دوافع متعددة:
لماذا أعادت المملكة المغربية فتح سفارتها في الأراضي العراقية؟

دوافع متعددة:

لماذا أعادت المملكة المغربية فتح سفارتها في الأراضي العراقية؟



أعادت المغرب فتح سفارتها بالعاصمة العراقية “بغداد” في 28 يناير 2023 بعد 18 عاماً من إغلاقها في أكتوبر 2005 جراء تدهور الأوضاع الأمنية في الأراضي العراقية نتيجة اختطاف فرع تنظيم القاعدة الإرهابي في بلاد الرافدين اثنين من موظفي السفارة المغربية، ليدفع المغرب في فبراير 2016 لنقل سفارته إلى العاصمة الأردنية عمان. ويمكن تفسير دوافع العودة بعدة عوامل، أبرزها: جهود حكومة “السوداني” لتحسين الأوضاع الأمنية في البلاد، والتعاون المشترك لدحر الإرهاب في المنطقة، والاستفادة من الموقف العراقي في ملف الصحراء المغربية، فضلاً عن مساندة مغربية لعودة العراق إلى محيطه العربي بعيداً عن إيران في ظل توتر علاقة الأخيرة بالمغرب.

على مدار السنوات الماضية، حاول العراق إقناع المغرب بالعودة مرة أخرى وإعادة تمثيله الدبلوماسي بالأراضي العراقية، إلا أن تلك المحاولات باءت بالفشل، ويرجع ذلك إلى جملة من الأسباب، من أبرزها ما يلي:

1- تنامي نشاط تنظيم داعش في بلاد الرافدين: رغم أن السلطات الأردنية أعدمت في فبراير 2015 العراقي والقيادي بفرع تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين “زياد خلف الكربولي” (كان يعمل مُخلّصاً جمركياً في حدود طريبيل العراقية مع الأردن)، لمسؤوليته عن خطف دبلوماسيَّيْن مغربيين كانا في طريقهما من الأردن إلى بغداد وتسليمهما للتنظيم، وهو ما اعترف به في حوار مسجل له بثه التلفزيون الأردني بعد إلقاء القبض عليه وصدور حكم بإعدامه في مايو 2006؛ إلا أن تخوف المملكة المغربية من ظهور تنظيم “داعش” وسيطرته على ما يقرب من ثلث مساحة العراق عام 2014، وما ارتبط به من استمرار تدهور الأوضاع الأمنية في بلاد الرافدين، حال دون إعادة افتتاح سفارة الرباط في بغداد.

2- انقطاع عمل اللجنة العراقية المغربية المشتركة: في 14 سبتمبر 2018، دعا وزير الخارجية العراقي آنذاك “إبراهيم الجعفري” خلال اجتماعه مع كاتبة الدولة لدى وزير الشؤون الخارجية والتعاون الدولي المغربي “مونية بوستة” على هامش القمة العربية، الرباط إلى فتح سفارتها في بغداد للدفع بالعلاقات الثنائية إلى الأمام، ووضع آلية لتسهيل إجراءات منح تأشيرات الدخول (الفيزا) للعراقيين الراغبين في زيارة المغرب، ووقتها ردت المسؤولة المغربية على المطلب العراقي بالتأكيد على أن موقف بلادها ثابت فيما يخص عودة الأمن والاستقرار إلى بلاد الرافدين، ومشيرة إلى أن الجانبين عليهما عقد اللجنة العراقية – المغربية المشتركة للتنسيق بشأن إعادة فتح السفارة، وبالفعل عقدت اللجنة اجتماعات في مطلع أكتوبر 2018 بالرباط بعد انقطاع دام 12 عاماً، ودعا وقتها رئيس اللجنة من الجانب العراقي “وليد الموسوي” الحكومة المغربية لإعادة فتح سفارتهم في بغداد، ومع ذلك لم تستجب الرباط ولم تعقد اللجنة بعد ذلك.

