أمر رئيس الوزراء السوداني “عبدالله حمدوك”، في 27 نوفمبر 2021، بإعفاء بعض القيادات الأمنية داخل العاصمة الخرطوم، حيث أصدر قراره استناداً إلى أحكام الوثيقة الدستورية بإعفاء المدير العام لقوات الشرطة السودانية الفريق أول شرطة حقوقي “خالد مهدي إبراهيم”، ونائبه فريق شرطة حقوقي “الصادق علي إبراهيم” من منصبيهما. وفي المقابل، أصدر “حمدوك” قراراً بتعيين فريق شرطة حقوقي “عنان حامد محمد عمر” مديراً عاماً جديداً لقوات الشرطة، ولواء شرطة “مدثر عبدالرحمن نصر الدين عبدالله” نائباً له ومفتشاً عاماً.
عوامل مترابطة
يمكن تفسير قرارات رئيس الوزراء “حمدوك” الخاصة بإقالة بعض القيادات الأمنية وتعيين آخرين بدلاً منهم في هذا التوقيت، من خلال جملة من الأسباب، من أهمها ما يلي:
1- استخدام القوة المُفضية إلى قتل المتظاهرين: يمكن تفسير قرار إعفاء مدير الشرطة بالعاصمة الخرطوم ونائبه في إطار الاتهامات الموجهة إلى القوات الأمنية والشرطية باستخدام القوة الأمنية المفرطة ضد المتظاهرين السلميين أثناء مشاركاتهم في المسيرات المنددة بإجراءات 25 أكتوبر بعزل حكومة “حمدوك”، وما أعقب ذلك من مسيرات متعددة للتعبير عن رفضهم لذلك، وأيضاً رفضهم للاتفاق السياسي الموقّع بين المكون العسكري و”عبدالله حمدوك”، حيث اتهمت قوى الحرية والتغيير الأجهزة الأمنية بقتل حوالي 40 شخصاً خلال هذه المسيرات الاحتجاجية، وإصابة آخرين، وهو الأمر الذي نفاه الفريق “البرهان” في تصريحاته الأخيرة لصحيفة “فاينانشال تايمز” الأمريكية؛ إذ أشار إلى أن قتلى التظاهرات لم يتعدَّ 10 أشخاص فقط، وإلى حين بدء التحقيقات في مقتل هؤلاء المتظاهرين رأى “حمدوك” إقالة هذه القيادات الأمنية.
2- بدء إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية: يسعى رئيس الوزراء “عبدالله حمدوك” إلى تنفيذ بنود خطة الإصلاح التي سبق وأن طرحها في شهر يوليو الماضي، وخاصة فيما يتعلق بإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والعسكرية، ورأى أن التوقيت الحالي يُعد مثالياً لتنفيذ ذلك، بدءاً بتغيير بعض القيادات الأمنية التي يرى عدم قدرتها على تولي مهام مناصبهم بما يتماشى مع التغيرات والتطورات السياسية الحاصلة في مرحلة ما بعد إجراءات 25 أكتوبر الماضي، حيث جاء تغيير هذه القيادات بالتزامن مع إعلان رئيس المجلس الانتقالي الفريق “البرهان” تغيير وإقالة عدد من الضباط داخل جهاز المخابرات العامة، وإعفاء البعض الآخر من الخدمة، حيث تمّت إحالة عددٍ من الضباط برتبتي اللواء والعميد للمعاش.
وشملت هذه القرارات إقالة الفريق “جمال عبدالمجيد” مدير جهاز المخابرات العامة ومدير الاستخبارات العسكرية، وتعيين اللواء “محمد أحمد صبير” مديراً للاستخبارات العسكرية، واللواء “أحمد إبراهيم مفضل” مديراً لجهاز المخابرات العامة في البلاد، وهو ما قد يُفهم أنه محاولة من رئيس المجلس السيادي الانتقالي لاحتواء الاحتجاجات، خاصة أن الفريق “البرهان” قد سبق وقدم وعوداً بإصلاح قطاعات الأمن والمخابرات ضمن خطة لإعادة هيكلة مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية، الأمر الذي يرجح احتمال وجود اتفاق مسبق بين كلٍّ من الفريق “البرهان” ورئيس الوزراء “حمدوك” ببدء إجراءات إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والمخابراتية وفقاً لخطة متفق عليها بين الطرفين بغرض تهدئة الأجواء الداخلية غير المستقرة، وربما تشهد الفترة القادمة الحديث عن دمج قوات الدعم السريع ضمن الجيش النظامي للدولة، مع البحث في تنفيذ الترتيبات الأمنية الخاصة بدمج عناصر بعض الجماعات المسلحة الموقعة على اتفاق السلام النهائي في جيش نظامي ذي هوية واحدة تحت سيادة الدولة السودانية.
