بوابة الخروج:
كيف يمكن للبنان تجاوز المأزق الراهن؟ 

بوابة الخروج:

كيف يمكن للبنان تجاوز المأزق الراهن؟ 



نظّم مركز “العالم العربي للأبحاث والدراسات المتقدمة”، بالقاهرة، بتاريخ 26 سبتمبر 2023، جلسة استماع بعنوان “بوابة الخروج: كيف يمكن للبنان تجاوز المأزق الراهن؟”، واستضاف المركز د. ناصيف حتي، وزير خارجية لبنان الأسبق ورئيس بعثة الجامعة العربية في فرنسا سابقاً (كمتحدث رئيسي في الجلسة)، كما شارك في الجلسة عددٌ من الخبراء والباحثين المتخصصين في مجالات مختلفة، وهم: الدكتور محمد عز العرب، والدكتور محمد عباس ناجي، والأستاذ عمرو عبدالعاطي، والأستاذ كرم سعيد، والدكتور حمدي بشير، والأستاذ حسين معلوم، والأستاذ محمد عمر، والأستاذة نادين المهدي.

إطار مفاهيمي

تطرق “حتي” إلى عدد من المقدمات الرئيسية المتعلقة بأبعاد الأزمة اللبنانية القائمة، والمؤثرة في مسار حلحلة تلك الأزمات، والتي اعتبرها “إطاراً مفاهيمياً” حاكماً للوضع في لبنان، كالتالي:

1- “لعنة” الجغرافيا السياسية: يُحدد الموقع الجغرافي عدداً من التحديات الرئيسية بالنسبة للبنان، إذ إن لبنان يظل أسيراً للصراعات الإقليمية في المنطقة، بحيث إن مجمل خلافاتنا لم تكن حول قضايا داخلية بين اليسار أو اليمين، أو تنظيم اقتصادي، ولكن حول العلاقة مع البيئة المباشرة في الجوار الإقليمي.

لبنان دولة عربية تعتز بالانتماء للجامعة العربية، وعليها ما على الآخرين، وليست كما يرى الآخرون بعيدة عن القضايا العربية. ولكن بسبب الموقع الجغرافي للدولة، وإطلالها على البحر المتوسط، في إطار محاذٍ لإسرائيل؛ فإن لبنان باتت جاذبة بسبب ضعف الدولة، جاذبة لكافة أنواع الصراعات الإقليمية.

ولبنان -للأسف- مستمر في لعب دور “صندوق البريد” لنقل الرسائل المباشرة وغير المباشرة في منطقة الشرق الأوسط، في ظل ما يردده البعض من أن لبنان بفعل حياده يشبه سويسرا، ولكن نحن لنا علاقة بالمنطقة وأزماتها، ونتأثر بالأوضاع المضطربة.

2- التركيبة المجتمعية الداخلية: أوجدت التركيبة المجتمعية بتنوعاتها، في بعض الحالات، نوعاً من الانقسام العمودي، وهذا يأخذ طابعاً هوياتياً. على سبيل المثال، حينما نتحدث عن العروبة في جميع الدول العربية تعني أن يتعاون الجميع، ولكن صارت العروبة استبعاد البعض للبنان.

لبنان اليوم يواجه أزمة معقدة، لجهة سقوط الطبقة المتوسطة، وهي العمود الفقري لاستقرار أي بلد، وبات نحو 50% من الشعب على خط الفقر، وهناك نسبة كبيرة من العائلات لا تستطيع توفير الحد الأدنى من وسائل العيش الكريم.

3- أزمة المسؤولين في لبنان: كان المسؤولون في لبنان العنصر الرئيسي في إشعال الكثير من الأزمات والمشكلات، سواء الداخلية أو الخارجية، وضخ كل هذه الأزمات في لبنان، فالمسؤولية الكبيرة تقع على كاهل اللبنانيين أنفسهم.

4- ضعف وهشاشة الدولة الوطنية: لدينا كثير من الحرية، والقليل من الديمقراطية، ولكننا نخرج عما يفترض أن يكون لعبة تقليدية في العلاقات الداخلية، ونذهب إلى أماكن نُعرّض فيها الأمن الوطني للخطر، وكل طرف يتهم الآخر بافتعال الأزمات الداخلية.

