لقاء العلمين والتقاليد الجديدة فى السياسات العربية – الحائط العربي
لقاء العلمين والتقاليد الجديدة فى السياسات العربية

لقاء العلمين والتقاليد الجديدة فى السياسات العربية



اللقاء يشير إلى أهم ملامح العلاقات العربية حاليا وهو «الثقة البينية» التى أرستها السياسة المصرية فى المحيط العربى بعد 30 يونيو

حمل اللقاء الأخوى فى العلمين الجديدة، والذى ضم، إلى جانب مصر، كلا من الأردن والبحرين والإمارات والعراق، عدداً من الأبعاد بخصوص الواقع العربى الجديد؛ حيث أصبحت القمم أو اللقاءات المصغرة التى تجمع خمس أو أربع أو ثلاث دول عربية مركزية، والتى يجرى عقدها بشكل منتظم، بمثابة تقليد جديد فى الواقع العربي، تدفع بالعلاقات العربية نحو مستوى من التنسيق النوعى والعمل العربى الحقيقى المصحوب بخطوات تنفيذية، وتقدم نموذجاً على استمرار القناعة بأسس العمل العربى ومنظماته وأهدافه.

وبعد سنوات من ثورة 30 يونيو 2013، عادت من جديد الحياة إلى النظام العربي، ولكن بشكل مختلف عن السابق، وبملامح تشير إلى الجدية الشديدة من جانب القادة فى التعاطى مع مختلف القضايا. فلم تعد القمم العربية قمماً للعتاب أو لتضييع الوقت فى المناوشات وتوجيه الاتهامات. الآن هناك قدر كبير من الثقة الشخصية والوطنية فى كل بلد عربى على حدة، والتركيز الأساسى هو على التنافس على الإنجاز وحيازة أصول وأرصدة وطنية فى الحاضر وفى المستقبل، مع الانطلاق نحو التنفيذ بقوة، على خلاف السياسات فى السابق، التى طغت عليها المجاملات والشخصنة والرتابة.

الآن لا يلتقى القادة العرب، إلا وأمام أعينهم مشروعات ومبادرات وخطط ورؤى، وهذه الحالة أعادت للدول العربية مكانتها، وقدمت ما يمكن اعتباره إرهاصات رؤية للمشروع العربى الموحد القائم على القسمات العريضة والملامح الكبرى للمشروعات الوطنية للدول العربية، والهادف إلى تعزيز المصالح، وهو أمر كان مفقوداً، وطالما انتقدت النخب العربية غيابه فى العقود الماضية.

وقد عكس انعقاد هذا اللقاء فى مدينة العلمين الجديدة بمصر دلالة خاصة، بالنظر إلى اتجاه حركة العمران والبناء المصرية نحو هذه المدينة، التى أصبحت تشكل نموذجاً لجهود الإعمار داخل مصر، ونموذجاً لتلاقى الاستثمار المصرى والعربي، فى مدينة تتجه لأن تصبح مركز ثقل عمرانى وملتقى للضيافة والمؤتمرات والسياحة. كما يُلقى انعقاد لقاء العلمين الضوء على النصف الآخر من الجمهورية المصرية الجديدة، وما تتضمنه من فرص للسياحة والاقتصاد والأعمال والانطلاق نحو العالمية، ما يمثل إطلالة جديدة للدولة المصرية على العالم، وهو أمر يهم مصر أن تقدمه كنموذج بين أشقائها العرب. وفضلاً عن ذلك، فإن وجود هذه المدينة فى شمال غرب مصر يمكن القادة من التعاطى مع القضايا بعيداً عن الأجواء الساخنة المعتادة بمدن المؤتمرات العربية والمصرية، التى تشهد انعقاد القمم بشكل تقليدى منذ عقود. ومن ثم، جاء انعقاد لقاء العلمين بمثابة رسالة تدشين للملمح الاقتصادى والسياسى العربى والعالمى لمدينة العلمين الجديدة، التى سوف تصبح من الآن وصاعداً مركزاً لنشاط عربى كبير يضاهى وينافس فى رونقه مدينة المؤتمرات الأولى فى مصر، شرم الشيخ، وتأكيداً لما رأى البعض، فإن العلمين لم تعد تقتصر على المصيف، وإنما مدينة متكاملة واعدة لحركة المال والأعمال.

