لعبة التسويات الآمنة بين عدوين في العراق – الحائط العربي
لعبة التسويات الآمنة بين عدوين في العراق

لعبة التسويات الآمنة بين عدوين في العراق



ليس من المتوقع أن تضبط إيران ردود أفعال ميليشياتها في العراق على ما تقوم به القوات الأميركية من عمليات اغتيال لعدد من قياديي تلك الميليشيات، مثلما فعلت مع “حزب الله” الذي أعلن زعيمه بعد اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” صالح العاروري في الضاحية الجنوبية، عن أنّ الحرب ستكون قراراً إسرائيلياً، وهو ما يعني أنّ “حزب الله” لن يبدأ الحرب رداً على تلك الجريمة التي حدثت في حاضنته.

أما الميليشيات العراقية، فإنّها وإن حمّلت رئيس الحكومة مسؤولية التراخي في مسألة إنهاء وجود القوات الأميركية، فإنّها توعدت في الوقت نفسه أن يكون ردّها سريعاً ومفاجئاً ومؤثراً. وليس في ذلك ما يشير إلى موقف إيراني مزدوج. ذلك لأنّ إيران تدرك أنّ رداً مباشراً يقع خارج قواعد الاشتباك من “حزب الله” يعني دخوله في حرب مع إسرائيل التي هي اليوم مستعدة أكثر مما مضى للانتقام من تنظيم إسلامي (مقاوم) ثأراً لما تعرّضت له في السابع من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. وهي في ذلك الفضاء الهستيري ستجد في خروج “حزب الله” على قواعد الاشتباك فرصةً لتحطيم بنيته التحتية مثلما فعلت بـ”حماس”.

أما في العراق، فإنّ ردود الفعل الأميركية ستكون دائماً مقننة ومبرمجة. تلك ميليشيات غير خاضعة لسيطرة الحكومة العراقية. لذلك ستكتفي الولايات المتحدة بالتقاط زعمائها، ولن تكون في حاجة إلى شنّ حرب شاملة عليها. لعبة قد تقع في فضاء التسويات الآمنة بين الولايات المتحدة وإيران في العراق.

موقف رسمي عراقي مزدوج

سيُقال إنّ الحكومة العراقية نجحت في الإمساك بالعصا من الوسط. وهو قول فيه الكثير من المبالغة. فهي توجّه النداء في كل مرّة تُقصف فيها قاعدة أميركية إلى الميليشيات لكي تضبط حركتها في إطار انتسابها إلى القوات المسلّحة التي تأتمر بأوامر رئيس الوزراء الذي هو القائد العام للقوات المسلحة، وفي المقابل فإنّها تعد بالتفاوض مع الولايات المتحدة كلما قتلت قواتها واحداً من زعماء الميليشيات. وفي الحالين، فإنّها تكتفي بالإدانة رافعة شعار مسؤوليتها عن السيادة الوطنية.

غير أنّ اللافت في الأمر، أنّ الحكومة العراقية الحالية مثلها مثل الحكومات السابقة، لم تتخل عن التأكيد على حاجتها إلى التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن. كما أنّها تعلن باستمرار عن تمسّكها بـ”إتفاقية الإطار الاستراتيجي” التي تمّ إبرامها عام 2009. واقعياً، إنّ إياً من طرفي الصراع لم يكن معنياً بإبلاغ الحكومة العراقية بما سيفعله. فلا الميليشيات تستأذن قائدها العام في ما يتعلق بالقصف الصاروخي الذي توجّهه إلى القواعد الأميركية، ولا القوات الأميركية تبلغ الحكومة العراقية بموعد وهدف ضرباتها. الطرفان يدركان أنّ تحالف الإطار التنسيقي الحاكم، إذ يوجّه محمد شياع السوداني الذي نصّبه رئيساً للوزراء لإصدار بيانات الشجب والإدانة، لا يمكنه التملص من مسؤوليته عن نشاط المقاومة الإسلامية وعن بقاء القوات الأميركية في الوقت نفسه. فزعيم ذلك التحالف الذي هو نوري المالكي كان قد نصّب نفسه بعد هزيمة القوات العراقية في الموصل زعيماً للمقاومة الإسلامية في العراق، وهو الشخص نفسه الذي وقّع في وقت سابق الاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة.