لبنان تركيبة طائفية سياسية، وتعرف كيف تنظم الحياة السياسية، ولكن البعض يتهم الآخرين بممارسة لعبة الطائفية السياسية، وهو يمارسها بشكل أو بآخر، والغريب أن يقول البعض إن لبنان أكثر دولة محايدة في العالم لا تتدخل في شؤونها الداخلية.

معالجة الأزمة

ويطرح “حتي” عدداً من النقاط الرئيسية التي يمكن من خلالها معالجة الوضع المضطرب في لبنان، قبل تعثر محاولات الإنقاذ خلال الفترة المقبلة، وأبرزها:

1- إنقاذ القطاع المصرفي: يواجه لبنان أزمة مالية، وهي انعكاس أزمة اقتصادية، على مستوى القطاع المصرفي، الذي يحتاج إلى إنقاذ عاجل، في ظل الدعم المفرط وغير الطبيعي لتثبيت سعر الليرة، يجب أن يكون هناك تحرك واقعي، كما أن هناك تمويلاً كبيراً لرواتب العاملين في الوظيفة العامة، في حين لا يحتاج لبنان لهذا العدد الكبير.

علينا أن نضع استراتيجية لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، والسرية المصرفية، لا بد من التفكير في استراتيجية متوسطة لكيفية معالجة المديونية الداخلية، وهذا شرط ضروري للتعاطي مع الوضع المالي.

2- التركيز على برامج الإصلاح الاقتصادي: لبنان يحتاج إلى برامج إصلاح اقتصادي، إذ إننا ضربنا الإنتاج بتشجيع الاستيراد، ولا بد من التركيز على الإنفاق الاستثماري لأن الاقتصاد اللبناني اقتصاد ريعي، لا يوجد اهتمام بالقطاعات الاقتصادية المنتجة.

كما أن التركيز على برامج الإصلاح الاقتصادي يساعد في معالجة الأزمة البنيوية النقدية، وهو ما يستدعي اقتصاداً منتجاً ومتوازناً، إضافةً إلى تحقيق بعض التوازن في القطاعات المختلفة، وتشجيع الاقتصاد الزراعي، وبالطبع دون التخلي عن قطاع الخدمات، بما يساعد في تنمية بعض المناطق، والتخلص من الفقر؛ إذ إن هناك بعض القرى تواجه حالة فقر شديدة.

ويمكن الإشارة إلى احتمالات وجود اكتشافات للغاز، كما نطمح ونتمنى، ويمكن تأسيس صندوق سيادي يكون مسؤولاً عن هذه الموارد، ولبنان ليس بلداً فقيراً، ولكن لا بد من إعادة النظر في النموذج الاقتصادي، وإقامة دولة مؤسسات والشفافية.

وساد اتجاه في النقاش بشأن إمكانية انضمام لبنان، عقب ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، إلى منتديات الطاقة في البحر المتوسط، ليؤكد على إمكانية ذلك خلال الفترة المقبلة، ولكن هذا سيكون مرهوناً بالقرار السياسي للدول الأعضاء في تلك المنتديات، وهذا متوقف على التعاون مع الإخوة العرب في هذه المنتديات.

3- الحياد الإيجابي في العلاقات الخارجية: الوضع اللبناني أسير لعبة إقليمية، أياً كانت أسماء اللاعبين الإقليميين. لبنان تحول إلى منصة لتبادل الرسائل والحروب بالوكالة وإطلاق الصورايخ ضد دولة صديقة للبنان، وباتت هناك مشكلات مع أسرتنا العربية بسبب مصالح البعض في الداخل، ولا بد من تبني سياسة الحياد الإيجابي القائمة على التوازن في العلاقات الخارجية لمختلف الأطراف.

وهذا الحياد الإيجابي يمكن أن يؤدي إلى لعب لبنان دوراً جيداً في المنطقة، من خلال السعي للتهدئة في بعض القضايا، والعمل على إطفاء الحرائق بالمحيط الجغرافي، خاصة أن لبنان لا ينبغي أن يستمر في أن يكون ورقة في الصراعات الإقليمية.

4- انعكاسات تشكيل نظام إقليمي جديد: ساد اتجاه في النقاش حول تأثيرات الاتفاق السعودي الإيراني على الأزمة اللبنانية، ليوضح “حتي” أن المنطقة تشهد 3 مسارات لتطبيع العلاقات، وهي: عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، والتحول في السياسة الخارجية التركية والابتعاد عن الموقف الأيديولوجية، وأخيراً الاتفاق السعودي الإيراني.

