استراتيجية التكيف:
كيف يُعيد “داعش” بناء منظومة التمويل في سوريا؟

استراتيجية التكيف:

كيف يُعيد “داعش” بناء منظومة التمويل في سوريا؟



فرض انكماش تنظيم “داعش” منذ طرد عناصره من آخر المعاقل في سوريا خلال عام 2019 بعد معركة الباغوز، تراجعاً في القدرات المالية للتنظيم خلال الأعوام الثلاثة الماضية، من ناحية تقلص مصادر التمويل التي ارتبطت بشكل أساسي بالتمدد الميداني والسيطرة على مساحات كبيرة من الأراضي في سوريا. ولكن خلال العامين الماضيين بدا أن التنظيم يمتلك قدراً من التكيف مع الظروف الجديدة، وتوفير مصادر تمويل تمكنه من الاستمرار مرحلياً، ويتضح ذلك عبر تأكيدات بفرض عناصر التنظيم “إتاوات” على الشركات العاملة في مجال النفط شمال شرق سوريا.

عوائد كبيرة

تعددت مصادر التمويل التي كان يعتمد عليها تنظيم “داعش” خلال السنوات التي سيطر فيها على مساحات واسعة من العراق وسوريا، ولكن يظل أن النفط كان المصدر الأهم، إذ سيطر على عشرات الحقول في البلدين. وعلى مستوى سوريا خصوصاً، فإن منطقة شمال شرق سوريا اكتسبت أهمية بالغة لاحتوائها على أكبر احتياطي بمعدل 90% من إجمالي احتياطي سوريا من النفط، ونحو 45% من إجمالي الاحتياطي من الغاز الطبيعي.

ووفقاً لبعض التقديرات الغربية فإن تنظيم “داعش” كان يعتمد على حقول النفط في سوريا بشكل أساسي في تمويله، إذ قدرت وزارة الخزانة الأمريكية مداخيل التنظيم من النفط ما بين مليون أو2 مليون دولار يومياً في عام 2014، ارتفعت في عام 2015 بعد السيطرة الكاملة على أغلب حقول النفط في شرق وشمال شرق سوريا إلى ما يقرب من 40 مليون دولار يومياً، وفقاً لبعض التقديرات. وبالتالي فإن استعادة تنظيم “داعش” جزءاً من نفوذه في مناطق شمال شرق سوريا يُمكّنه من توفير مصادر تمويل اعتماداً على فرض “إتاوات” على مستخرجي النفط، في إطار استراتيجية التنظيم للتكيف في ظل حالة الانكماش والتراجع منذ عام 2019، وفي جزء منها توفير مصادر تمويل.

فرض إتاوات

يمكن تحديد كيفية توفير تنظيم “داعش” مصادر للتمويل في إطار استراتيجية التكيف على الوضع الجديد بعد خسارة مساحات كبيرة من الأراضي التي كان يسيطر عليها في سوريا، في ضوء تباين تلك المصادر لاعتبارات تتعلق بالنطاق الجغرافي لنفوذه وعملياته. وبالنظر إلى نطاق نشاط التنظيم، أو بالأحرى خلاياه، فإنها تتركز في البادية السورية، وشمال شرق سوريا، وسنركز بالأساس على الأخيرة في سياق تحديد طبيعة التحركات لفرض “الإتاوات” على شركات النفط.

بالنسبة لمنطقة البادية السورية: في أعقاب طرد عناصر “داعش” من المناطق التي كان يسيطر عليها في شمال شرق سوريا، اتجهت خلايا التنظيم إلى الاستقرار في منطقة البادية، إذ كانت خياراً استراتيجياً في محاولة لإعادة ترتيب صفوف عناصر التنظيم. ووفقاً لتقارير إعلامية فإن مصادر تمويل “داعش” انقسمت إلى فرض “إتاوات” على شبكات تهريب البشر، خاصة السوريين من مناطق سيطرة النظام السوري باتجاه تركيا، إضافة إلى فرض إتاوات على المهربين وتحديداً مهربي التبغ، كما أنه يستغل شبكات التنقيب عن الآثار ويفرض عليها دفع مبالغ مالية مقابل عدم التعرض لهم، فضلاً عن محاولات فرض عناصر التنظيم إتاوات على سكان البادية تحت دعاوى “الزكاة”.

