كان نبأ استقبال الرئيس السورى يوم الأربعاء الماضى رئيس الوزراء العراقى فى حد ذاته مصدر سعادة غامرة لى حتى قبل أن أعرف تفاصيل اللقاء واتفاقهما على التعاون الاقتصادى والتنسيق السياسى ومكافحة الإرهاب ومواجهة الشح المائى، ومصدر السعادة أن سوريا والعراق عبر التاريخ كانتا ركنين أساسيين من أركان العروبة، وبالتالى فإن لقاءهما بشرى خير بالنسبة لتحسن الأوضاع العربية رغم أنف الكارهين، وكلى أمل فى أن يكون هذا اللقاء فى الظروف الصعبة الراهنة بادرة خير تصمد أمام عوامل الشد إلى الوراء داخليًا وعربيًا وإقليميًا وعالميًا، فتحسن الأوضاع العربية يزعج أصحاب المصالح من خارج الوطن العربى، بل وقوى بعينها داخله لا تريد للنظام الإقليمى العربى أن يتعافى، مع أن فى تعافيه مصلحة للجميع، ولقد افتقد الوطن العربى كثيرًا قوة التعاون السورى – العراقى، وحلت محله نزاعات ممتدة بين البلدين لم يكن ثمة تفسير لها إلا ما أُسميه اللعنة الجيوبوليتيكية التى أوجدت أكثر من حالة داخل الأقاليم الفرعية العربية لدولتين متجاورتين ومتكافئتين من حيث عوامل القوة مما أفضى إلى نزاعات بنيوية ممتدة بينهما، مع أن التعاون كان بديلًا ممكنًا، والحالة الثانية لهذه اللعنة هى الحالة المغربية – الجزائرية التى اتسمت العلاقات بين طرفيها منذ استقلال الجزائر وحتى الآن بالتوتر الشديد، بل وحتى الصدام العسكرى المباشر وغير المباشر، اللهم إلا فى أوقات نادرة، ومع ذلك فقد كان للخلاف المغربى – الجزائرى منطقه بسبب الخلاف بين النظامين وسياساتهما الخارجية، وما أُضيف للخلاف من عوامل استجدت بعد استقلال الصحراء واختلاف النهجين الجزائرى والمغربى بصدد مصيرها. أما فى الحالة السورية – العراقية فقد بدا الخلاف منطقيًا فى بعض الأحيان وغير منطقى فى معظمها، ففى البداية كان الخلاف منطقيًا بين العراق الملكى ذى التوجهات الغربية وسوريا العروبية التحررية المتحالفة مع مصر بعد ثورة يوليو ١٩٥٢ثم المتحدة معها فى ١٩٥٨، لكن الغريب أن الإطاحة بالنظام الملكى العراقى فى ١٩٥٨ لم تفض سوى لهدوء قصير الأمد فى العلاقات أعقبته سنوات توتر عنيف كانت بداية لظاهرة جديدة عرفها النظام العربى، وهى ظاهرة الخلاف بين النظم الثورية ممثلة آنذاك فى دولة الوحدة المصرية – السورية الناصرية التوجهات والعراق الجمهورى ذى التوجهات اليسارية، لكن الأغرب أن انقلابًا بعثيًا أطاح بحكم عبدالكريم قاسم فى العراق فى فبراير١٩٦٣وانقلابًا بعثيًا آخر أطاح بحكم الانفصال فى سوريا بعده بشهر أى فى مارس١٩٦٣ لتكتمل أركان التقارب السورى – العراقى بعد أن أصبح حزب البعث حاكمًا لكليهما، لكن هذا التقارب للأسف لم يُفلح إلا فى إفساد الوحدة الثلاثية الاتحادية بين مصر وسوريا والعراق التى كان الموقعون عليها يحاولون الاستفادة من دروس تفكك الوحدة المصرية – السورية بتبنى الصيغة الاتحادية الفيدرالية بدلًا من الصيغة المركزية الاندماجية التى كانت