تأثير ممتد:
كيف ينعكس الملف الأوكراني على السياسة الروسية في الشرق الأوسط؟

تأثير ممتد:

كيف ينعكس الملف الأوكراني على السياسة الروسية في الشرق الأوسط؟



أثارت التوترات المتصاعدة في الآونة الأخيرة بين روسيا والدول الغربية حول أوكرانيا تساؤلات عديدة حول انعكاساتها على السياسة الروسية في منطقة الشرق الأوسط التي تحظى بأهمية خاصة بالنسبة للطرفين. فخلال السنوات الماضية، تبنت موسكو إستراتيجية الانخراط المتزايد في شئون المنطقة، وهى الإستراتيجية التي كانت مدفوعة، في جانب منها، بمحاولة إعادة صياغة دورها في النظام العالمي، وكذلك مواجهة التدخلات الغربية المتكررة في مناطق تنظر إليها موسكو على أنها جزء من مجالها الحيوي التاريخي، على غرار جورجيا وأوكرانيا. ولذا، كانت قضايا وصراعات المنطقة مدخلاً هاماً للسياسة التي اتبعتها روسيا للخروج من العزلة التي سعت الدول الغربية إلى فرضها عليها، وكذلك للرد على العقوبات الغربية التي تتعرض لها على خلفية تدخلها في أوكرانيا وضمها لشبه جزيرة القرم.

أزمة متجددة

تصاعدت حدة التوترات مؤخراً بين روسيا والدول الغربية على خلفية التطورات الجديدة في الملف الأوكراني، حيث حذَّر حلف شمال الأطلنطي “الناتو”، في 30 نوفمبر الفائت، روسيا من أنها “ستدفع ثمناً باهظاً إذا ما غزت أوكرانيا”، وهو التحذير الذي جاء بعد تصريح وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا بأن روسيا قامت بحشد نحو 115 ألف عسكري عند حدودها مع أوكرانيا وفي شبه الجزيرة القرم، وفي المناطق الأوكرانية الواقعة تحت سيطرة الانفصاليين في شرق البلاد، وطالب الدول الغربية بالتدخل فوراً من أجل “كبح جماح روسيا”. في حين كشفت تقارير أمريكية، في 5 ديسمبر الجاري، أن موسكو حشدت نحو 175 ألف جندي للقيام بغزو محتمل لأوكرانيا مع بداية العام الجديد.

وكان لافتاً أن وزير الدفاع الأمريكي لويد اوستن حرص، في 2 من الشهر نفسه، على وصف روسيا بـ”الاتحاد السوفييتي”، عندما أشار إلى أن “أفضل الأحوال هو ألا نشهد توغلاً من الاتحاد السوفييتي في أوكرانيا”. ورغم أن اتجاهات عديدة اعتبرت أن ذلك بمثابة خطأ غير مقصود من جانب اوستن، فإن اتجاهات أخرى رجحت أن الوصف كان متعمداً كإشارة لاستعادة أجواء التوتر التي كانت قائمة بين واشنطن وموسكو خلال فترة الحرب الباردة.

وفي مقابل هذا التصريحات، قال الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين، في 30 نوفمبر الفائت، أن “التدريبات العسكرية والتحركات الأخرى التي تقوم بها الدول الغربية وأوكرانيا تهدد أمن روسيا”، محذراً من تجاوز “الخطوط الحمراء” للكرملين، وأضاف: “انظروا، لقد تحدثوا عن تدخل عسكري روسي محتمل في أوكرانيا بداية العام، لكن كما ترون لم يحدث ذلك”.

وتستدعي هذه التوترات منطقة الشرق الأوسط مجدداً كساحة للمواجهة والصدام بين روسيا وتلك الدول، خاصة أنها معنية بالتطورات التي تشهدها أزمات المنطقة. صحيح أن الانخراط الروسي في المنطقة ارتبط بعدد من المصالح الاستراتيجية، إلا أن الملف الأوكراني كان عاملاً هاماً ضاعف من أهمية الشرق الأوسط بالنسبة لموسكو وذلك لاعتبارين رئيسيين: أولهما، أن التدخل في قضايا الشرق الأوسط منح لروسيا فرصة لتجاوز العزلة الدبلوماسية التي حاولت الدول الغربية فرضها عليها في أعقاب ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، والرد على العقوبات التي فرضت عليها حينها.

