أفرط “إعلان القدس” الصادر خلال زيارة الرئيس بايدن إلى إسرائيل في الحديث عن تأمينها من دون مساءلتها عن تجاوزاتها، أو فرض أي قيود على تحركها الأحادي في الشرق الأوسط، ولصياغته أخطار وتداعيات أمنية جمة شرق أوسطية ودولية، وعلى وجه الخصوص في ما يتعلق بانتشار أسلحة الدمار الشامل النووية وغيرها والتكنولوجيات المرتبطة بها. صياغات وسياسات ومواقف ستدفع دول الشرق الأوسط إلى حيازة التكنولوجيا اللازمة لتصنيع السلاح النووي لتصبح على العتبة النووية وقادرة على العسكرة النووية السريعة.
ومن الخطورة تثبيت الخلل في التوازن الأمني بالمنطقة لاعتبارات الصداقة بين البعض، أو استخدام تعبيرات فضفاضة وصولاً إلى اتفاقات لأن الدول الوطنية تتخذ عادة القرارات اللازمة للحفاظ على أمنها القومي بتطوير قدراتها العسكرية أو الحصول على غطاء أمني من دول كبرى إذا شعرت بوجود عدم توازن أمني في محيطها.
وغني عن التنويه أن الخريطة الأمنية الشرق أوسطية تمر بمرحلة تحول كبيرة بعدما فقد الغطاء الأمني الأميركي كثيراً من مصداقيته كغطاء لصالح الصديق أو كرادع للغير، ونشهد سباقاً لتدعيم القدرات العسكرية الوطنية بما في ذلك أسلحة الدمار الشامل النووية والكيماوية والبيولوجية، وأعتقد أن “بيان القدس” وبعض جوانب الاتفاق النووي ستزيد من تعقيد الأمور إذا لم تستكمل إجراءات مكملة مناسبة.
وأول خطيئة في “بيان القدس” أنه بمفهوم المخالفة خفض أسس وقواعد ضبط منع الانتشار النووي عالمياً وفي منطقتنا، فلم يدع حتى على لسان الجانب الأميركي وحده إلى تحقيق عالمية الانضمام إلى معاهدة عدم الانتشار النووي أو إلى إخلاء الشرق الأوسط من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل الأخرى، بما يعني انضمام تل أبيب إلى المعاهدة وهو شرط واجب النفاذ لتحقيق الأمن للجميع.
نحن الآن أمام مفترق طرق وعند نقطة فارقة في الجهود الرامية لإحياء الاتفاق النووي مع إيران، بعد أن عرضت الدول الأوروبية اقتراحاً توافقياً على الجانبين الإيراني والأميركي حظي بقدر كبير من الاستحسان في ما يتعلق بوضع الحرس الثوري الإيراني والشفافية المطلوبة مع وكالة الطاقة الذرية حول نشاطات طهران النووية السابقة، وضمان تقيد أميركا وإيران بالتزاماتهما في ضوء الانسحاب الأميركي السابق.
وهناك تقدير عام أن الإطالة في المفاوضات لم يعد ملائماً مع اقتراب موسم الانتخابات الأميركية، ويفضل الجانبان عدم المبادرة بالإعلان عن فشل المفاوضات، بعد أن جعل بايدن إحياءها إحدى أولوياته الانتخابية، ولرغبة إيران الحفاظ على المكانة الدولية التي تحظى بها في هذا السياق بين الكبار، وعلى أمل استعادة كل أو جزء من المبالغ الطائلة التي جمدت في سياق العقوبات المفروضة عليها دولياً وأميركياً.
كما أن “بيان القدس” تضمن توجهاً سياسياً أميركياً آخر بالغ الخطورة إذ تم تبني أو القبول ضمنياً باتباع إيران بعد إسرائيل سياسة “الغموض النووي”، ما قد يفتح الباب لتطوير القدرات التكنولوجية النووية بما فيها تكنولوجيات الاستخدام المزدوج التي تقترب من العسكرة، طالما لم تعلن تل أبيب حيازتها للسلاح النووي، وهو ما يتعارض مع معاهدة عدم الانتشار وبعض نصوص الاتفاق النووي.
لذا أجد في “بيان القدس” في الوقت ذاته تصعيداً وتهدئة في المواقف الأميركية تجاه إيران، فيضمن أن واشنطن ستستخدم كل قدراتها ضد طهران، لكنه جعل ذلك مرهوناً بالعمل على تجنب حصولها على “السلاح النووي”، وليس عدم احترام الأخيرة التزاماتها وفقاً لمعاهدة عدم الانتشار النووي أو حتى ضوابط البرنامج النووي الخاصة بتخصيب اليورانيوم، وإنما إعلانها أو إظهارها حيازة هذا النوع من السلاح.
وفي ضوء أهمية هذه المواءمة لم تكن مفاجأة أو صدفة أن يسرع بعد ذلك رئيس مجلس العلاقات الخارجية الإيرانية بالتصريح أن الكل يعلم أن إيران قادرة على تصنيع السلاح النووي إلا أنها غير راغبة في ذلك، وهي بداية سلسلة من الخطوات لتأكيد “الغموض النووي” الإيراني، على غرار مواقف وسياسات تل أبيب النووية المتدرجة في الشفافية والغموض لتحقيق رادع نووي من دون تحمل تداعيات الإعلان عن ذلك حالياً.
ستجد الدول العربية نفسها أمام وضع خطير ومرفوض ببرنامج نووي إسرائيلي غير معلن وإنما ملموس، وخطر نووي إيراني كامن يشكل رادعاً يزيد من الخلل في توازن القوة وعدم الاستقرار، بخاصة مع تراجع مصداقية الغطاء الأمني الأميركي أو الغربي، وأدعوها إلى إعطاء مزيد من الاهتمام لهذا الموضوع وتقويم الأوضاع ومن ضمنها:
إحياء وتنشيط الجهود الرامية إلى اعتبار الشرق الأوسط منطقة خالية من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل الأخرى كهدف أساس لأي ترتيبات أمنية إقليمية، وهناك دور رئيس في ذلك لمصر صاحبة تلك المبادرة والسعودية أكبر دولة خليجية عربية والعراق لما له من علاقات مع مختلف الأطراف، ويجب أن يدرج هذا الهدف في ديباجة الترتيبات والقرارات الدولية بما فيها قرار مجلس الأمن في شأن استئناف مفاوضات الاتفاق النووي.
التحرك مع الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن لإيداع خطابات لدى المجلس تؤكد فيها تأييدها لإنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل الأخرى عن الشرق الأوسط لتحقيق عالمية الانضمام من قبل دول المنطقة إلى معاهدة عدم الانتشار النووي.
دعوة دول الشرق الأوسط إلى مخاطبة مجلس الأمن لإعادة تأكيد تأييدهم لإعلان الشرق الأوسط منطقة خالية من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل.
مطالبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية بتقديم تقرير شامل عن جميع النشاطات النووية في المنطقة.
التقدم إلى مجلس الأمن بمشروع عربي لمعاهدة لإخلاء الشرق الأوسط من الأسلحة النووية والدمار الشامل الأخرى على أساس معاهدة عدم الانتشار الدولية والاتفاقات ذات الصلة مستفيدة من مفاوضات الاتفاق النووي.
نقلا عن اندبندنت عربية