سعى الاتحاد الأوروبي إلى ترحيل قرار تصنيف الحرس الثوري كمنظمة إرهابية -مؤقتاً- لاعتبارات عديدة، منها وجود تباينات في المواقف الأوروبية إزاء آليات إدارة العلاقات مع إيران، والحفاظ على قنوات التواصل مع طهران، وتجنب دفع الأخيرة إلى رفع مستوى أنشطتها النووية بشكل يفرض تهديدات مباشرة على أمنها ومصالحها، ومحاولة الإبقاء على فرص الوصول إلى الاتفاق النووي رغم تعثر المفاوضات.
فقد أقرّ وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في اجتماعهم، في 23 يناير الجاري، عقوبات جديدة على إيران، حيث تمت إضافة 37 شخصاً لقائمة الاتحاد للأفراد والكيانات الخاضعين لعقوبات بسبب انتهاكات حقوق الإنسان. إلا أن اللافت -في هذا السياق- هو أن الاتحاد كان حريصاً على عدم تحويل توصية البرلمان الأوروبي بتصنيف الحرس الثوري كمنظمة إرهابية إلى خطوة إجرائية على الأرض، حيث أشار مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد جوزيب بوريل إلى أن هذه الخطوة تحتاج إلى قرار من المحكمة، في إشارة إلى ضرورة صدور حكم من إحدى المحاكم في واحدة من الدول الأوروبية يدين بشكل مباشر الحرس الثوري.
هذا الاحتمال تحديداً الخاص بترحيل خطوة تصنيف “الباسدران” منظمة إرهابية من جانب الاتحاد الأوروبي، سبق أن ألمح إليه وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، الذي قال إنه “حسب تصريحات الرئيس الدوري للاتحاد الأوروبي، فإن الغربيين لا يسعون لتطبيق القرار”.
دوافع عديدة
لا يمكن القول إن هذا القرار استُبعد نهائياً، فالأرجح أنه تم ترحيله إلى حين تبلور ظروف أكثر نضوجاً يمكن أن تفرض هذا الخيار أمام الدول الأوروبية. وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى دوافع عديدة أدت إلى تأجيل هذا القرار، يتمثل أبرزها في:
1- وجود تباينات أوروبية في التعامل مع إيران: لا يبدو أن الدول الأوروبية قد توافقت بشكل نهائي حول آليات إدارة العلاقات مع إيران. فرغم الإدانات الواسعة من جانب هذه الدول، سواء بسبب إقدام السلطات الإيرانية على إعدام نائب وزير الدفاع الأسبق (الحاصل على الجنسية البريطانية)، أو بسبب الانتهاكات التي ترتكبها في مواجهة المحتجين، أو بسبب تعثر المفاوضات النووية؛ إلا أن هناك دولاً ما زالت -على ما يبدو- تفضل عدم اتخاذ هذه الخطوة حالياً، في مواجهة الدول التي تتبنى هذا التوجه وفي مقدمتها ألمانيا. بل إن هناك تقارير تشير إلى أن بوريل نفسه ليس من ضمن المسؤولين المؤيدين لهذا النهج، بدليل عدم مشاركته في الجلسة التي أصدر فيها البرلمان الأوروبي توصيته.
2- الاحتفاظ بخيار الوصول إلى صفقة نووية: يبدو أن هناك اتجاهاً أوروبياً ما زال يدعو إلى التريّث في اتخاذ تلك الخطوة، للحفاظ على الفرصة المحدودة للوصول إلى صفقة نووية مع إيران، حتى رغم تعثر المفاوضات منذ الرد الإيراني على المسودة التي طرحها بوريل، والتي كانت قاب قوسين أو أدنى من الإعلان عن إبرام اتفاق جديد. ووفقاً لرؤية هذا الاتجاه، فإن إعلان تصنيف الحرس الثوري منظمة إرهابية من شأنه توجيه ضربة قاضية للمفاوضات النووية، وهو خيار تبدو الدول الغربية حريصة على عدم الإعلان عنه، على نحو بدا جلياً في تصريحات سبق أن أدلى بها الرئيس الأمريكي جو بايدن، في 21 ديسمبر الفائت، وقال فيها إن “الاتفاق النووي مات، لكن لن نعلن عن وفاته”. ويبدو أن هذا الاتجاه ما زال نافذاً داخل الاتحاد الأوروبي، بدليل حرص بعض المسؤولين في الاتحاد على مواصلة إجراء اتصالات مع إيران، بل إن تصريحات وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، التي استبعد فيها إقدام الاتحاد على تلك الخطوة تُشير إلى أن بعض مسؤولي الاتحاد وجهوا بالفعل رسائل طمأنة لإيران في هذا الصدد.