وثانيهما، أن المجال الحيوي مدخل هام لتفسير الانخراط الروسي المتنامي في الشرق الأوسط، إذ تتعاطى موسكو مع دول الاتحاد السوفيتي السابق على أنها فضاء خاص بها لا يمكن السماح لأطراف أخرى بالتواجد فيه. وعليه، بدا التدخل الغربي في أوكرانيا، من وجهة نظر صانع القرار الروسي، هجوماً سياسياً على النفوذ والمصالح المباشرة يستدعي رد فعل روسياً يستهدف التأثير على المصالح الغربية في مناطق أخرى وفي مقدمتها منطقة الشرق الأوسط باعتبارها من المناطق الحيوية بالنسبة للدول الغربية.

أدوات رئيسية

يرجح أن تؤدي التوترات الراهنة بين روسيا والدول الغربية حول الملف الأوكراني إلى إكساب بعض الأدوات السياسية الروسية في الشرق الأوسط المزيد من الزخم والاستمرارية، وخاصة أن هذه الأدوات كانت حاضرة في السياسة الروسية خلال السنوات الماضية، وتتمثل أهم هذه الأدوات فيما يلي:

1- الانفتاح على الأطراف المُناوِئة: وهو مدخل تراهن عليه موسكو في تعزيز حضورها بمنطقة الشرق الأوسط، إذ عملت على إنشاء قنوات للتواصل مع الأطراف المُناوِئة للدول الغربية، والتي تنظر إليها الأخيرة بصورة سلبية، على نحو يبدو جلياً في الانفتاح الروسي على حزب الله اللبناني، واستقبال روسيا لقياداته، وذلك على غرار الزيارة التي قام بها وفد من الحزب لروسيا برئاسة النائب محمد رعد، في 14 مارس 2021، ولقاءه وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف. وبالرغم من عدم الإدلاء بتفاصيل كثيرة عن الزيارة، فإن رعد صرح حينها بأن الزيارة تضمنت “بحث تطورات الأوضاع في المنطقة ولبنان وكيفية تثبيت الاستقرار في المنطقة والحيلولة دون استفراد أى قوة من خلال دعمها للإرهاب من أن تتحكم بمصير شعوب هذه المنطقة”.

2- تعزيز العلاقات مع إيران: رغم صعوبة وصف العلاقات الروسية- الإيرانية بأنها علاقات “تحالف صلب”، فإن ثمة مصالح مشتركة بينهما تدفعهما إلى الحفاظ على قدر كبير من التقارب ومحاولة تجاوز أى خلافات بينهما، فهناك تعاون بين الدولتين في سوريا، كما وجدت طهران في علاقاتها مع موسكو فرصة للخروج من عزلتها الدولية، فضلاً عن التقارير التي تحدثت عن دور روسيا في تدعيم المنظومة التسليحية لإيران. وفي المقابل، كانت موسكو تُوظِّف علاقاتها مع طهران لبناء محور يضم معهما سوريا ويكون الهدف منه التكريس للوجود الروسي بالمنطقة. كما تدعم روسيا موقف إيران في مفاوضات فيينا وترفض المقاربة الأمريكية بتوسيع نطاق هذه المفاوضات.

وفي هكذا سياق، ربما تدفع التوترات بين روسيا والدول الغربية حول الملف الأوكراني إلى تعزيز العلاقات بين موسكو وطهران، والعمل على تأجيل الخلافات بينهما، ولاسيما أن كلاً منهما يرغب في تقليص النفوذ الغربي، والأمريكي على وجه التحديد، بالمنطقة.

3- مواصلة دعم النظام السوري: شكَّل التدخل الروسي في الصراع السوري نقطة تحول جوهرية فيه. وبقدر ما كان هذا التدخل مرتبطاً بمجموعة من المصالح الاستراتيجية الروسية، فإنه جاء أيضاً في إطار الرد الروسي على التدخل الغربي في الملف الأوكراني، إذ وظَّفت موسكو التدخل في الصراع السوري لإثبات قدرتها على مواجهة السياسات الغربية، لاسيما أن الدول الغربية كانت ترغب، في بداية الصراع السوري، في الإطاحة بنظام بشار الأسد، ولكن بمرور الوقت، ونتيجة للتدخل الروسي، تراجع هذا الموقف الغربي كثيراً.

