بشكل عام، تتطلب الحروب الحديثة “Modern Wars” استراتيجيات متطورة لمواكبة ما تفرضه من تداعيات تهدد أمن الدول. ويحتل عامل “التسليح”، بمفاهميه وأنماطه الحديثة، أيضاً أولوية في هذه الاستراتيجيات، على الأقل في المرحلة الحالية في حروب الشرق الأوسط الممتدة منذ أكثر من عقد، والتي غالباً ما تمت الإشارة إليها بأنها ساحة واسعة للحروب “غير التقليدية” تنطوي على العديد من الظواهر كالحرب بالوكالة “Proxy War”، والحرب الهجين “Hybrid War”، بالإضافة إلى حروب الظل، كالحرب السيبرانية “Cyber War”. وفي ظل غياب أفق لتسوية الصراعات في المنطقة، لا سيما وأن الفاعلين في هذه الحروب يسعون لأن يكونوا الطرف الأكثر قدرة على تحقيق أهدافه في تلك التسويات، يمكن القول إنه لا يوجد تصور حول متى تتوقف “لعبة الحرب”.
لكن في مقابل ذلك، تظلّ هناك نقطة بداية للمواجهة، تتعلق بمدى إمكانية هزيمة هذه الأطراف، أو بمعنى آخر كيف يمكن كسب هذه النماذج من الحرب الحديثة؟، وهي عملية معقدة لا تتوقف فقط على “التسليح”، بالنظر لتعدد أنماطها وأبعادها ودوافعها. فعلى سبيل المثال، يتعلق أحد القواسم المشتركة بكيفية احتواء العامل الأيديولوجي الذي يشكل عقيدة لدى الفاعلين في هذه الحروب من الوكلاء والمليشيات والفصائل، وهي عقيدة لا تستقيم مع تقاليد الدولة الوطنية، بل على العكس من ذلك هى تسعى باستمرار لاستهداف هذه الدولة. وبحسب العديد من التقديرات، فإن هزيمة هذه العقيدة هى أيضاً عملية معقدة وطويلة المدى، وبالتالي فإن الأرجح هو العمل على هزيمة هذه القوى في الميدان كأولوية مرحلية لتقويض مخاطرها.
صراعات ممتدة
من هنا، فإن ما يتسق مع نموذج الشرق الأوسط أولاً هو التعاطي مع الجوانب المادية في هذه الحروب. فقد أثبتت الممارسة العملية أن الانخراط في عمليات تسوية سياسية في العديد من حالات الصراعات والنزاعات هو مجرد “استراحة حرب” لتعزيز قدرات المليشيات والفصائل على الصمود في المواجهة في المراحل التالية. بالإضافة إلى أن خبرات تلك الحروب كشفت عن أن هذه القدرات في حالة تطور مستمر، وبالتالي فإن قدرات التسليح لمواجهة هذه الأطراف بحاحة إلى عملية تحديث متواصلة.
ويمكن الإشارة إلى أكثر من مثال في هذا الصدد. فقد نشرت الولايات المتحدة الأمريكية منظومة “C-RAM” في المنطقة الخضراء في بغداد للتصدي لهجمات المليشيات، إلا أن ذلك لم يمنع الأخيرة من شن هجمات أخرى. كما حصلت المليشيا الحوثية في اليمن خلال عام واحد على جيلين جديدين من الصاروخ “قدس-2” والطائرة من دون طيار “صماد-3″، وكلاهما طويل المدى، على نحو طور قواعد الاشتباك الخارجي وشكل تهديداً لأمن دول التحالف.
وللحصول على هذا الدعم، تطور ما يمكن اعتباره “سلاسل توريد” من المصدر إلى الوكيل، وكشفت تقارير خبراء الأمم المتحدة، على سبيل المثال، طرقاً متعددة لوصول الأسلحة من إيران إلى المليشيا الحوثية في اليمن، لكن لا يوجد تصور حول كيف امتلكت الفصائل الفلسطينية، على سبيل المثال، في حرب غزة الرابعة، مسيَّرات تحت السطح. وفي الغالب، أصبح هناك تصور بأن الأمر لم يعد متوقفاً على سلاسل التوريد فقط، وإنما على ما يسمى بـ”Know How” عبر استضافة خبراء أو من خلال وسائط مختلفة للتواصل بين المصدر والوكيل لبناء هذه القدرات، بالإضافة إلى أن سلاسل التوريد أيضاً تمر عبر مسار تجاري للتمويه، أو عن طريق عمليات بدائية للغاية يصعب تعقبها، مثل تأجير مراكب الصيد الصغيرة.