وهنا فإن التنظيم استغل طبيعة البيئة المحيطة التي يتواجد فيها لتوفير مصادر تمويل، مع الوضع في الاعتبار أنه كان يركز على تلك المصادر في وقت أن كان نطاق عملياته في منطقة البادية بشكل أساسي. ومنذ عام 2019 وحتى قبل ثلاثة أشهر من نهاية العام الماضي، ووفقاً لتقرير “OPERATION INHERENT RESOLVE” الصادر عن المفتش العام الأمريكي لوزارات الدفاع والخارجية والتعاون الدولي خلال الفترة من 1 يوليو إلى 30 سبتمبر 2021؛ فإن نطاق استهداف تنظيم “داعش” يركز على تمركزات قوات الجيش السوري في البادية، رغم التراجع العملياتي في الإطار الزمني للتقرير.

أما فيما يخص منطقة شمال شرق سوريا: فخلال عام 2020، حاول تنظيم “داعش” فرض إتاوات على أصحاب المحال التجارية في أكثر من منطقة بمحافظة دير الزور، وفقاً لتقارير صحفية محلية آنذاك، واقتصر نشاط التنظيم فيما يتعلق بحقول وآبار النفط في العام ذاته على عمليات استهداف عناصر من قوات “قسد” في الطرق المؤدية إلى بعض الحقول.

ومع ذلك، فإن التنظيم بدا مهتماً بالعمليات في محيط حقول وآبار النفط منذ عام 2020، ومع التحول في النطاق العملياتي لتنظيم “داعش” باتجاه مناطق شمال شرق سوريا بداية من شهر سبتمبر الماضي، بناء على حصر عدد العمليات التي نفذها التنظيم وفقاً لما أعلنته وكالة “أعماق” الموالية لـ”داعش”، فإن ثمة استهدافاً لبعض الحقول، كما يوضح الجدول التالي:

وبمقارنة عمليات التنظيم فيما يتعلق باستهداف الحقول أو عمليات في محيطها أو استهداف صهاريج النفط، فإن التنظيم بداية من شهر سبتمبر أحرق حقل نفط وآخر للغاز، مقارنة بالأشهر الثلاثة (يونيو ويوليو وأغسطس)، بما يُشير إلى أن ثمة تطوراً في عمليات الاستهداف، بداية من شهر سبتمبر، وهو الشهر نفسه الذي شهد نشاطاً أكبر للتنظيم في منطقة شمال شرق سوريا.

وكانت عمليات التنظيم قبل شهر سبتمبر 2021 تتجه إلى استهداف الصهاريج التي تحمل النفط على بعض الطرق، باعتبارها أقل الأهداف تأميناً، ويمكن نصب الكمائن لاستهدافها وإحراق حمولاتها.

ويمكن تفسير هذه التحركات لتنظيم “داعش” في إطار محاولات ابتزاز للشركات العاملة في مجال استخراج النفط، وسط تأكيدات تقارير إعلامية دولية بأن التنظيم يعمد إلى تهديد تلك الشركات باستهداف العاملين في تلك الحقول والآبار، إضافة إلى أعمال تخريبية، في حالة عدم دفع إتاوات للتنظيم.

دلالات مهمة

مع اتجاه تنظيم “داعش” إلى فرض إتاوات على الشركات العاملة في مجال النفط بشمال شرق سوريا، فإن ثمة دلالات مهمة تتعلق باستراتيجية التنظيم للتكيف انطلاقاً من توفير مصادر التمويل التي لا تحافظ فقط على استمرار التنظيم ولكن أيضاً توسيع نفوذه خلال الفترة المقبلة، على النحو التالي:

1- التحول التدريجي في تنويع مصادر التمويل: بالنظر إلى محاولات “داعش” توفير مصادر تمويل في نطاق نشاطه ونفوذه بسوريا، فإن ثمة رغبة في تنويع مصادر التمويل مع استمرار تدفق الأموال من كل تلك المصادر في آن واحد، كما أن الاتجاه إلى فرض إتاوات على شركات النفط يرتبط بزيادة التمويلات، خاصة وأن عوائد المصادر في منطقة البادية قليلة مقارنة بما يمكن أن يتحصل عليه من تلك الشركات، وكانت ترتبط بشكل أساسي بمرحلة ترتيب الصفوف.

