مع إخفاق إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، في إقناع إيران بالعودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، الذي انسحبت منه الإدارة الأمريكية السابقة في مايو 2018 بصورة منفردة، وإيلاء الإدارة الديمقراطية أولوية للنهج الدبلوماسي للتعامل مع التعنت الإيراني خلال المباحثات غير المباشرة في فيينا، وتصاعد تهديدات وكلاء طهران المسلحين للقوات الأمريكية المنتشرة في الشرق الأوسط، ولحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة وللملاحة الدولية؛ نشرت مجلة “الشؤون الخارجية” في عددها عن شهري مارس/إبريل 2022 للزميل الأول بمؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، كريم سجادبور، دراسة بعنوان “انتصار إيران الأجوف: الثمن الباهظ للهيمنة الإقليمية” تستعرض أدوات القوة الإيرانية، وكيف يمكن للولايات المتحدة مجابهتها.
الصلابة الإيرانية
يشير التحليل إلى أنه منذ الثورة الإيرانية في عام 1979 أظهرت الاستراتيجية الإيرانية تجاه الولايات المتحدة والشرق الأوسط استمرارية ملحوظة على عكس الاستراتيجية الأمريكية تجاه طهران والشرق الأوسط التي تغيرت بشكل ملحوظ مع تعاقب الإدارات الأمريكية الجمهورية والديمقراطية المختلفة. ويُضيف: على مدى العقدين الماضيين، رسخت إيران أقدامها في العراق ولبنان وسوريا واليمن، وقد تمكنت طهران من دعم حزب الله اللبناني والحوثيين في اليمن، مع استغلال فراغ السلطة الذي خلّفه الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003 ثم ثورات الربيع العربي. وفي المقابل، لم تُظهِر واشنطن أو خصوم إيران القدرة على تحدي طهران في تلك البلدان.
ويذكر التحليل أن إيران وضعت العراقيل أمام الأمن القومي الأمريكي، ووجهت اهتمامها صوب الانتشار النووي، والحرب الإلكترونية، والإرهاب، والصراعات في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن، والصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وعلى الرغم من التحديات المشتركة التي واجهتها طهران وواشنطن منذ عام 1979، بما في ذلك الاتحاد السوفيتي، والعراق تحت حكم صدام حسين، والقاعدة، وطالبان، وداعش؛ فإن محاولات الولايات المتحدة فشلت في حث إيران على تغيير مسارها.
ويشير الكاتب إلى أن نشاط إيران الخارجي يكشف عن أمراض مستعصية في الداخل الإيراني. فقد استثمرت طهران قدراتها المحدودة في تطلعاتها لقلب النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة أكثر من أي دولة أخرى في العالم، بما في ذلك الصين وروسيا. وبذلك، تزايدت معدلات الفقر، وتراجع الإحساس بالأمان داخل المجتمع الإيراني. كما أن الهوة بين تطلعات إيران وقدراتها تعني بالضرورة استمرار استنزاف الموارد الوطنية لدعم المليشيات الإقليمية والصراعات الخارجية، مما يعمق الإحباط الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، ويفرض مزيداً من القمع.
ويردف: لن تكون الولايات المتحدة قادرة على التوصل إلى تسوية سلمية مع النظام الإيراني الذي ترتكز هويته على معارضة واشنطن. ولن تسفر المشاركة الأمريكية الأكبر أو مزيد من الضغوط عن تغير سريع في العلاقات الأمريكية-الإيرانية أو النظام الإيراني. ولهذا السبب، يجب على الولايات المتحدة أن تتعامل مع إيران مثل أي خصم، من خلال التواصل لتجنب الصراع، والتعاون عند الإمكان، والمواجهة عند الضرورة، والاحتواء مع الشركاء.
