هناك تطابق في الظروف السياسية الإسرائيلية والفلسطينية، أو على الأقل تشابه كبير بينهما، فكلاهما يشهدان انقساماً سياسياً واسعاً، بين التوجهات التي تشكل العمود الفقري للساحة الفلسطينية داخل السلطة و”فتح”، وبينهما التيار السياسي الإسلامي وعلى رأسه “حماس”، وإسرائيلياً بين اليمين المؤيد لبيبي نتنياهو ومن ضده وإنما على يمينه، وبين اليمين واليسار داخل الحكومة الإسرائيلية حول معارضة وتأييد حل الدولتين.
ومن جوانب التشابه مع اختلاف توجهاتها من حل النزاع، أن كل التيارات المؤثرة فلسطينياً أو إسرائيلياً لا تحبذ اندلاع العنف سريعاً مرة أخرى. فالسلطة الفلسطينية داعمة للحل السلمي، وتشعر أن “حماس” نالت من رصيدها السياسي بعد الأحداث الأخيرة في القدس وغزة، وأصبحت طرفاً فاعلاً مدعمة قطرياً، وتتفاوض حول ترتيباتها اليومية مع إسرائيل من خلال مصر، الراعي العربي التقليدي لعملية السلام والداعم للسلطة تقليدياً. وحتى “حماس” التي ارتفعت أسهمها أخيراً، تقدر جيداً الثمن الإنساني الباهظ الذي تحمله أهل القطاع، ثمن من شأنه أن يقلص من مصداقيتها الشعبية في غزة إذا تجددت الاشتباكات سريعاً.
ويتشابه هذا كثيراً مع الوضع إسرائيلياً، إذ لا تميل الحكومة الإسرائيلية الجديدة إلى الانزلاق سريعاً في عمليات عسكرية تحملها ثمناً ثقيلاً، وتغذي الفرقة السياسية في ما بينها، إلا أنها لا تستطيع السكوت على أي تجاوزات ضد إسرائيل خشية أن تعطي ذخيرة لليمين الإسرائيلي المؤيد لبيبي، وهو يمين يخشى أيضاً اندلاع العمليات العسكرية ونجاح الائتلاف في التعامل معها، ما يدعم مكانة بينيت كرئيس وزراء، وممثل لليمين الإسرائيلي بأكمله مستقبلاً.
كل هذه الانقسامات لا تشجع على الاستثمار في جهود لحل النزاع العربي الإسرائيلي سلمياً، لأن التوصل إلى حل حتى في أفضل الظروف، سيتطلب اتخاذ الكل قرارات صعبة ستثير كثيراً من الجدل والفرقة ضمن التيارات السياسية الإسرائيلية والفلسطينية المختلفة، بل حتى ضمن الفصيل السياسي الواحد.
وإنما ما أخشاه هو أن تعود القضية الفلسطينية الإسرائيلية مرة أخرى إلى مكانة متأخرة في قضايا الشرق الأوسط، نتيجة لضآلة فرص بدء مسار سلمي تفاوضي جاد، والتوافق العام بين جميع الأطراف على تجنب العنف، إذ نشهد مع السكون العسكري سكوناً سياسياً، تنقرض معه أُسس عملية السلام، ويقتصر الاهتمام على ردود فعل عامة ضد الإفراط الإسرائيلي في استخدام العنف، مع غض الطرف عن معاناة “الاحتلال” اليومية للشعب الفلسطيني، وعدم تمكينه من ممارسة حقوقه الوطنية.
لازلت غير متفائل بالنسبة إلى فرص السلام في المرحلة الحالية، غير أنني أرى أن الظروف والانقسامات الحالية إسرائيلياً وفلسطينياً والتنافس بين الأطراف على الجانبين، قد تخلق أرضية لحوار أكثر جدية إسرائيلياً وفلسطينياً، أولاً لتحديد الهوية السياسية للجانبين، ثم بعد ذلك في ما بين الجانبين، وهو أفضل من التعايش مع الركود الفكري والسياسي الإسرائيلي والفلسطيني، الذي يشكل أكبر خطر على الحق الفلسطيني، خصوصاً وإسرائيل لم تواجه خيارات سياسية صعبة أو تحديات أمنية جادة في الآونة الأخيرة، ما سمح لبيبي الادعاء بنجاحه في توفير الأمن والاستقرار ومعدلات جيدة من النمو الاقتصادي، مع تحميل الجانب الفلسطيني المنشق والمنقسم المسؤولية، واتهامه بأنه ليس شريكاً في عملية السلام.
