لا يُعبّر إطلاق إيران صواريخ باليستية عن توجه جديد تتبناه الأخيرة للتعامل مع ما ترى أنه تهديدات تواجه أمنها ومصالحها، إذ إن إيران دائماً ما كانت تستخدم إطلاق تلك الصواريخ كآلية للرد على الضغوط والعقوبات التي تفرضها الدول الغربية، التي كانت تعتبر، قبل رفع الحظر الأممي المفروض على إيران والخاص بالأنشطة المرتبطة بتلك الصواريخ في 18 أكتوبر الماضي، أن ذلك يمثل انتهاكاً للاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه بين إيران ومجموعة “5+1” في 14 يوليو 2015.
لكن الجديد في هذا السياق يتمثل في إطلاق تلك الصواريخ عبر منصة متحركة، حيث اعتادت إيران في السابق أن تقوم بإطلاق تلك الصواريخ عبر قواعد منتشرة في أنحاء مختلفة من أراضيها. لكنها في 13 فبراير الجاري، أعلنت نجاح تجربة إطلاق صاروخين باليستيين من طراز “فاتح” يصل مداهما إلى 1700 كم من على متن سفينة “الشهيد مهدوي” في خليج عمان، حيث أكد قائد الحرس الثوري حسين سلامي أن الصاروخين أصابا أهدافهما بإتقان داخل الصحراء الإيرانية.
دوافع عديدة
يمكن تفسير اتجاه إيران إلى اتخاذ خطوة تصعيدية جديدة في مواجهة الدول الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، إلى جانب إسرائيل في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- تزايد احتمالات تمدد الصراع: رغم كل الجهود التي تُبذل من أجل ضبط مستوى التصعيد الحالي الذي تفاقم عقب قيام كتائب القسام (الذراع العسكرية لحركة حماس) بشن عملية “طوفان الأقصى” داخل غلاف غزة، في 7 أكتوبر الماضي، والتي أدت إلى اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ونشوب المواجهات بين إسرائيل، إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية من جهة، والمليشيات الموالية لإيران في العراق وسوريا واليمن من جهة أخرى؛ إلا أن احتمالات تمدد الصراع الحالي ما زالت قائمة بقوة.
إذ ترى إيران أن إسرائيل توجه من الإشارات ما يفيد بأنها غير معنية بالوصول إلى تسوية قريبة للحرب الحالية، وأنها تحاول استغلال الوضع الحالي لإضعاف قدرات القوى المناوئة لها، مستفيدة في هذا السياق من الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية. وقد انعكس ذلك بشكل واضح في التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان خلال زيارته للعاصمة اللبنانية بيروت، في 12 فبراير الجاري، والتي قال فيها إن “إسرائيل تريد توريط الولايات المتحدة الأمريكية في مستنقع الحرب في الشرق الأوسط”، مضيفاً: “يجب على الولايات المتحدة الأمريكية أن تتوقف عن دعم إسرائيل”.
2- اندلاع حرب مباشرة بين إسرائيل وحزب الله: تسعى إسرائيل في الوقت الحالي، وفقاً لرؤية طهران، إلى استنزاف قدرات القوى المناوئة لها، بالتوازي مع تصاعد حدة العمليات العسكرية التي تشنها في قطاع غزة. وفي هذا السياق، فإنها تركز في الوقت الحالي على تبني سياسة الاغتيالات وتدمير البنية التحتية لتلك القوى، لا سيما حزب الله اللبناني. وقد أسفرت المواجهات العسكرية بين إسرائيل والحزب، على مدى الأشهر الأربعة الماضية، ومنذ اندلاع الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، عن مقتل 200 شخص في لبنان، من بينهم 175 عنصراً في حزب الله، مقابل 12 جندياً إسرائيلياً وبعض المدنيين. وكانت آخر جولات الصراع بين الطرفين، في 14 فبراير الجاري، عندما شنت تل أبيب هجمات على جنوب لبنان، رداً على هجوم شنه حزب الله وأسفر عن مقتل جندية إسرائيلية.