2- الرغبة في توسيع النفوذ الميداني: هناك دلالة مهمة تتعلق بفرض إتاوات على شركات النفط، ترتبط بشكل أساسي بطبيعة المرحلة التي يمر بها تنظيم “داعش” في سوريا حالياً، وهي تلك التي يتطلع فيها إلى توسيع دائرة نفوذه مرة أخرى باتجاه مناطق سيطرة “قسد” في شمال شرق سوريا، إذ إن زيادة النشاط العملياتي يرتبط بزيادة عمليات التجنيد وتوفير رواتب شهرية لمقاتليه وتوفير دعم لوجيستي وغذائي للعناصر الجديدة، وهنا فإن زيادة التمويل تمثل فرصة مناسبة لاستقطاب عناصر جديدة، كما أن ثمة أبعاداً أخرى لا تتعلق بسوريا فقط، عبر توفير التمويلات لأفرع “داعش” خارج العراق وسوريا، وتحديداً في إفريقيا وفرع خراسان.

3- تعويض الخسائر بعد القبض على مسؤولي التمويل: ربما يسعى تنظيم “داعش” من خلال فرض إتاوات على شركات النفط، إلى تعويض الخسائر التي تعرض لها عقب القبض على أكثر من قيادي مسؤول عن التمويل في التنظيم، وكان أبرزهم “سامي جاسم” نائب زعيم “داعش” “أبو بكر البغدادي” ومسؤول التمويل في التنظيم، وفقاً لما أعلنه رئيس الحكومة العراقية “مصطفى الكاظمي”، في أكتوبر 2021.

4- الهروب من تضييقات جهود مكافحة تمويل الإرهاب: يسعى تنظيم “داعش” إلى زيادة التمويلات ولكن مع الابتعاد عن التحويلات المالية لأنصاره والموالين له من خارج مناطق النزاعات، وتوفير مصادر تمويل مباشرة، إذ ذكر بيان لمجموعة العمل المالية في التحالف الدولي لمواجهة “داعش” خلال الأسبوع الأول من شهر ديسمبر الماضي، أن أنصار “داعش” المقيمين خارج مناطق النزاع يستخدمون مزودي خدمات الأصول الافتراضية لإرسال تحويلات دولية إلى أعضاء التنظيم، ولكنها تعطلت بسبب التنسيق الفعال بين الوكالات الحكومية ذات الصلة وامتثال مقدمي خدمات الأصول الافتراضية المحليين لمعايير مكافحة غسل الأموال ومكافحة تمويل الإرهاب، كما اتجهت إلى مواجهة جمع التبرعات عبر منصات الإنترنت وتحويلها للجماعات الإرهابية.

5- عدم القدرة على توسيع دائرة الابتزاز لشركات النفط: بقدر خطورة التهديد الذي يمثله توجه “داعش” لفرض إتاوات على شركات النفط لتوفير تمويلات أكبر، إلا أنه لا يزال باتجاه الآبار الصغيرة التي تسيطر عليها شركات محلية، ولا تنتج كميات كبيرة من النفط، وبالتالي يسهل الضغط عليها، مقارنة بحقول أخرى تسيطر عليها شركات أجنبية، وتلك تحظى بتأمين كبير سواء من قوات “قسد” أو القوات الأمريكية مثل حقل “العمر”، وهذا يعكس عدم قدرة “داعش” على تطوير الهجمات على تلك الحقول، ولكن مع الوقت يمكن أن يشكل تهديداً متزايداً.

وأخيراً، فإن تنظيم “داعش” يسعى إلى زيادة نفوذه ونشاطه في سوريا، من خلال تنويع وزيادة مصادر التمويل، والعمل في إطار استراتيجية التكيف، بالشكل الذي يمكنه من استقطاب عناصر جديدة خلال الفترة المقبلة.