كما أثبت انعقاد اللقاء حالة السلاسة فى العلاقات فى الوقت الراهن، حيث أصبحت الاجتماعات المصغرة تقليدا اعتياديا فى السياسات العربية، فالاجتماع الخماسى ضم الأردن والعراق، وهما البلدان اللذان تجمعهما مع مصر ما سمى بـ«مشروع الشام الجديد»، الذى عقدت الدول الثلاث فى ظله اجتماعات بالتناوب بينها منذ 2019، كما ضم الإمارات ومملكة البحرين، وهما البلدان اللذان تجمعهما بمصر علاقة خاصة، وتجمعهما علاقات خاصة أخرى مع الأردن والعراق، ولم يكن هذا أول اجتماع يضم الدول الخمس، وإنما حدثت اجتماعات بين مجموعات منها، فسبق أن عقدت مصر والأردن والعراق والإمارات قمة فى مدينة العقبة بالأردن فى مارس 2022. وشهدت مدينة شرم الشيخ انعقاد القمة الثلاثة المصرية ـ الأردنية ـ البحرينية فى يونيو 2022. ومن ثم، تأتى لقاء العلمين الذى ضم الدول العربية الخمس كامتداد لسلسلة القمم السابقة هذه، وتؤكد اتساع التوافق، الذى يؤسس للتنسيق العربى بشأن القضايا الإقليمية. كما يأتى اللقاء ليشير إلى أهم ملمح من ملامح العلاقات العربية حالياً، وهو «الثقة البينية»، التى تمكنت السياسة المصرية من إرسائها فى المحيط العربى بعد 30 يونيو، بسياساتها الحكيمة وتوجهاتها القائمة على الشفافية والصراحة مع جميع الأشقاء.

وهنا لم يعد يُنظر إلى القمم أو الاجتماعات المصغرة التى تجمع عدداً محدوداً من الدول العربية بالشك والريبة من جانب دول عربية أخرى، بعد ترسخ مبادئ حسن النوايا والتوجهات، ومع ترسيخ «المأسسة التحتية» للعمل العربي. كما انتهت مداخل «المحاور السياسية» فى السياسات العربية، وأصبح الأساس الآن هو أن اجتماع القادة فى لقاءات موسعة أو مصغرة، هو لمصلحة العمل العربى الجماعي، ولكل اجتماع أهدافه وأطرافه، ولدى الغائبين عن الاجتماع الثقة المطلقة فيما يقرره الحاضرون.

كما أكد انعقاد اللقاء خصيصة جديدة، وهى أن الاجتماعات العربية لم تعد تُعقد استجابة لأحداث طارئة أو أزمات حادة مفاجئة، أو تلبية لدعوات شخصية، أو لاجتماعات روتينية مقررة، ولمجرد إثبات انتظام الانعقاد لمؤسسات العمل العربى المشترك، وإنما القمم/ الاجتماعات الجديدة هى قمم/ اجتماعات هادفة ومخطط لها، وتأتى لتصيغ رؤى وتطلق مشروعات وتدشن اتفاقيات أو تصدر بيانات تتعلق بالتوجهات الإستراتيجية. فلم تترافق أغلب القمم/ الاجتماعات العربية التى عُقدت فى السنوات الأخيرة، بأزمات حادة، ولم تُعقد تحت ضغط التهديد بمواجهات مسلحة، وإنما انعقدت لأجل التنسيق والتشاور والتخطيط للأهداف وإطلاق المشروعات، فى لقاءات أقبلت عليها الدول العربية بكامل اختيارها وقرارها الخاص، إدراكاً لأهمية التعاون، واستجابة لقرار تبنته فى هذه المرحلة للاتجاه إلى التطبيق العملي، وليس فقط كمجرد شعار مطروح. ومن المؤكد أن ذلك جاء نتاجاً لما يزيد على سبعة عقود من الخبرات مرت على الدول منذ تأسيس جامعة الدول العربية عام 1945، حيث قرر القادة الجدد وفى هذه المرحلة التاريخية الاستفادة من خبرات الماضى المتراكمة وتبنى التوجه العربى عن ثقة بالمصالح والعوائد، وليس فقط استجابة للعواطف أو دفعاً للضغوط، أو كمظلة للمجاملات.

