت أن توجهها نحو غرب ليبيا لن يقوض علاقاتها مع الحكومة المؤقتة في الشرق، وعليه كشف المراقبون أن موسكو قد تعرض على رئيس مجلس النواب الليبي “عقيلة صالح” الذي يستعد لإجراء زيارة مرتقبة إلى موسكو، إدارتها إما لقيادة وساطة بين أطراف النزاع، أو دعم “عقيلة صالح” لتشكيل حكومة ثالثة، وهذا بعدما سئم الشعب الليبي من الحكومتين المتنازعتين وطالب برحيلهما خلال الفترة الماضية، فضلاً عن أن الحكومة الروسية لديها تواصل دائم مع بعض أنصار النظام الليبي السابق، بل وتمنحهم دعماً لوجيستياً، وهو ما يعني أن موسكو تريد التنسيق مع جميع الأطراف في ليبيا في محاولة لإحباط مساعي تركيا الأخيرة لتوسيع نفوذها في ليبيا وهذا باستضافتها قيادات من الشرق على رأسهم “عقيلة صالح” بجانب علاقتها القوية بـ”الدبيبة”، بما يمكنها من استعادة دورها خلال السنوات الماضية حينما كانت اللاعب الرئيسي في الصراع الليبي.
ضغط سياسي
3- استخدام ليبيا كورقة ضغط على المجتمع الدولي: تركز استراتيجية الرئيس “بوتين” في الوقت الحالي على تكثيف الحضور الروسي في الدول الأفريقية وخاصة ليبيا للرد على محاولات الدول الغربية لتضييق الخناق على موسكو وعزلها عن المجتمع الدولي، وفي هذا الصدد أفاد المراقبون بأن ليبيا قد تكون “ورقة استراتيجية” أكثر أهمية لـ”بوتين” من صراعاته في أوكرانيا، فنجاح سياسة الضغط الروسي على الدول الأوروبية تمكنه في نهاية المطاف من الحصول على مكاسب سياسية، سواء من خلال التحكم في مصادر الطاقة التي يتجه الغرب نحوها في الوقت الحالي، وإحباط محاولات قادة الاتحاد الأوروبي للاستثمار في البنية التحتية للطاقة الليبية لتقليل الاعتماد على الغاز الروسي، وهذا في حال حدوثه سيُفاقم من أزمة إمدادات الغاز الأوروبية الوشيكة في فصل الشتاء المقبل، أو إحداث حالة من عدم الاستقرار للدول الأعضاء في حلف الناتو من خلال المليشيا التي تزرعها روسيا في ليبيا، وهو ما عمل الكرملين على توطيده خلال السنوات الماضية ليصبح لاعباً لا يُقهر في المسار السياسي الليبي بواسطة شركات الأمن الخاصة وخاصة “فاجنر” (منظمة شبه عسكرية خاصة) شرق ليبيا، ومحاولة موسكو دمجها في البنية الأمنية للجيش الوطني الليبي للمساعدة في إدامة وتسريع الاتجاهات التي تضر بالمصالح الأوروبية.
إعادة الانتشار
4- تأمين الدخول في مواجهة مع الغرب بقواعد عسكرية في ليبيا: بعد أن فشلت محاولات “فاجنر” لدعم استيلاء قائد الجيش الوطني الليبي “خليفة حفتر” على العاصمة طرابلس، بدأت موسكو تحاول البحث عن موطئ قدم يمكنها من الاستقرار في ليبيا، إذ قامت قوات “فاجنر” بإعادة الانتشار من خلال قيام مجموعة من المرتزقة التابعين لها بتدشين مواقع محصنة لمقاومة الهجمات من القوات الليبية الغربية والتركية نيابة عن الجيش الوطني الليبي، ورغم انشغال موسكو بحربها في أوكرانيا فإن قوات “فاجنر” أعادت مؤخراً نحو 5000 جندي من عناصرها إلى ليبيا مرة أخرى، هذا بجانب قيامها في الوقت نفسه بتضييق الخناق على مرافق الإنتاج والتصدير الأكثر استراتيجية في ليبيا.
