أعلن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، في لقاءٍ مع وسائل إعلام جزائرية، بثه التلفزيون الرسمي، في 24 فبراير الماضي، عن إعادة فتح سفارة بلاده في أوكرانيا، رغم العلاقات القوية للجزائر مع روسيا على كافة الأصعدة؛ مؤكداً أنه “اتخذ القرار مع وزير الشؤون الخارجية والجالية الوطنية بالخارج، وسنقوم على أساسه بإعادة فتح سفارة الجزائر في كييف، بعد عام من إغلاقها بسبب العملية العسكرية الروسية بأوكرانيا”.
تكيف دبلوماسي
اللافت أن الرئيس تبون كان قد لمح في حديثه لوسائل الإعلام الجزائرية، إلى وجود “مشروع خطة سلام” يمكن أن تطرحها بلاده لوقف الحرب في أوكرانيا، من دون الحديث عن أي تفاصيل، قائلاً: “دبلوماسيتنا معروفة بالعمل في صمت، لا يمكننا الحديث عن ذلك الآن، سنتحدث عن الأمور عندما تنضج”. وفي سياق مُقابل، أكد تبون أن الزيارات الأخيرة للمسؤولين الأمريكيين إلى الجزائر، من بينهم قائد القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا “أفريكوم”، مايكل لانغلي، تدخل في إطار بحث واشنطن عن نفوذ في المنطقة، مؤكداً على أنه “تمت طمأنة الأمريكيين بأننا لسنا خصوماً لهم، وعلى الأمريكيين أن يتأكدوا أننا، سياسياً وأيديولوجياً، بلد غير منحاز لا لهم ولا لغيرهم”.
وكما يبدو، فقد تبنت الجزائر، منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية، مُقاربة متوازنة تجاه أطراف الأزمة، عبر نهج “التوازن المرن”، بما يضمن عدم الدخول في سياسة المحاور، من خلال عددٍ من المؤشرات، لعل أهمها ما يلي:
1- تجنب التصويت ضد روسيا في الأمم المتحدة: لم تبد الجزائر موقفاً سياسياً رسمياً من الحرب الروسية الأوكرانية، سواء بالتأييد أو الإدانة، وركزت كافة البيانات الصادرة عن وزارة الخارجية الجزائرية على أوضاع الجالية الجزائرية في أوكرانيا، ومدى إمكانية مساعدتهم على العودة إلى البلاد.
ومثلما تجنبت الجزائر الانخراط في الأزمة، أو الاصطفاف إلى جانب أحد محاورها، فقد تجنبت التصويت ضد روسيا في الأمم المتحدة. إذ امتنعت الجزائر عن التصويت، إلى جانب 34 دولة أخرى خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 2 مارس 2022، على مشروع القرار الأمريكي الأوروبي الخاص بإدانة الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا. أيضاً، عارضت الجزائر، في أبريل الماضي، قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، بشأن “تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان”. وفسرت الجزائر هذه المعارضة بتأكيد أن “الجهود الدولية المتعددة الأطراف تستوجب الحوار بعيداً عن أي إقصاء”.
2- رفض منظومة العقوبات الغربية على موسكو: اتساقاً مع موقفها الأساسي من الحرب الروسية الأوكرانية، فقد تجنبت الجزائر الانضمام إلى منظومة العقوبات الغربية على موسكو. وقد تبدى ذلك بوضوح عبر استضافة الجزائر وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في مايو الفائت، الذي أكد على تقدير بلاده “للموقف الجزائري من الحرب في أوكرانيا، في الأروقة العربية والدولية”.
والمُلاحظ أن الرفض الجزائري للانضمام إلى منظومة العقوبات الغربية على موسكو، إنما يبدو منطقياً لجهة ما تقوم به روسيا من تعاون مع الجزائر في كثير من المجالات. ففي قطاع الطاقة، كمثال، قامت الجزائر بتعزيز قدراتها في تصدير الغاز الطبيعي، عبر التعاون مع روسيا، وقد وقعت شركة سوناطراك الجزائرية عقداً للبحث عن الغاز واستغلاله في منطقة “حقل العسل” بالصحراء الجزائرية؛ حيث من المأمول دخول هذا المشروع حيز الإنتاج خلال عام 2025.