4- نشر منظومات التسليح الروسية: ففيما عملت الدول الغربية على التأثير على المصالح الروسية في مناطق النفوذ التقليدية لموسكو، على غرار أوكرانيا، لجأت روسيا إلى التوسع في عقد صفقات تسلح مع دول المنطقة كواحدة من أدوات الضغط على الدول الغربية. فعلى سبيل المثال، قامت روسيا بنشر أسلحة متطورة في سوريا مثل نظام الدفاع الجوي قصير المدى “بانتسير”. وظهر هذا النمط أيضاً في صفقة لمنظومة الدفاع الصاروخي “S-400” التي عقدتها روسيا مع تركيا، وأثارت توترات عديدة بين الأخيرة والدول الغربية، التي اعترضت على ضم تركيا منظومة الدفاع الصاروخي الروسي لأنظمتها التسليحية بالرغم من كونها دولة في حلف شمال الأطلنطي. وبالرغم من التوترات بين تركيا والدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، حول منظومة الدفاع الصاروخي الروسي، فقد صرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، عقب لقاءه مع الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين، في 30 سبتمبر الماضي، بأن “تركيا تبحث اتخاذ مزيد من الخطوات المشتركة فيما يتعلق بالصناعات الدفاعية مع روسيا في مجالات مثل محركات الطائرات والطائرات المقاتلة والغواصات”، وأوضحت بعض التقارير حينها أن اللقاء تضمن اقتراح الرئيس التركي العمل مع روسيا في بناء محطتى كهرباء أخريين تعملان بالطاقة النووية، وأن الرئيس الروسي بوتين اقترح تطوير منصات إطلاق صواريخ في الفضاء.

5- مزاحمة الدول الغربية في ملفات المنطقة: وهو نمط اعتادت عليه موسكو خلال السنوات الماضية، حيث أنها منخرطة في صراعات المنطقة، بشكل أو بآخر، وذلك على غرار ليبيا وسوريا، كما ظهرت محاولات روسية للتدخل في الأزمة اللبنانية من خلال التواصل مع القوى السياسية المختلفة، ولاسيما مع تعاطي روسيا مع الملف اللبناني من منظور التنافس مع الولايات المتحدة. وقد أدى هذا التنافس إلى المزيد من التشابكات داخل لبنان، وخاصة أن موسكو تستغل أى فرصة متاحة للتأكيد على تمايز دورها عن الدور الأمريكي في لبنان، ولعل هذا ما دللت عليه تصريحات السفير الروسي السابق في لبنان ألكسندر زاسبيكين، في 29 يونيو 2020، حينما انتقد السفيرة الأمريكية في لبنان ​​دوروثي شيا، بعد تصريحاتها حول حزب الله، واتهامه بـ”ابتلاع مليارات الدولارات من أموال الدولة”. واستغل السفير الروسي حينها هذه التصريحات ليُصدِّر صورة سلبية عن الدور الأمريكي في لبنان، حيث قال أن “واشنطن ​تُحمِّل الحزب مسئولية​ الفساد ​والمأزق الاقتصادي وأزمة النظام المصرفي ووضع ​الجمارك​ والمعابر الحدودية، في حين أننا جميعاً نعرف أن الواقع المالي والاقتصادي في لبنان يتأثر كثيراً بالعقوبات الأمريكية​ والقيود على التحويلات، خصوصاً أن واشنطن تسيطر على ​الدولار ​وتتحكم بإدارة الشئون المالية العالمية”.

ملفات متشابكة

في النهاية، يبدو أن ارتدادات الأزمة الروسية- الغربية في أوكرانيا سوف تتواصل على المديين القريب والمتوسط، خاصة أنها ربما تدفع روسيا إلى تعزيز حضورها في منطقة الشرق الأوسط، ومواصلة دعمها للأطراف التي تتبنى سياسات لا تتوافق مع المصالح والسياسات الغربية، على نحو سوف يساهم في توسيع هامش المناورات وحرية الحركة أمام هذه الأطراف خلال المرحلة القادمة.