مؤشرات رئيسية
هناك العديد من المؤشرات الدالة على تبني استراتيجيات جديدة للمواجهة، ومنها على سبيل المثال:
1- اقتناء قدرات التسلح الحديثة: ومن الأهمية بمكان في هذا السياق التفرقة بين البرامج والمعدات، فبينما امتلكت دول مثل إيران قدرات للحرب السيبرانية على سبيل المثال، وربما حصلت على دعم من كوريا الشمالية التي تتصدر مكانة عالمية في هذا المجال، هناك طلب متزايد لدى العديد من الأطراف في الشرق الأوسط على برامج لتدريب طواقم مختلفة من قوات “الحرب الإلكترونية”، بالإضافة إلى حيازة برامج نوعية للتصدي للهجمات الإلكترونية، وإن كانت هذه العملية لا تزال في طور البدايات لكنها تعكس اتجاهاً متصاعداً للتعامل مع تلك التحديات، كما تكشف مدى الاهتمام بالجانب التكنولوجي في الأسلحة الحديثة.
2- امتلاك برامج تدريب جديدة: أطلقت القيادة المركزية الأمريكية، في 31 يناير الفائت، تمريناً نوعياً لمواجهة التطورات الهائلة في نماذج الحروب الحديثة في الشرق الأوسط، وهو “IMX/CE2022”. وقد يكون هذا التمرين مع القوى الرئيسية في الشرق الأوسط، وعشرات الحلفاء من خارجه، تجسيداً لاستراتيجية مشتركة بين الحلفاء لمواجهة تهديدات واسعة مثل التهديدات التي يتعرض لها أمن الملاحة، حيث يجري في العديد من مسارح العمليات البحرية من البحر الأحمر إلى القرن الإفريقي وبحر العرب وخليج عمان وشمال المحيط الهندي، وبالإضافة إلى ذلك فهو يتضمن برامج نوعية لمواجهة الحروب السيبرانية في الوقت نفسه.
3- العمل على سد الفجوات الدفاعية: وذلك عبر تعزيز القدرة على التصدي للصواريخ والطائرات من دون طيار. لكن مع مرور الوقت، فإن الاستراتيجية الدفاعية تفرض تكثيف وتطوير البنية الدفاعية. وفي المستقبل القريب، سيكون هناك اهتمام باقتناء أسلحة أكثر تطوراً، مثل أسلحة الطاقة الحرارية التي تم تجريبها في الشرق الأوسط، عندما اختبرت الولايات المتحدة الأمريكية عملية إسقاط درونز في عام 2020 والتصدي لزورق مسيَّر أيضاً في العام التالي باستخدام سلاح من على متن المدمرة “يو إس إس بورتلاند”. وبالتالي، فإن هناك حاجة لامتلاك هذه الأسلحة. فمن الناحية النظرية، لا يتوقف الأمر على عامل الدفاع، وإنما يمتد أيضاً إلى استنزاف قدرات العدو بشكل مستمر، والعمل على إحباط قدرته على تطوير أسلحته.
4- السيطرة على مسارح العمليات: وهي أيضاً مسألة معقدة بالنظر إلى تعدد واتساع هذه المسارح، كطول السواحل البحرية، التي تفرض عقبات أمام عملية قطع سلاسل الإمداد، بالإضافة إلى التعقيدات الطبوغرافية في مسارح العمليات الداخلية، حيث يمكن للعدو باستمرار تخزين الأسلحة في الجبال، والمناطق الوعرة، وإن كان هذا التوجه قائماً من الناحية الاستراتيجية، لكنه يتطلب تمرينات أكثر نوعية على عمليات التطويق والإنزال، بعضها ظهر في معارك شبوة في اليمن.
تطوير مستمر
في الأخير، يمكن القول إن معطيات الحرب الحديثة فرضت على الدول استراتيجيات جديدة للتسلح حتى يمكنها تحقيق عامل “الردع” في مواجهة أطراف اكتسبت خبرات على هذه الحروب، وربما سيطور ذلك بمرور الوقت اتجاهاً لبناء جيوش ذكية في المستقبل مع الطفرة الهائلة في المجال التكنولوجي والذكاء الصناعي للتعامل مع هذه التحديات وما سيظهر منها في المدى المنظور، فحتى الآن لم تمتلك المليشيات القدرة على القيام بهجمات سيبرانية، لكن ربما من الوارد أن تحصل على هذه الخبرة، بالإضافة إلى خبرات أخرى في مجالات مختلفة لم يتم الكشف عنها بعد. وبالتالي، لن تتوقف هزيمة هؤلاء الفاعلين على تقوية العامل الدفاعي، وإنما ستعتمد على العامل الهجومي أيضاً، الذي يتوازى مع محاصرة روافد تعزيز قدراتهم وإمكانياتهم.