3- الحفاظ على العلاقات مع أوكرانيا والغرب: لا يمكن عزل التحركات الجزائرية في الملف الأوكراني عن معادلة العلاقات الجزائرية الغربية؛ إذ يبدو أن الجزائر تستخدم الملف الأوكراني وتداعياته، وكذلك العلاقات مع روسيا، من أجل إدارة العلاقات مع الدول الغربية، خاصة مع التوترات التي شهدتها هذه العلاقات خلال السنوات الأخيرة، ولعل النموذج الأبرز على ذلك هو العلاقات الجزائرية الفرنسية.
وفي الوقت نفسه، تُعد روسيا ورقة مهمة للجزائر في علاقتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة أن الأخيرة اتخذت، من المنظور الجزائري، سياسات مُنحازة إلى المغرب خلال السنوات الأخيرة فيما يتعلق بملف الصحراء الغربية. ومن ثم فقد أوجدت الحرب الروسية الأوكرانية فرصة للجزائر، في سعيها إلى “تحدي العزلة” الذي واجهته مع دول الغرب، خلال السنوات القليلة الماضية؛ حيث يبدو أن هذه الحرب تُمثل فرصة مهمة للجزائر، لتستعيد أهميتها في نظر الولايات المتحدة، في الوقت الذي تُبقي فيه على قنوات الاتصال مفتوحة، مع روسيا، ومع الصين وإيران.
مكاسب استراتيجية
عبر تعاطيها “المتوازن” مع الحرب الروسية الأوكرانية، تسعى الجزائر إلى تعظيم مكاسبها، خاصة الاستراتيجية منها، وذلك على النحو التالي:
1- تنويع التقاربات السياسية الخارجية للجزائر: المتابع للموقف الجزائري من الحرب، بشكل عام، يجد أن هذا الموقف يأتي استمراراً لمحاولة الرئيس الجزائري في “تنويع التقاربات السياسية الخارجية”، وتجاوز فكرة التبعية للمحور الغربي، خصوصاً فرنسا، وهو النهج الذي ساد خلال حقبة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.
لكن اللافت أن الجزائر في الوقت الذي وقعت فيه مع روسيا، خلال العام 2021، بحسب موقع “آر تي عربي” في 27 أكتوبر 2022، صفقات سلاح تجاوزت قيمتها 7 مليارات دولار، وتحولت بها إلى أهم مستورد للأسلحة الروسية؛ إلا أنها -في الوقت نفسه- أجرت تدريبات مشتركة مع إحدى السفن الحربية الأمريكية، التي رست في ميناء “جيجل” شرق الجزائر، لتنفيذ التدريب المشترك، خلال الفترة 14-19 سبتمبر الماضي، الذي جاء تحت عنوان “تبادل الخبرات في مجال نزع الألغام”، وذلك وفقاً لما أعلنته وزارة الدفاع الجزائرية، في 14 سبتمبر الماضي.
2- تفعيل الدور الجزائري إقليمياً ودولياً: في أعقاب التغيرات السياسية التي شهدتها الجزائر، منذ نهاية عام 2018، وما تبعها من الإطاحة بنظام “بوتفليقة”، وتولي الرئيس عبد المجيد تبون السلطة، في عام 2019، حملت السياسة الخارجية للجزائر ملامح بارزة تتضح أهم معالمها في محاولة تفعيل مكانتها كـ”فاعل إقليمي” في شمال أفريقيا وجنوب المتوسط. ففي إطار كافة تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وخاصة تلك المتعلقة بمجالات الطاقة؛ تبدو محاولات الجزائر في تصدر المشهد كـ”فاعل”، حيوي ومؤثر، سواء بالنسبة لدول جوارها الجغرافي، في شمال أفريقيا ومنطقة الساحل الأفريقي، أو بالنسبة إلى دول جنوب أوروبا.