تعزيز القوة
يعتقد العديد من الإيرانيين أن القوى العظمى تحول دون ازدهار بلادهم، وتستغل طهران ذلك لتبرير قمعها الداخلي وطموحاتها الخارجية. فقد دأبت على وصف المتظاهرين السلميين ونشطاء الحقوق المدنية والصحفيين بالعملاء الأجانب. كما تدافع إيران عن طموحاتها النووية ودعم المليشيات الإقليمية التي تنتهك بشكل صارخ سيادة جيرانها العرب. ومنذ نشأته وضع النظام الإيراني تطلعاته الأيديولوجية فوق ازدهار وأمن الشعب الإيراني، متخذاً قرارات تضر بشدة بمصالح البلاد الوطنية. ومن الأمثلة على ذلك إطالة أمد الحرب الإيرانية-العراقية في ثمانينيات القرن الماضي من أجل تعزيز القوة المحلية، وحظر لقاحات فيروس كورونا من الولايات المتحدة.
ويُشير التحليل إلى أن إيران تمتلك مقومات جغرافية وبشرية هائلة، ولكن عوضاً عن الاستفادة منها لتصبح قوة اقتصادية أو لتعزيز مصالحها الوطنية، أسست طهران سياستها الخارجية على ركيزتين هما مواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل، باستخدام الأيديولوجيات “الإمبريالية” والطائفية الشيعية والقومية الإيرانية بهدف تنمية الشركاء في منطقة الشرق الأوسط واستخدامهم كوكلاء ضد أعدائها. وتأمل إيران في شرق أوسط دون وجود للولايات المتحدة، ونشر الثيوقراطية الخمينية. ويرى الكاتب أن هذه الرؤية بعيدة المنال، فعلى الرغم من الانسحاب العسكري الأمريكي من أفغانستان والعراق، تحتفظ الولايات المتحدة بنحو 65 ألف جندي في منطقة الخليج العربي لردع إيران، كما تحولت إسرائيل إلى مركز تكنولوجي عالمي أكثر اندماجاً في العالم العربي من أي وقت مضى خاصة بعد اتفاقات السلام مع عديد من الدول العربية. كما أضحت الإمارات العربية المتحدة هي النموذج الذي تطمح إليه معظم الدول العربية وليست إيران الخمينية.
ويوضح الكاتب أن إيران تقترب من تحقيق رؤيتها مقارنة بعقد مضى؛ فقد تراجع عدد القوات الأمريكية في أفغانستان والعراق من 200 ألف جندي إلى 2500 جندي فقط، ويدين الرئيس السوري المحاصر بشار الأسد بحياته للدعم الإيراني، ويمكن اعتبار الحوثيين بالإضافة إلى حزب الله اللبناني ومختلف المليشيات الشيعية في العراق حلفاء مخلصين لإيران على استعداد لشن هجمات ضد خصومها في أي وقت.
وكلاء طهران
أرجع الكاتب نجاح إيران في الشرق الأوسط إلى الحرب الأهلية اللبنانية، والغزو الأمريكي للعراق، وثورات الربيع العربي، وفراغ السلطة الذي ملأته إيران بشبكة من المليشيات. بعبارة أخرى، يُعزى تزايد الدور الإيراني في المنطقة إلى الضعف العربي أكثر منه للقوة الإيرانية. ويضيف التحليل أن الفوضى العربية سهلت الطموحات الإيرانية، فأضحى حزب الله هو أقوى قوة في لبنان، وتمكنت طهران من اغتيال خصومها السياسيين، والإفلات من العقاب، وإدارة اقتصادها السري. كما تملك إيران أكثر من 100 ألف صاروخ وقذيفة قادرة على استهداف إسرائيل.
ويُضيف التحليل أن إيران حوّلت العراق إلى جحيم للولايات المتحدة، واستخدمت المليشيات الشيعية المدعومة من إيران عبوات ناسفة لإسقاط 1000 ضحية أمريكية، ويحتاج نظام الأسد إلى أموال إيران وسلاحها، وتحتاج طهران إلى الأراضي السورية كجسر لحزب الله ورأس جسر ضد إسرائيل، وأصبحت الحكومة الإيرانية الزعيم الفعلي لإحدى أكبر شبكات تهريب المخدرات في العالم.
وتزود إيران الحوثيين بالأسلحة، وتمولهم جزئياً من خلال البيع غير المشروع للمخدرات، وهو ما يُعد وسيلة لإلحاق أضرار مادية هائلة بالمملكة العربية السعودية وسمعتها، إذ تشير التقديرات إلى أنها أنفقت أكثر من 100 مليار دولار على تدخلها في اليمن، وهي مسؤولة عن الخسائر الإنسانية المروعة للصراع. ويعكس حكم الحوثيين غير المتسامح وشعاراتهم عمق إيمانهم بالأيديولوجيا الإيرانية.