3- تأجيل استجابة الجانب المغربي للدعوات العراقية: في يناير 2021، دعا وزير الخارجية العراقي “فؤاد حسين” خلال اجتماع عبر تقنيّة الفيديو كونفرانس مع نظيره المغربي “بوريطة”، لتعزيز العلاقات المشتركة بين البلدين، وتسهيل إجراءات دخول المواطنين العراقيين إلى المملكة المغربية، إضافة إلى افتتاح سفارة في بغداد، ووقتها وجه الوزير العراقي دعوة رسمية لنظيره المغربي لزيارة بغداد، إذ رد الأخير بأنه سيلبي الدعوة في أقرب فرصة ممكنة، بجانب أن وسائل إعلام مغربية وعراقية كشفت أن بلاد الرافدين وجهت خلال السنوات الأخيرة دعوات عدة إلى وزير الخارجية المغربي للقيام بزيارة رسمية إليها، ولكنه لم يستجب، وهو ما يفسر سبب وصف زيارة “بوريطة” إلى بلاد الرافدين في هذا التوقيت بـ”التاريخية”، كونها تعد الأولى من نوعها لوزير خارجية مغربي منذ حوالي ربع قرن، كما أنها أول زيارة لمسؤول حكومي مغربي إلى العراق منذ عقدين على الأقل، وتأتي بعد نحو عامين من توجيه وزير الخارجية العراقي الدعوة لنظيره المغربي.

دوافع العودة

إن استجابة المملكة المغربية هذه المرة لإعادة فتح سفارتها في بلاد الرافدين، يعود إلى جملة من الدوافع، يمكن توضيحها على النحو التالي:

1- جهود حكومة “السوداني” في دحر الإرهاب بالعراق: منذ وصول الحكومة العراقية بقيادة “محمد شياع السوداني” إلى سدة الحكم نهاية أكتوبر الماضي، وهي تضع ملف “مكافحة الإرهاب والتطرف” على رأس أولوياتها، إما بوضع خطوات وخطط عسكرية داخلية تسهم في تعزيز وتقوية القوات العراقية حتى تتمكن من القضاء على أي وجود للإرهاب في البلاد، للحفاظ على استقرار الأوضاع الأمنية التي شهدتها العراق بعد هزيمة قوات التحالف الدولي لتنظيم داعش في 2019، أو من خلال توطيد التعاون في هذا الملف مع جميع دول العالم على الساحتين الإقليمية والدولية، كان آخرها في 24 يناير الماضي، إذ أكد “السوداني” خلال استقباله “ستيوارت مونش”، قائد القوات المُشتركة لـ”حلف الناتو”، التزام بلاده بالشراكة القائمة مع الحلف الغربي في ملف مكافحة الإرهاب لضمان الأمن والاستقرار في العراق، هذا بجانب تشديده على استمرار بقاء القوات الأمريكية في البلاد لفترة زمنية محددة، لتقوية قدرات نظيرتها العراقية لمنع أية تهديدات لتنظيم “داعش”.

جميع هذه العوامل مجتمعة، بالإضافة للزيارات التي قام بها “السوداني” خلال الأشهر الأخيرة لعدد من دول المنطقة، وتأكيده على ضرورة التعاون الأمني مع العراق لدحر الإرهاب؛ ساهم في وجود حالة من التحسن الأمني في بلاد الرافدين، وأثبت المساعي الجدية لهذه الحكومة لإعادة الاستقرار للبلاد والحفاظ على البعثات الدبلوماسية الموجودة على أراضيها، وإعادة كل الدول العربية لعمل سفاراتها من بغداد، في دفع وتشجيع المملكة الغربية على إعادة فتح سفارتها في بغداد، وتبادل البلدين الخبرات المشتركة في ملف مكافحة التطرف والإرهاب، وهو ما تم تأكيده خلال اجتماع “السوداني” مع وزير الخارجية المغربي “بوريطة” خلال زيارته للعراق في 28 يناير الماضي، وقد سبق هذا إعلان وزير الخارجية العراقي خلال مشاركته في الاجتماع الوزاري للتحالف الدولي لمحاربة تنظيم “داعش” الذي عقد بمراكش المغربية في مايو الماضي، “إعادة عمل اللجنة العراقية-المغربية المشتركة وعقد اجتماعاتها في بغداد، لتفعيل التعاون الأمني والاستخباري للقضاء على الإرهاب في المنطقة ومحاربة الأفكار المتشددة”.

2- دعم بغداد للرباط في ملف مسألة الصحراء المغربية: عملت السلطات المغربية تحت قيادة الملك “محمد السادس” على مدار السنوات الماضية على جمع أكبر قدر ممكن من الدعم على الصعيدين الإقليمي والدولي لمشروع الحكم الذاتي فيما يتعلق بسيادة المغرب على الصحراء الغربية المعروف بـ”مغربية الصحراء”، وكان العراق من أوائل الدول التي استجابت للرسالة التي أطلقها ملك المغرب في أغسطس الماضي، حينما دعا “بعض الدول الشريكة للمغرب التي لا تؤيد بوضوح موقف الرباط بشأن ملف الصحراء إلى توضيح مواقفها، مشدداً على أن المعيار الذي ستتعامل به المملكة مع حلفائها الإقليميين والدوليين سيكون على أساس موقفها من ملف الصحراء”، إذ أعلن العراق في مناسبات عدة عن دعمه لوحدة أراضي المغرب، كان آخرها أواخر يناير الماضي، إذ قال وزير الخارجية العراقي خلال اجتماعه مع نظيره المغربي: “يدعم العراق وحدة الأراضي المغربية وجهود الأمم المتحدة بشأن قضية الصحراء، ويؤيد القرارات الأممية ذات الصلة، وحل الخلافات بالطرق السلمية دون المساس بالتراب المغربي، وتحقيق الأمن والاستقرار بالمنطقة”.