أحد الأسباب الرئيسية لذلك التفكك، وقد آلت الوحدة الثلاثية إلى الفشل بسبب الخلاف بين عبدالناصر وحزب البعث الحاكم فى سوريا والعراق، وبعد هذا الائتلاف ضد عبدالناصر دخلت العلاقات السورية – العراقية مجددًا فى إسار ظاهرة الخلاف بين النظم الثورية فتردت العلاقات بين البلدين لدرجة أن ميثاق العمل القومى المشترك الذى وقعه صدام حسين وحافظ الأسد فى أكتوبر ١٩٧٨بهدف التصدى لاتفاقيتى كامب ديڤيد قد تحطم على صخرة اتهام صدام حسين للأسد بمحاولة تدبير انقلاب فى العراق بعد ثلاثة أشهر فحسب، ووصل الخلاف إلى ذروته بوقوف النظام السورى فى صف إيران ضد العراق فى حربهما (١٩٨٠-١٩٨٨)، وتزويد صدام حسين بعد انتصاره فى الحرب لميشيل عون بأسلحة ثقيلة فى قتاله القوات السورية الموجودة فى لبنان بدعوة من رئيس الجمهورية إبان الحرب الأهلية، ولم تتوقف هذه التفاعلات الصراعية التى لم يكن ينقصها سوى الصدام العسكرى المباشر إلا قبيل الغزو الأمريكى للعراق ٢٠٠٣. كان للغزو الأمريكى للعراق تداعياته الكارثية على العراق والوطن العربى، لكن تأثيره على العلاقات السورية – العراقية كان إيجابيًا، فقد وقفت سوريا بحزم ضد التهديدات الأمريكية للعراق ثم ضد الغزو إدراكًا للخطر المشترك، وكانت ملجأً لقادة نظام صدام المطاردين من سلطات الاحتلال، وتعرضت فى هذا الصدد لتهديدات وضغوط أمريكية جسيمة، لكن الغزو كما نعلم أفضى إلى ورطة أمريكية حقيقية أجبرت أوباما على سحب معظم قواته فى ٢٠١٠، لكن الأهم أن الغزو جعل لإيران حضورًا مؤثرًا فى العراق مما أزال العائق المتمثل فى تباين علاقة البلدين بإيران، كما أن الغزو كما نعلم وما أدى إليه من تفكيك الدولة والمجتمع فى العراق مهد الطريق للهجمة الإرهابية غير المسبوقة التى طالت البلدين معًا بتأسيس دولة للإرهاب فى يونيو ٢٠١٤ امتدت عبر إقليمى البلدين حتى ٢٠١٧، وفى هذا الإطار أصبحت هناك مصلحة إستراتيجية مشتركة بينهما فى مكافحة الإرهاب فضلًا عن أزمة الشح المائى الحادة التى تجمعهما فى مواجهة دولة المنبع، واليوم يقف البلدان سويًا فى مواجهة هذه التحديات كافة، ويتمنى كل العرب الطامحين إلى حاضر ومستقبل عربى أفضل أن تكون هذه التطورات الإيجابية فى العلاقات السورية – العراقية مستدامة، وأن يتم تعزيزها، والأمل كبير فى تحقق هذا التمنى بعد دروس الخبرة الماضية التى أثبتت أن التناحر العربى هو المدخل الأمثل لتحقيق أعداء الأمة العربية أهدافهم، ولا شك أن مصر التى شكلت يومًا مع سوريا أول تجربة وحدوية معاصرة، وجمعتها معها ومع العراق محاولة لوحدة فيدرالية، واتبعت منذ بدء ولاية الرئيس السيسى سياسة الحفاظ على كيان الدول الوطنية العربية وتحقيق التضامن العربى، وجمعتها بالعراق والأردن محاولة تكاملية جادة -لا شك أنها تنظر بعين الرضا للقاء الشقيقين وتبحث فى آفاق تعزيز التعاون معهما لصيانة النظام العربى من الذوبان فى إطار إقليمى أوسع.
نقلا عن الأهرام