هذه الاجتماعات العربية الجديدة المصغرة تعنى أن النظم العربية تسعى لصياغة الواقع وصناعته وضبط اتجاهاته، على خلاف الوضع السابق، الذى عُقدت فيه أغلب الاجتماعات/ القمم إن لم يكن جميعها، فى ظل عنوان أساسى كان دائم التكرار فى وصفها به، بأنها تُعقد فى ظل الكوارث والعواصف وعند «مفترق طرق».

دواعى انعقاد لقاء العلمين

ينعقد لقاء العلمين فى ظل ظروف خاصة بالعالم والإقليم ومصر؛ تفرض على الدول العربية أقصى درجة من التنسيق والتعاون؛ حيث وقف العالم عاجزاً ومستنزفاً فى حرب تدور رحاها منذ عدة أشهر، ولا يمكن معرفة متى ستنتهي، والأرجح أن الجزء الأكبر من خسائرها ونتائجها هو ما لم تنجل عنه بعد، وقد تكون توابعها، التى يشكو منها العالم الآن، نسبة ضئيلة جداً من مجمل التوابع التى ستتكشف تالياً. ورغم أن الأزمة تبدو بعيدة عن العالم العربى بوقائعها العسكرية المباشرة وغير المباشرة، فإنها قريبة كثيراً منه بنتائجها وتوابعها، فى الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وفى انعكاساتها على إمدادات الغذاء والطاقة، وعلى الميزانيات والتضخم والديون، وتفرض الحرب مفاجآت وضغوطاً لم تكن فى الحسبان. ومن ثم يأتى اللقاء لتعزيز «آليات مواجهة أزمة الطاقة والغذاء من خلال تعزيز أواصر الشراكة وتعزيز الاستثمارات المشتركة والتى كانت أولى خطواتها التكامل الصناعى بينهم والتحول إلى صناعات ذات قيمة مضافة للاقتصادات الوطنية فى دول الشراكة».

وعلى مدى استمرار الأزمة، ستكون هناك هوامش على حرية حركة الدول، التى سيتعين عليها أن تزن قراراتها وتصريحاتها بدقة بين الأقطاب الدوليين، وإزاء دول أوروبية كثيرة يجمعها حلف الأطلنطى والاتحاد الأوروبي. وهنا على الدول أن تقدر عواقب توجهاتها وسياساتها إزاء عشرات الفواعل الدولية المهمة، لذلك تتطلب الأزمة تبنى خطوات ومسارات غير تقليدية فى السياسات، تواكب مستوى مفاجآتها غير التقليدية، مع التزام سياسة الحياد الإيجابى التى تحول دون الاستقطاب الحاد بين القوى الكبرى. كما تتطلب الأزمة حساب وتقدير توابع السياسات على المدى البعيد، وليس فقط فى الأمد القريب، لأن بعض القرارات التى تبدو متوافقة مع الأهداف الوطنية الآن، قد تلحق الأضرار بالموقف مستقبلاً.

وفى ضوء ذلك، لم يكن غريباً أن تنطلق فعاليات التدريب المشترك (هرقل 2) بجمهورية مصر العربية بمشاركة عناصر من القوات الخاصة لكل من السعودية والإمارات واليونان وقبرص، مع مشاركة كل من الأردن والولايات المتحدة والكونغو الديمقراطية والبحرين بصفة مراقب، وثلاث من الدول المشاركة حضرت لقاء العلمين الأخوي.

وعلى جانب آخر، وقف العالم منذ أيام على حافة أزمة بين الولايات المتحدة والصين بشأن تايوان، عكست المستقبل الصراعى المحتمل فى علاقات القطبين القديم والصاعد، وإذا كان البلدان قد قررا الآن إرجاءها وتأجيلها، إلا أنهما قد يتجهان لحسمها تالياً فى توقيت مفاجئ، يعرض الآخرين لأضرار جسيمة، قد تبدو معها أضرار الحرب الروسية-الأوكرانية نسخة مصغرة، وذلك يشير إلى مستوى الصراع الذى يستبطنه العالم فى أزمات يمكن أن تنفجر فى أى وقت، وهو ما يستلزم من الدول العربية الانتباه الأقصى إلى أهمية تعاونها وتقريب قراءاتها لمصالحها الوطنية، فى ضوء إستراتيجية أشمل للأمن القومى والتنمية الاقتصادية العربية، تشمل التنسيق فى الجوانب الإستراتيجية والاقتصادية والسياسية والأمنية، وأيضاً الجوانب الاجتماعية والبيئية، وتستهدف التوافق على قواعد وبنية منهجية للسلوك العربى أمام أزمات الإقليم والعالم.