3- تجنّب رد الفعل الإيراني إزاء القرار الأوروبي “المحتمل”: حرص المسؤولون الإيرانيون على توجيه تهديدات مباشرة إلى الدول الأوروبية من تبعات اتخاذ هذه الخطوة، وذلك بعد التوصية التي أصدرها البرلمان الأوروبي. إذ قال وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، في 19 يناير الجاري، إن الاتحاد سوف يُطلق النار على قدميه في حالة اتخاذه تلك الخطوة، محذراً في اتصال هاتفي مع بوريل من الارتدادات التي يمكن أن يفرضها ذلك. فيما قال رئيس مجلس الشورى محمد باقري قاليباف، إن إيران سوف ترد بشكل حاسم على تلك الخطوة المحتملة، مشيراً إلى أن إيران سوف تعتبر الجيوش الأوروبية منظمات إرهابية.
وربما يمكن القول إن بعض الدول الأوروبية تتحسب من إمكانية إقدام إيران على استهداف مصالحها بالفعل، رداً على تلك الخطوة المحتملة. وتستند في هذا السياق إلى أن إيران سبق أن استهدفت مصالح أمريكية، وما زالت تتبنى الآلية نفسها في إدارة علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية. وهنا فإن احتمال الاستهداف يأتي في وقت غير مواتٍ بالنسبة للدول الأوروبية، في ظل تصاعد حدة الحرب الروسية-الأوكرانية، واتجاه تلك الدول إلى رفع مستوى دعمها العسكري لأوكرانيا لتمكينها من مواجهة التصعيد العسكري الروسي بمساعدة إيران نفسها.
واللافت -في هذا السياق- هو أن هذا الاستهداف قد يمتد إلى المصالح الأوروبية في مياه الخليج العربي، في سياق توافر قدرة بحرية لدى إيران على تحقيق ذلك، وهو ما يمكن أن يفرض تهديدات غير مسبوقة بالنسبة لهذه الدول.
وسبق للحرس الثوري الإيراني أن قام باحتجاز سفينتين تحملان العلم اليوناني، في مايو 2022، وذلك رداً على قيام السلطات اليونانية بتوقيف سفينة إيرانية محملة بالنفط في أبريل من العام نفسه.
4- تزايد احتمالات اتجاه إيران إلى رفع أنشطتها النووية: يبدو أن الدول الأوروبية التي فضّلت تأجيل اتخاذ تلك الخطوة سعت إلى تجنب اتجاه إيران، في سياق ردها على ذلك، إلى رفع مستوى أنشطتها النووية، بشكل يمكن أن يساهم في اقترابها من المرحلة الخطيرة الخاصة بامتلاك القدرة على إنتاج القنبلة النووية. وكان لافتاً أن صحيفة “ذا إكسبريس” (The Express) البريطانية نشرت تقريراً في 23 يناير الجاري، جاء فيه أن إيران ربما يكون أمامها أسابيع لزيادة مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسبة 90% اللازمة لإنتاج رأس حربي وتركيبه على صاروخ باليستي. وبالطبع، فإن ذلك يعني زيادة احتمالات نشوب حرب في المنطقة، بين إيران وإسرائيل، ومن خلفها الولايات المتحدة الأمريكية، باعتبار أن تل أبيب وواشنطن تضعان خطاً أحمر لن يسمح لإيران بتجاوز هذه المرحلة.
تغير مشروط
مع ذلك، يبقى أن هذا الخيار ما زال قائماً، وإن كان مؤجلاً. ويعني ذلك في المقام الأول أن الدول الأوروبية قد تقدم على هذه الخطوة في حالة ما إذا واصلت إيران تقديم مزيد من الدعم العسكري لروسيا لمساعدتها في إدارة عملياتها العسكرية في أوكرانيا، وفي حالة ما إذا واصلت استخدام ملف مزدوجي الجنسية كورقة ضغط ضد هذه الدول، فضلاً عن تطوير برنامجها النووي، للدرجة التي يمكن أن تصل بها إيران إلى المستوى الذي أشارت إليه صحيفة “ذا إكسبريس”.
وهنا، فإن الدول الأوروبية سوف تسعى في هذه الحالة إلى الاقتراب من السياسة الأمريكية بشكل كامل، على نحو سوف يساعد الولايات المتحدة الأمريكية في تكوين كتلة غربية مناوئة لإيران، وسوف يوفر مزيداً من الخيارات المتاحة أمام تلك الدول، على غرار التلويح من جديد بتفعيل ما يسمى “آلية سناب باك” التي تعني العودة التلقائية للعقوبات الدولية التي كانت مفروضة على إيران وتم تعليقها بعد الوصول للاتفاق النووي في 14 يوليو 2015.