3- احتواء غضب الاحتجاجات الشعبية: إذ إن تغيير هذه القيادات الأمنية يصبّ في مصلحة احتواء المتظاهرين المطالبين بالتحقيق مع المتورطين من قيادات الأجهزة الأمنية والعسكرية في استخدام العنف ضد المتظاهرين، وإعلان القوى الثورية مواصلتها التظاهرات والاحتجاجات إلى حين الكشف عن المتورطين في ذلك الأمر وتقديمهم لمحاكمات عادلة وسريعة، الأمر الذي دفع “حمدوك” إلى اتخاذ مثل هذه القرارات في محاولة منه لتصحيح الأوضاع السياسية والأمنية المضطربة في البلاد، وتهدئة واحتواء المتظاهرين الذين يطالبون بالإفراج عن كافة المعتقلين السياسيين والتحقيق في الوفيات التي حدثت أثناء الاحتجاجات خلال الأسابيع الأخيرة، بما يسهم في إيجاد بيئة داخلية مساعدة على تنفيذ مهام عمله خلال الفترة القادمة.
دلالات هامة
حملت القرارات الأخيرة لرئيس الوزراء “عبدالله حمدوك” مجموعة من الدلالات السياسية والأمنية الهامة، ومن أبرزها ما يلي:
1- اتخاذ القرارات عقب مرور ستة أيام فقط على عودة “عبدالله حمدوك” إلى منصبه كرئيس للوزراء: بعد التوقيع على الاتفاق السياسي مع رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق “عبدالفتاح البرهان”، والذي يقضي باحترام تجربة الحكم المدني وتقاسم السلطة الانتقالية بين المكونين المدني والعسكري، والتوافق بشأن إدارة شؤون البلاد وفقاً للوثيقة الدستورية الحاكمة لهذه المرحلة الانتقالية الهامة، وحتى تسليم المكون العسكري السلطة بشكل كامل إلى حكومة مدنية منتخبة بعد إجراء الانتخابات المقررة في عام 2023، وفقاً للتصريحات الأخيرة للفريق “عبدالفتاح البرهان” التي أشار فيها إلى عزمه تسليم السلطة واعتزال الحياة السياسية في منتصف عام 2023.
2- استعادة الشعبية المفقودة: يُمكن للقرارات الأخيرة التي أصدرها رئيس الوزراء “عبدالله حمدوك” أن تساعده في استعادة كسب تأييد بعض القوى السياسية والمدنية وخاصة قوى الحرية والتغيير التي أعلنت رفضها موافقةَ “حمدوك” على الاتفاق السياسي والتوقيع عليه، وإعلانهم مواصلة الاحتجاجات السلمية لحين القضاء على إجراءات 25 أكتوبر، وفي ظل حصول “حمدوك” على شرعية إقليمية ودولية؛ إلا أنه يحتاج إلى شرعية داخلية تساعده على تنفيذ مهام منصبه وحتى انتهاء الفترة الانتقالية الحالية، وهكذا فقد رأى “حمدوك” أن تغيير القيادات الأمنية المسؤولة عن قوات الشرطة التي تعاملت مع المتظاهرين السلميين خلال الفترة الأخيرة قد يساعده في احتواء غضب المتظاهرين، والعودة لتأييده مرة أخرى كما كان عليه الوضع قبل 25 أكتوبر الماضي، ومن ثم استعادة شعبيته التي أصبحت مفقودة حالياً بعد توقيعه على الاتفاق السياسي مع المكون العسكري.
3- التماشي مع التوجيهات الخارجية: حيث جاءت القرارات الخاصة بتغيير القيادات الأمنية والمخابراتية في الوقت الذي تمارس فيه القوى الدولية والإقليمية ضغوطاً متزايدة على النظام السياسي الانتقالي الحالي في السودان، وخاصة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية التي تواصل انخراطها بشكل مباشر في الشؤون الداخلية للبلاد، والتي نجحت ضغوطها في عقد الاتفاق السياسي الأخير بين الفريق “البرهان” و”حمدوك” لإعادة الأخير للسلطة، وتصدر واشنطن توجيهاتها المستمرة للمسؤولين السودانيين لإنجاح تجربة الحكم المدني الانتقالي.
وقد تزامن ذلك مع اتخاذ الإدارة الأمريكية قراراً يقضي برفع مستوى تمثيلها الدبلوماسي من القائم بالأعمال إلى سفير، حيث تم تعيين واشنطن “جون جودفري” كأول سفير لها بالخرطوم، وهو أول سفير أمريكي منذ عام 1996، ويحمل ذلك مؤشراً هاماً على الرضا الأمريكي بشأن استجابة السلطات السودانية لضغوط واشنطن من أجل تصحيح المسار الانتقالي والاستجابة لمطالب الشعب السوداني.
إنجاح الانتقال
خلاصة القول، تعكس القرارات الخاصة بتغيير القيادات الأمنية والمخابراتية في السودان، حرص رئيس الوزراء “عبدالله حمدوك” على احتواء الاحتجاجات الشعبية، والتأكيد على استجابته لمطالب القوى السياسية والمدنية والثورية، وخاصة فيما يتعلق بالتحقيق في مقتل عشرات المتظاهرين، وأيضاً بشأن إعادة هيكلة الأجهزة والمؤسسات الأمنية والعسكرية، الأمر الذي قد يُسهم في استعادة “حمدوك” شعبيته عبر تأييد هذه القوى له مرة أخرى، ومن ثم إنجاح الفترة الانتقالية الحالية، مع عدم استبعاد أن تشهد الفترة القادمة مزيداً من القرارات والإجراءات في محاولة لكسب رضا المواطنين.