أطلق العراق عملية عسكرية في محافظة كركوك (29 يونيو 2023)، بقيادة محور الشمال للحشد الشعبي بمنطقة “قضاء دبس”، القريبة من مدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان، لمواجهة مجموعات تنظيم “داعش” التي تنشط عملياتياً في عدة مناطق بالمحافظة، وكان آخر العمليات الهجوم على ثكنة للجيش العراقي (29 يونيو 2023).
وتعد محافظة كركوك أحد مراكز نشاط التنظيم في العراق، إذ إنها تمثل إلى جانب محافظتي ديالى وصلاح الدين مثلث نشاط لـ”داعش”، إلى جانب النشاط العملياتي في محافظة الأنبار، بما يجعل العملية العسكرية في المحافظة تكتسب أهمية كبيرة في سياق استراتيجية مواجهة “داعش”.
دوافع رئيسية
لم يُحدد بيان إعلان إطلاق العملية العسكرية، النطاق الزمني لاستمرارها، ولكن يرتبط إطلاق هذه العملية بعدد من الأسباب، في سياق المعركة مع تنظيم “داعش”، وهي كالتالي:
1- استجابة مباشرة لنشاط “داعش”: يمكن النظر إلى العملية العسكرية الجديدة، باعتبارها استجابة مباشرة لنشاط مجموعات “داعش” في المحافظة المتصاعد خلال شهر يونيو الماضي، إذ سجلت العمليات المنسوبة للتنظيم في المحافظة، وفقاً لبيانات التنظيم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، نحو 5 عمليات إرهابية.
وهذا التصاعد خلال شهر يونيو الفائت، جاء عقب تراجع ملحوظ للنشاط العملياتي خلال شهري أبريل ومايو، فيما تساوى معدل النشاط بين شهري يونيو ومارس.
وبشكل عام، فإن ثمة ثباتاً في معدل النشاط العملياتي لتنظيم “داعش” في المحافظة، وفقاً لمعدل ربع سنوي، إذ بلغ إجمالي العمليات في الربع الأول من عام 2023 نحو 9 عمليات، بالتساوي مع الربع الثاني من عام 2023.
ويتضح من خلال منحنى النشاط العملياتي للتنظيم، منذ مطلع عام 2023، استمرار التراجع في المعدل على أساس ربع سنوي، إذ بلغ إجمالي العمليات خلال الربع الأخير من عام 2022 نحو 10 عمليات فقط، مقارنة بنحو 28 عملية خلال الربع الثالث من عام 2022، كما يوضح المخطط التالي:
2- تحول في أنماط العمليات الإرهابية: يرتبط بإطلاق العملية العسكرية في كركوك، ربما تحولات في أنماط الهجمات التي تنفذها مجموعات “داعش” في المحافظة، إذ إنه بمراجعة بيانات التنظيم، يتضح أن ثمة تحولات في أنماط الهجمات، خلال شهري مايو ويونيو 2023، إذ يبرز التركيز على تنفيذ عمليات لاستهداف ثكنات عسكرية، من خلال هجمات مباشرة على القوات العراقية.
وجاءت العملية الوحيدة للتنظيم التي أعلن عنها خلال شهر مايو الفائت، لاستهداف ثكنة عسكرية. وخلال شهر يونيو الفائت نفذ 4 عمليات لاستهداف ثكنات عسكرية، من إجمالي 5 عمليات مسجلة.
ورغم تنفيذ مجموعات التنظيم عمليات لاستهداف ثكنات عسكرية في محافظة كركوك في الأشهر السابقة، إلا أنه كانت في معدلات متراجعة مقارنة بالتركيز البارز خلال شهري مايو ويونيو، إذ كان التركيز سابقاً على عمليات استهداف آليات عسكرية بعبوات ناسفة، أو استهداف بعض أفراد القوات العراقية بالقنص، أو عبر هجوم مباشر على بعض الآليات العسكرية.
ورغم أن الهجوم على الثكنات العسكرية لا يعكس تطوراً كبيراً في القدرات العملياتية لمجموعات “داعش” في المحافظة، إلا أنه يمثل محاولات لتطوير الهجمات.
3- تمشيط الأودية الوعرة في المحافظة: تتسم الطبيعة الجغرافية في محافظة كركوك بالوعورة في بعض أجزائها، وتحديداً مع انتشار الأودية التي يعتقد أنها جغرافيا مناسبة لنشاط مجموعات “داعش”، والتي يسهل التمركز فيها واعتبارها قاعدة انطلاق لتنفيذ العمليات الإرهابية، قبل العودة إلى التمركز في تلك الأودية.