3- مساندة مغربية لعودة العراق إلى محيطه العربي بعيداً عن إيران: أدرك المغرب أن حكومة “السوداني” تعمل على تعزيز علاقاتها مع البلدان الخليجية والعربية لإعادة العراق مرة أخرى إلى محيطه العربي بعد سنوات من الغياب والتوتر جراء النفوذ الإيراني بالعراق. وعليه، فإن الرباط التي قطعت علاقاتها مع طهران منذ 2018، جراء دعم الأخيرة بطائراتها المسيرة لجبهة البوليساريو الانفصالية (تهدد هذه الجبهة أمن واستقرار المغرب إذ تدّعي عملها على تحرير الصحراء الغربية مما تراه استعماراً مغربياً)، يُلمح إلى أن إعادة فتح السفارة المغربية في العراق يكشف عن مساعي المملكة لعودة العراق لمحيطه العربي.

4- رؤية مشتركة لتعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية بعد جائحة كورونا وحرب أوكرانيا: في ظل الأوضاع الاقتصادية التي يشهدها المجتمع الدولي منذ جائحة كورونا في 2019 وصولاً للحرب الروسية الأوكرانية، وعمل دول العالم على إعادة هيكلة علاقاتها الاقتصادية؛ فإن هناك رغبة لدى الجانبين العراقي والمغربي لتعزيز وتطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين، ولذا تم الاتفاق خلال مباحثات وزير الخارجية المغربي عقب افتتاح سفارة بلاده في بغداد، على إعادة النظر في أكثر من 40 اتفاقية موقعة بين البلدين في فترات زمنية مختلفة، بجانب توفير التسهيلات اللازمة لدخول رجال الأعمال والمواطنين العراقيين إلى المغرب، إضافة إلى استجابة المملكة للجهود التي تبذلها السلطات العراقية لاستعادة أموالها المهربة إلى خارج البلاد، وذلك برفعها الحجز عن الأموال العراقية الخاصة بمصرفي “الرشيد” و”الرافدين” العراقيين المملوكين للحكومة في عدد من دول العالم (جُمدت أرصدة فروع هذه المصارف عندما فرض مجلس الأمن الدولي عقوبات على العراق عقب حرب الخليج عام 1991)، وفقاً لما أعلنه المتحدث باسم وزارة الخارجية العراقية “أحمد الصحاف” في 28 يناير الماضي.

إضافةً لذلك، فإن كلاً من الرباط وبغداد بحاجة ماسة لتدشين “شراكة اقتصادية” تسهم في النهوض بأوضاعهما الاقتصادية، وما يسهل من نجاح ذلك أن بلاد الرافدين تتمتع بثروات نفطية طائلة، في حين تملك المملكة المغربية البنية الاستثمارية لدعم الاقتصاد العراقي، لذلك تم الاتفاق خلال زيارة الوزير المغربي على توفير بلاده المناخ الاستثماري الملائم لرجال الأعمال العراقيين الذين يرغبون في إقامة مشروعات بالمملكة.

احتمالات قائمة

خلاصة القول، إن إعادة المملكة المغربية فتحَ سفاراتها بالأراضي العراقية بعد 18 عاماً يعد بداية إنهاء لحالة الجمود السياسي التي شابت العلاقات المغربية العراقية على مدار السنوات الماضية، وهو ما سيعود بالنفع على كلا البلدين في المجالات كافة (السياسية، والاقتصادية، والتجارية، وأيضاً الدبلوماسية) خلال الفترة المقبلة، الأمر الذي قد يقابله في الوقت ذاته حالة من الرفض وتحديداً من الجانب الإيراني، ووكلائه بالأراضي العراقية الممثلين في مليشيا الحشد الشعبي، مما قد يؤدي إلى تصعيد تلك المليشيا ضد حكومة “شياع السوداني” بعد حصولها على ضوء أخضر من النظام الإيراني الذي لا يريد أن يعود العراق إلى المحيط العربي، لأن ذلك قد يعرقل مشروعه التمددي بالمنطقة.