بل إن الجزائر رغم نهج التوازن المرن في التعاطي مع الحرب الروسية الأوكرانية، حاولت استدعاء الدور الروسي، في بعض القضايا ذات الطابع الإقليمي، مثل قضية الصحراء الغربية، كدور موازن لأدوار الدول الغربية المختلفة في هذه القضية؛ إلا أنها -من جانب آخر- أبدت بعض الانتقادات لهذا الدور نفسه، مثل الانتقادات غير المباشرة التي وجهها الرئيس الجزائري إلى مجموعة “فاغنر” الروسية، خاصة في مالي، فضلاً عن ليبيا.
3- تعزيز الشراكة مع أوروبا في ملف الطاقة: كانت الحرب في أوكرانيا، ضمن أهم الأسباب في النظر الأوروبي إلى الجزائر، باعتبارها مصدراً آمناً للحصول على الطاقة؛ وذلك في ضوء احتياطيات الجزائر الضخمة، خاصة من الغاز الطبيعي، وقربها الجغرافي من جنوب أوروبا؛ حيث تُعتبر ثالث أكبر مُصدر للغاز الطبيعي إلى الاتحاد الأوروبي. وقد أكدت مفوضة الاتحاد الأوروبي للطاقة، كادري سيمسون، في ختام منتدى أعمال الطاقة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي، في 11 أكتوبر الماضي، أن “أوروبا تُريد شراكة استراتيجية طويلة الأمد مع الجزائر، كمورد موثوق به للغاز إلى أوروبا”.
ويبدو أن هذه الرؤية الأوروبية تتفق مع ما تسعى إليه الجزائر؛ حيث أعرب المسؤولون الجزائريون، في أكثر من مناسبة، عن سعي بلادهم “لبناء شراكة مع أوروبا تكون ذات جدوى أكبر، ويمكن الاستفادة منها بشكل أوسع”؛ بما يُشير إلى أن الشراكة لا يجب أن تكون مؤقتة وتابعة للظروف، كما هو حاصل الآن، بل يجب أن تقوم على استراتيجية بعيدة المدى.
4- تعظيم المكاسب الاقتصادية والمالية لتجاوز الأزمات الداخلية: من المُلاحظ أن الجزائر قد استفادت من الحرب في أوكرانيا، تلك التي تسببت في ارتفاع أسعار النفط والغاز إلى مستويات قياسية؛ بما ساهم في حصول الجزائر على المزيد من المكاسب المالية، التي يحتاج إليها اقتصادها الوطني، لأجل أن يتعافى من عددٍ من المشكلات الداخلية التي تفاقمت خلال الفترة الأخيرة.
ونظراً لاعتماد الجزائر على صادراتها من النفط والغاز، باعتبارهما من مصادر الدخل القومي للبلاد، فإن ارتفاع أسعارهما قد وفر، بطبيعة الحال، إيرادات إضافية للجزائر، مكنها من الإعلان عن سد احتياجاتها فيما يتعلق بملف الأمن الغذائي؛ إذ أعلنت الجزائر تنويعها مصادر الحصول على القمح، تجنباً لتداعيات هذه الحرب.
حياد مُعلن
في هذا السياق، يمكن القول إن إعادة فتح السفارة الجزائرية في العاصمة الأوكرانية كييف، إنما يأتي تكيفاً دبلوماسياً، مع المناخ العام السائد دولياً، منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها، وهو التكيف الذي يأتي ضمن النطاق الأوسع لنهج التوازن بين المحاور الدولية المختلفة، الذي تحاوله الجزائر، خاصةً مع ارتباطها بعلاقات استراتيجية بطرفي النزاع، لأجل تعظيم دورها في المشهد الإقليمي والدولي، خاصة مع تحولها إلى وجهة طاقوية آمنة ومحتملة بالنسبة للدول الأوروبية.نهج التوازن المرن الذي يمكن التعبير عنه بأنه “حياد مُعلن” من جانب الجزائر، ساهم في نجاحها في إدارة علاقاتها، ليس فقط مع روسيا والدائرة الآسيوية، ولكن أيضاً مع الدول الغربية عامة، وخاصة تلك التي كانت تتسم علاقاتها معها بالتوتر خلال السنوات القليلة الماضية.