ورغم أن إيران ما زالت حريصة على دفع حلفائها إلى ضبط مستوى التصعيد مع إسرائيل، على نحو بدا جلياً في الزيارة التي قام بها عبد اللهيان إلى بيروت، في 13 فبراير الجاري، ورغم متابعتها للجهود التي تبذلها قوى عديدة، مثل الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، من أجل تقليص حدة التوتر بين حزب الله وإسرائيل؛ إلا أنها لم تعد تستبعد أن تتصاعد حدة المواجهات بين الطرفين لتصل إلى مرحلة الحرب المباشرة.
3- تزايد احتمالات حدوث “احتكاكات” عسكرية مع واشنطن: كان لافتاً أن القادة العسكريين الإيرانيين بدؤوا في توجيه تحذيرات من العواقب التي يمكن أن تنجم عن استهداف سفن إيرانية. ورغم أنهم لم يحددوا ما إذا كانت هذه السفن تجارية أو حربية، خاصة أن ذلك جاء بالتوازي مع تأكيد الولايات المتحدة الأمريكية أنها ستتعقب ناقلات النفط الإيرانية؛ إلا أن ذلك -في مجمله- لا ينفي أن إيران لم تعد تستبعد أن تقع احتكاكات عسكرية بين سفنها وقطع حربية أمريكية.
عدم استبعاد إيران هذا الاحتمال انعكس في توجيهها تحذيراً إلى الولايات المتحدة الأمريكية، في 5 فبراير الجاري، من عواقب استهداف سفينتي شحن راسيتين في البحر الأحمر والمحيط الهندي، تقول واشنطن إن الحرس الثوري يستخدمهما لأغراض التجسس وجمع المعلومات الاستخباراتية. وقد جاء ذلك في أعقاب اتساع نطاق التصعيد بين الولايات المتحدة الأمريكية ومليشيا الحوثيين، بعد أن قامت الأولى بتوجيه ضربات عديدة ضد مواقع الثانية، بداية من 12 يناير الماضي، رداً على الهجمات التي تشنها في البحر الأحمر.
4- استمرار “تراكمات” التوتر مع باكستان: رغم أن كلاً من إيران وباكستان تمكنتا من احتواء الأزمة التي فرضها التصعيد العسكري المتبادل بين الطرفين خلال الفترة ما بين 16 و18 يناير الفائت؛ إلا أن رواسب تلك الأزمة ما زالت قائمة. إذ لا يبدو أن مساعي الدولتين لرفع مستوى التنسيق الأمني للتعامل مع التهديدات التي تواجهها الحدود المشتركة بينهما، والتي تفرضها أنشطة وتحركات بعض التنظيمات المسلحة، حققت نجاحاً كبيراً، على نحو يوحي بأن احتمال تجدد تلك الأزمة ما زال قائماً. وهنا، فإن إيران تسعى عبر تعزيز قدراتها العسكرية وامتلاك آليات جديدة لدعم النفوذ العسكري في مناطق بعيدة عن حدودها إلى توجيه رسالة إلى باكستان تفيد بأن لديها القدرة على ممارسة ضغوط أكبر على إسلام أباد في حالة تفاقم الخلافات مجدداً، خاصة أن الأخيرة سعت عبر الضربات التي شنتها داخل الأراضي الإيرانية إلى استعراض قدراتها العسكرية لمنع إيران من الإقدام مجدداً على تبني الخيار نفسه في التعامل مع الجماعات المسلحة التي تشن هجمات ضد قوات الحرس الثوري وحرس الحدود انطلاقاً من الحدود المشتركة.
ختاماً، يمكن القول إن إيران سوف تواصل تحركاتها لاستعراض قدراتها العسكرية، لا سيما أن إصرار إسرائيل على المضيّ قدماً في حربها داخل قطاع غزة، فضلاً عن استمرار تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية والمليشيات الموالية لإيران؛ كلها تعني أن التوتر والتصعيد سوف يبقى عنواناً رئيسياً للتفاعلات التي تجري بين الأطراف الثلاثة خلال المرحلة القادمة.