كما دفع التحليل بأن إيران بصفتها الدولة الثيوقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، سخّرت الراديكالية الإسلامية السنية والشيعية على حد سواء بشكل أفضل. وتتفوق طهران على منافسيها من العرب السنة بفعل استعداد جميع الراديكاليين للقتال من أجلها. وتُعد الأيديولوجيا هي المعيار الأسمى لطهران على صعيد التحالفات الاستراتيجية لا الدين، كما يتضح من علاقاتها الوثيقة مع الجماعات السنية الراديكالية.
وقد عملت طهران من حين لآخر مع الأصوليين السنة بما في ذلك القاعدة وطالبان. وبدلاً من إعطاء الأولوية للمصالح الوطنية الإيرانية، فإن الاستراتيجية الإيرانية الكبرى مبنية على تسلسل هرمي للعداء، بمعنى أن أي عدو للولايات المتحدة وإسرائيل هو شريك محتمل لطهران. وكما قال خامنئي في عام 2021: “سندعم ونساعد أي أمة أو أي مجموعة في أي مكان تعارض وتحارب النظام الصهيوني، ولا نتردد في قول ذلك”.
بداية النجاح
تظهر استطلاعات الرأي أن ما يقرب من ثلثي الشباب العربي في المنطقة ينظرون الآن إلى إيران بوصفها العدو، وأن أغلبية العرب يرغبون في انسحاب إيران من الصراعات الإقليمية، وأن أكثر من نصف الشيعة العرب لديهم وجهة نظر “غير مواتية” تجاه إيران. ففي السنوات الأخيرة، هاجم المتظاهرون العراقيون القنصليات الإيرانية في النجف وكربلاء، واحتج الشيعة اللبنانيون على حزب الله في جنوب لبنان. ولا تزال سوريا واليمن غارقتين في الحرب الأهلية، ولا تزال لبنان غارقة في أزمتها الاقتصادية. وقد تؤدي سياسات إيران الإقليمية إلى استعداء العرب، لكن من غير المرجح أن تثير رد فعل عنيف ذي مغزى من الولايات المتحدة وفقاً للتحليل.
وتهدف إيران إلى ممارسة نفوذها في الشرق الأوسط دون تحمل أي مسؤولية عن السياسات اليومية. فلم يعد ممكناً اتخاذ أي قرار استراتيجي في العراق أو لبنان دون مباركة المليشيات الشيعية الإيرانية، بيد أن الأخيرة لا تتحمل أي مسؤولية عن معالجة البطالة أو الفساد أو جمع القمامة، فالمليشيات الإيرانية تملك القوة دون أن تملك الحكومات مسائلتها.
ومع تدهور الاقتصاد الإيراني، بدأ الإيرانيون في التشكيك في سياسات الحكومة بما في ذلك عداؤها للولايات المتحدة. ومن بين الشعارات التي تُسمع عادة في الاحتجاجات الشعبية في إيران: “انسوا سوريا” و”فكروا بنا” و”إنهم يكذبون أن عدونا هو أمريكا.. عدونا هنا”. ومع ذلك، هناك شرطان أساسيان لانهيار النظام الاستبدادي الإيراني هما: الضغط من الأسفل، والانقسامات من أعلى. إذ تشهد طهران اضطرابات شعبية متزايدة، إلا أن قوات الأمن التابعة للنظام متحدة وراغبة في القتال، في حين تنقسم الجماهير الساخطة في البلاد دون قيادة. إن هذا الاستقرار على المدى القريب يعني عدم تغير الاستراتيجية الكبرى لإيران طالما ظل خامنئي في منصب المرشد الأعلى.