أما على جانب أوضاع الإقليم، فإن لقاء العلمين بصدد التنسيق بين دوله بشأن خريطة متسعة من القضايا؛ فبعض هذه الدول مثقلة بأزمات الحبوب والغذاء وبالموازنات والديون، وبعضها له أزماته الخاصة كالعراق وما يعانيه من أزمة سياسية، أو مصر فيما يتعلق بالوضع الاقتصادي. فضلاً عن ذلك، فإن أمامها أزمات الواقع العربي، كالأزمة فى ليبيا واليمن، فضلاً عن أزمات الأمن القومى العربي، فيما يتعلق بسلوكيات وتدخلات قوى الجوار الإقليمى كإيران وتركيا فى سوريا والعراق. وبعد أن تمكنت الدول العربية من هزيمة قوى الإرهاب بعد عقد كامل، هيمنت فيه إستراتيجيات وحروب مكافحة الإرهاب على مركز تفكير الدول العربية، عادت القضية الفلسطينية لتحتل وضعيتها فى مركز النظام العربي، وهو ما عكسته المواجهات الأخيرة فى الساحة الفلسطينية مع إسرائيل، التى أكدت من جديد أن أساس الاضطراب والأزمات وعدم الاستقرار فى المنطقة هو فى استمرار القضية الفلسطينية، وليس فى أزمات الداخل العربى أو قوى الإرهاب التى طغت على حساب القضية الفلسطينية خلال العقد المرحلى الاستثنائى عقب الثورات، وأنه ما لم يتحقق السلام العادل والشامل على أساس حل الدولتين، وقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية على حدود 1967، ستظل المنطقة تعانى عدم الاستقرار والأمن. وهذه هى الرسائل العربية القوية التى يستبطنها لقاء العلمين.

هذه الرسائل مهمة جداً، خصوصاً بعد ما واجهته القضية الفلسطينية مؤخراً من تشوه طال وضعيتها الإنسانية قبل وضعيتها السياسية، الأمر الذى كشفته ردات الفعل العنيفة المشوهة للقضية الفلسطيينة داخل ألمانيا على تصريحات الرئيس الفلسطينى محمود عباس، حين تحدث عن ارتكاب إسرائيل 50 هولوكوست بحق الشعب الفلسطيني، وهو ما اضطر الجامعة العربية لإصدار بيان استنكار بشأن ردات الفعل الألمانية التى ذهبت بعيداً «فى شيطنة الفلسطينيين والاستهانة بمعاناتهم الهائلة على مدار عقود، وكأن الحقائق صارت تقف على رأسها وانقلبت الضحية إلى جان، وتحول الجانى الحقيقى وهو الاحتلال الإسرائيلى إلى ضحية» (على حد ما ذهب البيان). وذلك يشير إلى ما أصبحت تواجهه القضية الفلسطينية من عراقيل حتى فى إقرار جوانبها الإنسانية، وهى أمور لم تكن لتحتاج إلى جهود، وذلك يشير إلى تمكن آلة الدعاية الإسرائيلية فى إحداث ثقوب سوداء فى الضمير العالمي.

فى ضوء كل ما سبق، جاء اللقاء الأخوى بين قادة الدول الخمس فى مدينة العلمين ليشير إلى تشكل مجموعة نواة عربية مركزية، تؤكد وحدة الموقف العربى بشأن القضية الفلسطينية رغم تباين مستويات العلاقة بإسرائيل، ولتؤكد أن التطبيع لا يعزل الدول العربية عن القضية المركزية، كما تؤكد وحدة الصف العربى فى مواجهة الأزمات والتحديات، والتفكير المشترك بشأن القضايا الاقتصادية والمائية والأمنية وأوضاع التنمية المستدامة والحاجة للاستثمارات والمشروعات المشتركة، فى ظل التحديات التى يواجهها الأمن العربي.

نقلا عن الأهرام