وتهدف العملية العسكرية في أحد جوانبها إلى تمشيط تلك الأودية التي يصعب الوصول إليها، لمواجهة نشاط التنظيم خلال الفترة المقبلة، والقضاء على مجموعات “داعش”. فرغم أن العملية العسكرية جاءت كاستجابة لتزايد معدلات النشاط العملياتي لمجموعات “داعش” في المحافظة خلال شهر يونيو الفائت،إلا أنها تأتي في إطار استمرار استراتيجية القوات العراقية خلال الأِشهر الفائتة، وتحديداً منذ العام الفائت، فيما يخص استراتيجية “استهداف الملاذات”، إذ ركزت القوات العراقية على توجيه بعض الضربات الاستباقية لملاذات التنظيم الآمنة.
كما أن ثمة أبعاداً جغرافية تتعلق بموقع المحافظة الاستراتيجي الذي يربط بعض المحافظات وبعضها بعضاً، خاصة بين مدن إقليم كردستان، وباتجاه العاصمة والمحافظات الجنوبية، إضافة إلى أنها تمتلك حدوداً مع محافظة صلاح الدين، ومنها إلى محافظة الأنبار، إضافة إلى اقترابها من محافظة نينوى، التي كانت أحد أبرز معاقل التنظيم باتجاه الحدود الغربية للعراق. وبالتالي فإن العملية العسكرية ربما تحاول تفكيك مثلث النشاط العملياتي لـ”داعش” بين محافظات كركوك وديالي وصلاح الدين، خاصة مع تراجع النشاط العملياتي في محافظة ديالى، بعد تكرار العمليات العسكرية.
4- احتواء تهديدات مجموعات “داعش”: وفقاً لمنحنى النشاط العملياتي لـ”داعش” في محافظة كركوك وحدها منذ الربع الثالث من عام 2022 وحتى الربع الثاني من 2023، لم يتضح وجود مؤشرات على قفزة في النشاط العملياتي بصورة تستدعي تنفيذ عملية، خاصة مع عدم انقطاع النشاط في المحافظة خلال الأعوام القليلة الفائتة، إلا أن العملية تعكس ربما تخوفات من استعادة مجموعات التنظيم نشاطها المتصاعد خلال الأشهر المقبلة.
وهنا، فإن تنفيذ عملية عسكرية محاولة لمحاصرة وتحجيم نشاط مجموعات “داعش” في المحافظة، واستمرار الضغط على تلك المجموعات، للحيلولة دون إمكانية تطوير الهجمات وتزايد معدل العمليات الإرهابية.
تحديات مركبة
وبقدر ما تمثله العملية العسكرية العراقية في محافظة كركوك خلال الفترة الحالية من أهمية لمواجهة مجموعات “داعش”، إلا أنها تواجه عدداً من التحديات، أبرزها:
1- محدودية النطاق الجغرافي للعملية: وفقاً للبيان الرسمي العراقي فإن العملية العسكرية لمواجهة تنظيم “داعش” في المحافظة تقتصر على “قضاء دبس” فقط، وهو نطاق جغرافي محدود مقارنة بالمساحة الإجمالية للمحافظة، يمكن أن يستغله التنظيم في توجيه بعض مجموعات في المحافظة بعيداً عن نطاق العملية، سواء داخل المحافظة أو خارجها، مع إمكانية تنفيذ عمليات دفاعية باستخدام العبوات الناسفة لتأمين مناطق تمركز مجموعاته، كما فعل التنظيم لمحاولة التصدي للعمليات العسكرية في محافظة ديالى.
وعند مقارنةالنطاق الجغرافي للعملية العسكرية في “قضاء دبس”، والنطاق الجغرافي للنشاط العملياتي لـ”داعش”، يتضح أن نطاق العملية العسكرية لم يشهد سوى عملية واحدة فقط خلال شهر يونيو الفائت، مقارنة بـ 3 عمليات في “قضاء الرشاد”، غير المشمول بالعملية العسكرية، رغم أنه يحتل المرتبة الأولى في نطاق الاستهداف من قبل “داعش”.
2- الهيكلة العملياتية لتنظيم “داعش”: لجأ تنظيم “داعش” إلى تنفيذ هيكلة داخلية لعناصره على المستوى العملياتي بشكل محدد، وفقاً لاستراتيجية التكيف مع المتغيرات الميدانية التي شهدها العراق، عقب تراجع مساحات الأراضي التي كانت تحت سيطرة التنظيم عام 2017، على وقع الضربات التي نفذتها القوات العراقية بمشاركة ودعم التحالف الدولي لمواجهة “داعش”، بقيادة الولايات المتحدة.