يأتي هذا وسط المحاولات الروسية المستمرة للسيطرة على المنشآت النفطية والقواعد العسكرية القريبة في كل من وسط ليبيا والجنوب الغربي، إذ نجحت في يوليو 2020 في السيطرة على شبكة من القواعد العسكرية والجوية الممتدة من القرضابية بالقرب من سرت إلى براك بالقرب من سبها، حيث جلبت طائرات مقاتلة روسية من طراز MiG-29 وSu-24، وبذلك لن يبقى سوى غرب ليبيا، وعليه فإن العودة الدبلوماسية إلى طرابلس وتحسين العلاقات مع حكومة “الدبيبة” قد ينجم عنه تحقيق هدف الكرملين بإنشاء قواعد عسكرية روسية على الأراضي الليبية تسهم في ترسيخ الوجود الروسي الدائم في جنوب المتوسط، وبذلك تكون موسكو وضعت يدها على ليبيا من جميع الاتجاهات استعداداً لاندلاع أي مواجهة بين روسيا والغرب، وبذلك يصبح لموسكو وجود عسكري في سوريا وليبيا أيضاً.
هيمنة متعددة
5- توسيع المصالح الاقتصادية والسياسية الروسية في ليبيا: تهدف موسكو إلى توسيع النفوذ الروسي في الأراضي الليبية واستعادة مكانتها المفقودة بعد انتهاء عهد الرئيس الليبي الراحل “معمر القذافي” الذي كانت تربطه علاقات جيدة بموسكو، إذ كان هناك انتشار روسي في جميع المجالات الاقتصادية والاستثمارية والاجتماعية والسياسية، وعليه فإن زيارة رئيس مجلس النواب الليبي “عقيلة صالح” المرتقبة إلى موسكو لها أبعاد سياسية، من بينها الحديث عن تفاهمات بين الحكومتين المتنازعتين في ليبيا تسهم في إنهاء النزاع الذي يشهده هذا البلد بإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، أما الأمر الآخر فهو أن تعرض موسكو على “عقيلة صالح” “صفقة جديدة” يكون محتواها إما تشكيل حكومة ثالثة تكون قريبة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من روسيا، أو أن يتولى “عقيلة صالح” رئاسة المجلس الرئاسي الليبي مقابل إجراء الانتخابات البرلمانية وتأجيل الانتخابات الرئاسية ثلاث سنوات.
وفيما يتعلق بالمصالح الاقتصادية فإن روسيا تريد تعويض خسائرها جراء العقوبات الغربية المفروضة عليها، وهذا بإعادة الانتشار في ليبيا وتوسيع العمل الاقتصادي كما كان إبان عهد “القذافي”، حيث كان هناك نشاط استثماري روسي واسع في جميع أنحاء ليبيا، وهذا ما ألمح إليها الرئيس “بوتين” أثناء كلمته الترحيبية بالسفير الليبي الجديد لدى روسيا “محمد المغراوي” الذي سيتولى مهامه في طرابلس مطلع أكتوبر المقبل، قائلاً: “الروس يتطلعون إلى استئناف التعاون الثنائي بين البلدين في مختلف المجالات، مع استقرار الوضع الداخلي في ليبيا”.
استعادة الدور
خلاصة القول، إن الحراك الأخير الذي شهدته ليبيا من قبل بعض القوى الدولية والإقليمية الساعية للتغلغل في الأراضي الليبية لتحقيق أجندات سياسية معينة تحت شعار “الوساطة وحل الخلاف بين الفرقاء الليبيين” هو ما دفع روسيا للتحرك بشكل عاجل لإعادة نفوذها مجدداً على الساحة الليبية، ومن المتوقّع أن تشهد الفترة المقبلة تنامياً في الحراك الروسي بشكل متعدد وعلى جميع المناحي، بمعنى أن موسكو لن تكتفي بدعم طرف واحد من أطراف النزاع الليبي كما كانت تفعل، بل ستدعم كل الأطراف لتسهيل مهامها داخل ليبيا، وعدم إعطاء الفرصة لأي قوى دولية للتوسع في هذا البلد الأفريقي على حساب روسيا.