وهذه المسارات الثلاثة للتطبيع في المنطقة مؤشر إيجابي لتهدئة الخلافات والتوترات بشكل عام، وهو ما يؤدي إلى إمكانية تشكيل نظام إقليمي جديد، ولكن لم ينعكس أي من تلك المسارات على الوضع في لبنان، فالمشهد اللبناني لم يتحرك عقب توقيع الاتفاق السعودي الإيراني.

وفي هذا السياق، فإن مسار التطبيع بين السعودية وإيران يمثل انفراجة في العلاقات وليس تفاهماً كاملاً، وملامحه بدأت تظهر في الملف اليمني، والوضع في لبنان غير مشمول بهذه الانفراجة، وأيضاً الوضع في سوريا.

ولكن بشكل عام، فإن هذه المسارات تُشير إلى أن المنطقة لم تعد في مرحلة الصدام المفتوح، وهو ما قد ينعكس على إدارة الصراعات والخلافات دون اللجوء إلى جذب مزيد من الدول إلى هذه الصراعات، أو جزء منها على الأقل.

5- إصلاح بنية السياسة الداخلية: لبنان يحتاج أيضاً إلى سلطة تقوم على أساس الشفافية، وتوزيع الوظائف ليس على أساس طائفي مذهبي، في إطار من التوافق السياسي الوطني، خاصة في ظل فراغ سياسي على مستوى منصب الرئيس، وهنا نشير إلى أن استقرار لبنان ليس مصلحة لبنانية فقط، ولكن عربية وإقليمية أيضاً.

ويواجه لبنان بفعل هذا الفراغ الرئاسي، حالة من الشلل التام، وكل يوم يمر دون حل لتلك الأزمة، تزداد التكلفة على الدولة والشعب اللبناني، وللخروج من الأزمة الحالية لا بد من تكاتف مختلف الأطراف اللبنانية الداخلية، بدلاً من انتخابه خارجياً ثم إعادة انتخابه داخلياً، ولكن حتى الآن لا يوجد حسم لهذا الملف رغم مساعدة اللجنة الخماسية لمحاولة إخراج لبنان من هذا الوضع.

وهنا، لا يمكن اعتبار أن اتفاق الطائف كان سبباً في الأزمة الحالية، إذ إنه فتح الباب أمام تأسيس دولة تقوم على ديمقراطية توافقية، وانتخاب برلمان دون توزيع طائفي، ولكن لبنان في الحقيقة يقوم على نظام فيدرالي من زعامات الطائفية السياسية، وإذا لم نكسر هذا الأمر فلن تكون لنا دولة، ولا بد من الحوار في هذا الصدد، بحيث تتفق جمع المكونات السياسية اللبنانية على خريطة طريق وجدول سياسي، وحكومة، ثم انتخاب الرئيس.

ورغم فوائد التعددية السياسية في الدول بشكل عام، إلا أن التعددية في الحالة اللبنانية تخطف النظام، وتحوله من نظام محكوم بدستور، إلى نظام طائفي، ويؤدي إلى شلل الدولة. 

إنقاذ طارئ

يُحذر وزير خارجية لبنان الأسبق من أن الوقت ليس في مصلحة لبنان، وفي وقت ما قد لا يعود من المفيد إنقاذ البلد. لبنان بحاجة إلى الحد الأدنى من التفاهم الداخلي لإعادة الاهتمام العربي والدولي لإنقاذ لبلنان، فلا يمكن لطرف أن ينتصر لوحده، كما أنه للأسف لا يمكن تحقيق التفاهم من دون مساعدة الأطراف الخارجية، البعض مرتبط بأطراف خارجية، هذه طبيعة لعنة الجغرافيا السياسية للدولة.

وساد اتجاه في النقاش حول تزايد الدور الأمريكي، مقابل تراجع الدور الفرنسي في الأزمة اللبنانية. يُشير “حتي” إلى أنّ فرنسا حالياً تسعى لإعادة تموضع في لبنان، خاصة أنها وجدت عدم وجود توافق على دورها، خاصة مع أزمة اختيار رئيس الجمهورية، ورغم الدور الأمريكي البارز في ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، إلا أنها لا تمتلك العلاقات مع مختلف الأطراف الداخلية، مثل فرنسا، ولكن تدخلها يكون مؤثراً.