وأقدم التنظيم على تقسيم عناصر إلى مجموعات صغيرة، تتشكل من بضعة أفراد، لا تتجاوز 10 أفراد، وفقاً لتقديرات عراقية، وذلك للتكيف مع الضربات الجوية التي تنفذها القوات العراقية، لتقليل الخسائر البشرية في صفوف التنظيم.
وبالتالي، فإنه يتوقع أن تواجه العملية العسكرية عقبات أمام القضاء الكامل على مجموعات عناصر “داعش”، في ضوء الهيكلة الحالية التي تتيح قدراً من حرية الحركة والتسلل بين المناطق دون رصدها بشكل دقيق.
3- حدود توافر معلومات استخباراتية دقيقة: طبيعة المواجهات مع مجموعات “داعش” وفقاً للهيكلة الحالية، تفرض توافر معلومات استخباراتية دقيقة لتحقيق الأهداف المنتظرة من العملية العسكرية في محافظة كركوك، في تحجيم نشاط “داعش” في المحافظة، وتمشيط الأودية الوعرة.
ورغم أن القوات العراقية نفذت عمليات عسكرية، ونجحت في تحجيم نشاط “داعش” بشكل عام في العراق، بما يعني توافر معلومات دقيقة لطبيعة تحركات عناصر التنظيم، إلا أن هذا لم يتحقق بصورة كاملة في حالة كركوك، وتحديداً قبل انطلاق العملية العسكرية التي لم تنطلق إلا عقب تزايد عمليات التنظيم، وفي حالة توافر معلومات استخباراتية في ضوء نشاط مستمر لجمع المعلومات، حول تحركات عناصر التنظيم في المحافظة، وتقييم حدود التهديد، كان يمكن إطلاق عملية عسكرية استباقية قبل تزايد معدل العمليات.
4- إمكانية تنقل عناصر “داعش” بين المحافظات: تتسم الحدود بين المحافظات بالهشاشة الأمنية، التي تمكن عناصر “داعش” من التحرك بين المحافظات، خاصة مع الهيكلة الحالية، التي تعتمد على تقسيم العناصر إلى مجموعات صغيرة، وبالتالي فإن ذلك يُعد أحد التحديات التي تواجه العملية العسكرية في كركوك، وغيرها من العمليات العسكرية.
فمع تلك الحدود الهشة، يمكن لعناصر التنظيم التنقل بعيداً عن النطاق الجغرافي للعمليات العسكرية، والاحتماء في بمناطق بعيدة، بانتظار فترة انتهاء العمليات، كما أن عدم التنسيق الكامل بين القوات العراقية، وقوات “البيشمركة” التابعة لإقليم كردستان، المشاركة في مواجهة الإرهاب، يمثل فرصة للتنظيم للتسلل عبر المناطق الرخوة غير الخاضعة لمراقبة أمنية محكمة.
5- ضعف السيطرة على المناطق المحررة: واتصالاً بحالة الهشاشة الأمنية بين المحافظات، فإن أحد التحديات التي تواجه العراق، عقب انتهاء العمليات العسكرية، ومن بينها العملية في كركوك،هو ضعف السيطرة على المناطق المحررة، سواء على المستوى الأمني، أو على مستوى ممارسة الدولة لدورها في تقديم الخدمات للمواطنين، إذ يمكن تحقيق نجاحات في تحجيم نشاط “داعش” على مستوى بعض المناطق، ولكن مع انتهاء العملية العسكرية يمكن لعناصر “داعش” استعادة النشاط مجدداً، اعتماداً على الفراغ الأمني.
وأمام هذه الأزمة، يتجه العراق إلى تسليم “مراكز المدن في المحافظات المحررة إلى وزارة الداخلية على مراحل، عقب القضاء على 99% من قوة داعش”، وفقاً لتصريحات اللواء يحيى رسول، المتحدث باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية.مواجهة مستمرة
رغم أن القوات العراقية نفذت على مدى السنوات الفائتة منذ عام 2017، عدداً من العمليات العسكرية في محافظة كركوك لمواجهة النشاط العملياتي لتنظيم “داعش”، إلا أنها لم تحسم المعركة لصالح القضاء على مجموعات التنظيم، بما يشير إلى أن المواجهات وتفكيك مجموعات التنظيم وخلاياه في المحافظات العراقية، وخاصة في نطاق المثلث بين محافظات “كركوك وصلاح الدين وديالى”، يحتاج إلى استمرار العمليات الاستباقية، اعتماداً على نشاط مكثف متواصل لجمع المعلومات، حتى في ظل تراجع النشاط العملياتي للتنظيم.