وعلى الرغم من صعوبة التفاؤل بفرص حل النزاع سريعاً، أتابع هناك عدم ارتياح واضح في المجتمعين للأوضاع السياسية الداخلية، وأعتقد أنه يشكل حافزاً ودافعاً لمراجعة ذاتية شاملة على كلا الجانبين، ودافعاً لإبداء الرأي واتخاذ المواقف في محاولة لطرح أفكار ومعادلات مختلفة عن المستقبل السياسي للشعبين، بما في ذلك في القيادات السياسية، وهو أمر بدأ بالفعل، فرئيس وزراء إسرائيل الجديد بينيت كان المساعد المقرب لنتنياهو، ويقف على يمينه سياسياً وأكثر تشدداً في مواقفه السياسية، ومع هذا ائتلف مع اليسار والوسط السياسي الإسرائيلي، بل وللمرة الأولى حتى مع تجمع ديني من أصل عربي، وهو ما يعني أن الطرف الإسرائيلي على استعداد على الأقل تكتيكياً للمواءمة والمناورة مع تيارات متعددة ومختلفة، وعلى الأطراف الفلسطينية والعربية والدولية استغلال هذه الظروف لنقل أفكارها للساحة الإسرائيلية، بغية إخراج إسرائيل من التوجه اليميني الحاد الذي ظلت عليه طوال أكثر من عقد من الزمن تحت رئاسة نتنياهو، لكي تغذي مراجعة ومصارحة إسرائيلية، تنتهي إلى تعديل الموقف الإسرائيلي بما يقربه من الوسط، ويوفر فرصة لتحقيق السلام الإسرائيلي العربي، أو يثبت التوجه اليميني، بما يمحو أي غموض أو شك أن المجتمع الإسرائيلي يؤيد سلاماً يحقق للجانب الفلسطيني الهوية الوطنية في الدولة المستقلة.
ولحظة المكاشفة والمصارحة هذه تنطبق أيضاً على الجانب الفلسطيني، فتعدد القوائم الانتخابية التي طرحت للترشح في الانتخابات التي تم تأجيلها، حتى ضمن أعضاء “فتح” ذاتها، تعكس أن هناك رؤى متعددة لأسلوب الإدارة السياسية الفلسطينية، فضلاً عن التوجه الأيديولوجي المختلف لـ”حماس” والتيارات السياسية، بل شهدنا أيضاً بدء مواءمات في ما بين التيارات الفلسطينية العلمانية والمنتمية للتوجه السياسي الإسلامي، والعكس أيضاً، في الوقت نفسه الذي سعت فيه السلطة والتيار السياسي الإسلامي المعني لمصالحة، للأسف لم تتوج بنجاح، بل تأجلت الانتخابات الفلسطينية ذاتها.
أصبحت المنظومة السياسية الفلسطينية والأطراف الرئيسة يميناً ويساراً وقياداتها على المحك، وعليها الاستجابة للرغبة الشعبية في معادلة فلسطينية جديدة، جامعة لتياراتها، وتشمل عدداً من القيادات السياسية الجديدة، واتساقاً مع المواقف الوطنية الشريفة للقيادات الفلسطينية عبر السنوات، بإعلان دولة فلسطينية تحت الاحتلال على حدود 1967 وإجراء الانتخابات الفلسطينية في أقرب فرصة، مع طرح التيارات السياسية الفلسطينية برامجها الانتخابية في شكل عناصر ومبادئ تحكم برنامج حكومة فلسطينية مشتركة بعد ذلك، لتكون النتيجة تعبيراً عن الإرادة الشعبية الصادقة، فضلاً عن تحرك على المسارين القانوني والإنساني دولياً للتصدي للتجاوزات الإسرائيلية، مع وضع خطة مكثفة لمخاطبة الداخل الإسرائيلي، لفضح تجاوزات إسرائيل في الحقوق الإنسانية للفلسطينيين تحت الاحتلال، وفوائد اتخاذ خطوات نحو حل الدولتين، حفاظاً على الهوية الوطنية المستقلة للدولتين، وتحقيق السلام الكامل والشامل عربياً وإسرائيلياً.
نقلا عن اندبندنت عربية