خصمان يشتبكان من غير خسائر

في إطار الصراع الهامشي بين الطرفين، تدرك الولايات المتحدة أنّ إيران فتحت جبهة استعراض معها لكن بالوكالة، في الوقت الذي تدرك إيران فيه جيداً، أنّ ما يسببه قصف ميليشياتها من إزعاج للقوات الأميركية لن يدفع الإدارة الأميركية إلى اتخاذ قرار بإجلاء قواتها عن الأراضي العراقية. فالدور الذي تلعبه الميليشيات، وهي جزء من الحشد الشعبي، لا يتجاوز حدود اللعبة التي يتأكّد من خلالها كل طرف منهما أنّه قد نال من الآخر، من غير أن يضرّ به بشكل مباشر. فقصف الميليشيات لا يؤدي إلى خسائر بشرية بين القوات الأميركية، كما أنّ العمليات الأميركية لا تقود إلى مقتل جنرال إيراني كما حدث يوم قرّرت إدارة دونالد ترامب قتل الجنرال قاسم سليماني عام 2002. كل الذين تقتلهم القوات الأميركية هم عراقيون، وهم لا قيمة لهم في سياق حسابات الحرس الثوري الإيراني. فليس أي واحد منهم بمستوى “ابو مهدي المهندس” الذي قُتل بمعية سليماني.

ولأنّ إيران صارت مطمئنة إلى ردود الفعل الأميركية، فإنّها قد تعمل على التصعيد في العراق كما فعلت مع الحوثيين في اليمن، حين وضعوا أنفسهم في مواجهة المصالح العالمية في البحر الأحمر. لم تحمّل الولايات المتحدة ولا الدول الغربية إيران مسؤولية ما جرى في البحر الأحمر، وهو ما سيجري تطبيقه على العراق. ولكن السؤال الجوهري هو :”هل يرعى عدوان مصالح بعضهما في العراق؟”. لو كان الأمر كذلك فإنّ الثمن لا يقلّ عن خراب بلد، كانت الولايات المتحدة قد وعدت بأن تكون رافعته إلى الديموقراطية فيما كانت واقعياً قد سلّمته لأسوأ صنوف الاستبداد.

العراق وحده يدفع الثمن

لا إيران ولا الولايات المتحدة تملكان حلاً سحرياً لإنقاذ العراق من أزمته. فالميليشيات التي كان يجب أن تُحلّ بعد اختفاء التنظيم الارهابي “داعش”، وقد قيل يومها إنّها قد جُمعت في الحشد الشعبي بناءً على فتوى من السيستاني من أجل محاربة ذلك التنظيم، لم تُحل. بل كبرت واتسعت هيمنتها وازداد نفوذها قوة وصارت جزءاً من الحياة السياسية. وفي ذلك ما ينفع إيران. فالميليشيات هي ذراع الحرس الثوري الإيراني. من خلالها تحكم إيران وصايتها على العراق كما هو حالها في لبنان من خلال “حزب الله”.

ولكن، ما مصلحة الولايات المتحدة في ذلك؟ سيظل البلد عاطلاً وستكون هناك دولة فاشلة لن تتمكن من الخروج به من أزمة هويتها المتشظية. فالميليشيات التي وجدت في المقاومة سبباً لبقائها تعمل على إلغاء عروبته، كونها قوة مسلّحة لا همّ لها سوى الدفاع عن المصالح الإيرانية. وهو ما لا يضرّ بالمشروع الأميركي في المنطقة بل يدعمه.

نقلا عن النهار العربي