جبهة موحدة
يُشير التحليل إلى أن الولايات المتحدة تتعامل مع خصم يتجنب الحوار المباشر، وتقوم هويته على أساس العداء لها، ولديه الموارد والعزم على زرع الفوضى في مختلف أنحاء الشرق الأوسط. ويعتقد صناع السياسة أن أيديولوجيا إيران الثورية يمكن أن تعتدل من خلال المشاركة الأمريكية أو تُخمد بالصلابة الأمريكية. فيما يعتقد العديد من التقدميين أن عناد طهران هو مجرد رد فعل لسياسات الولايات المتحدة العدائية، في حين افترض العديد من المحافظين أن المصاعب الاقتصادية الأكبر ستجبر طهران على الاختيار بين أيديولوجيتها وبقاء النظام. لكن بالنسبة لخامنئي، فإن الحفاظ على الأيديولوجيا الثورية الإيرانية هو غاية في حد ذاته، ووسيلة لضمان بقاء النظام.
ويُضيف الكاتب أن النفوذ الأمريكي على طهران يتراجع مع تنوع شركائها الاقتصاديين، لذا فإن الاستراتيجية الفعالة لاحتواء ومواجهة إيران ستتطلب قيادة أمريكية وبناء الإجماع الدولي. وتتمثل الخطوة الأولى لذلك في تكوين إجماع سياسي محلي. فعند توقيع الاتفاق النووي لعام 2015، اتفق الديمقراطيون والجمهوريون على نطاق واسع حول طبيعة النظام الإيراني وقدرته على تهديد الأمن الإقليمي. وهناك أرضية مشتركة كافية من الحزبين لبناء إجماع حول فهم رصين لطبيعة النظام الإيراني، وهو فهم لا يبالغ في التهديد الذي تُشكله طهران على الولايات المتحدة نفسها، ولكنه لا يقلل أيضاً من التهديد الذي تشكله عليها.
وعلى مدى العقود القليلة الماضية، سعت الدول الأوروبية بشكل متقطع إلى الحوار مع طهران، وقدمت حوافز اقتصادية على أمل تعديل السياسات الإيرانية في أربعة مجالات هي: حقوق الإنسان، وانتشار الأسلحة النووية، والإرهاب، والسلام في الشرق الأوسط. ومع ذلك، فشل هذا الحوار في تحقيق أي تغييرات ذات مغزى في سياسات إيران الداخلية أو الخارجية. وعلى العكس من ذلك، هددت طهران بتفاقم أزمة اللاجئين في أوروبا من خلال سياساتها الإقليمية. ونتيجة لذلك، لا يزال الرأي العام الأوروبي ينتقد إيران كما هو الرأي العام الأمريكي.
وقد تضاعفت صادرات النفط الإيرانية إلى الصين أربع مرات خلال العام الماضي، مما قلّل من حاجة طهران للعودة إلى الاتفاق النووي. ولذا فإن أي جهد لتغيير حسابات إيران سيتطلب موافقة بكين. ويضيف الكاتب أن الصين تسعى إلى شرق أوسط مستقر لضمان التدفق الحر للنفط من المنطقة، حيث إن احتجاز إيران لناقلات النفط وهجمات الطائرات بدون طيار ضد المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة يهدد المصالح الصينية أكثر مما يهدد المصالح الأمريكية.
ستحتاج الولايات المتحدة إلى تقوية الدول العربية التي تسيطر عليها إيران حالياً. إذ تستغل طهران الدول العربية ذات الحكومات الضعيفة والمجتمعات المنقسمة. ومثلما لعبت القومية دوراً فعالاً في محاربة النفوذ السوفيتي والغربي في القرن العشرين، فإن القومية العراقية واللبنانية والسورية واليمنية، أو القومية العربية، ستكون ضرورية لصد النفوذ الإيراني واستعادة سيادة تلك الدول.
الداخل أولاً
ختاماً، يَخْلُصُ التحليل إلى قرب انهيار القوة الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط مع رفض العرب لها، وتآكل الموارد الإيرانية، وتصدير التعصب الاجتماعي، والبؤس الاقتصادي إلى الخارج. ويَخلُص التحليل إلى أن الاستراتيجية الكبرى لإيران لن تُهزم من قبل الولايات المتحدة أو إسرائيل، بل من قبل الشعب الإيراني الذي دفع الثمن الأكبر مقابل ذلك. ولن تستطيع واشنطن تغيير التطلعات الإيرانية لمواجهة النفوذ الأمريكي، لكنها تستطيع بمساعدة دول أخرى احتواء طهران حتى تتولى حكومة جيدة تقدم المصلحة الإيرانية على الاعتبارات الأيديولوجية.