مع اقتراب تصدير أول شحنة من الغاز الموريتاني إلى الخارج، في منتصف عام 2023، يأمل الموريتانيون في أن يُغير الوافد الجديد واقعهم الحياتي، الذي اتسم لسنوات طويلة بـ”ضيق الحال”. إلا أن الأمر لا يتوقف عند حدود العوائد الاقتصادية المنتظرة من اكتشافات الغاز، سواء التي تتشارك فيها موريتانيا مع جارتها السنغال، أو تلك التي تُعتبر ملكية خاصة بها؛ بل وهذا هو اللافت في الأمر، فهذه الاكتشافات تضع موريتانيا في معترك التنافس بين دول شمال أفريقيا عموماً، وفي منطقة جنوب أوروبا بصفة خاصة، حيث يحتدم صراع هذه الدول على حجز المكانة اللائقة في عضوية نادي الدول المُصدرة للغاز.
باتت موريتانيا تتمتع بأهمية استراتيجية في ظل اكتشافات الغاز الطبيعي من جهة، وموقعها الجغرافي الذي يُشكل حلقة وصل بين المغرب العربي وغرب أفريقيا وإطلالتها على المحيط الأطلنطي من جهة أخرى. وتأمل البلاد التي يبلغ عدد سكانها نحو 4.6 ملايين نسمة، ثلثهم من الفقراء، أن تُساهم هذه العوامل في إخراجها من قائمة الدول الـ”25″ الأكثر فقراً في العالم، ورفعها إلى قائمة الدول الأكثر ثراءً في القارة السمراء على الأقل.
والواقع أن اكتشاف حقل للغاز الطبيعي على الحدود البحرية بين موريتانيا والسنغال، وإعلان شركة “كوزموس إنرجي” الأمريكية عن مخزونه الكبير، كان قد شكل لحظة فارقة في حياة الملايين من السكان.
قفزة إيجابية
منذ أكثر من خمس سنوات، تعمل موريتانيا على مشروع الغاز المشترك بينها وبين السنغال المجاورة لها، المعروف بـ”حقل السلحفاة الكبرى آحْمَيَّمْ”. وكان آخر المراحل، وفق ما أعلنت عنه وزارة الطاقة الموريتانية، في بدايات يونيو الماضي، انتهاء الحفر في بئرين من أصل أربع آبار، كان قد بدأ الحفر فيها في 17 أبريل الماضي، حيث يحتوي الحقل على اثنتي عشرة بئراً سيتم العمل عليها لاستخراج الغاز الطبيعي.
من هنا، تبدو مجموعة من العوامل التي تُشير إلى ملامح القفزة الإيجابية المُنتظرة بالنسبة إلى موريتانيا، لعل أهمها ما يلي:
1- سعي موريتانيا لنيل عضوية نادي الدول المُصدرة للغاز: تستعد موريتانيا للدخول إلى عضوية النادي، حيث تؤمن لها احتياطياتها المؤكدة من هذه المادة، التي تُعد المصدر الأول للطاقة في العالم، أن تتبوأ المرتبة الثالثة أفريقياً من حيث احتياطي الغاز على مستوى القارة السمراء. بل إن موريتانيا أمام مُفترق طرق مصيري، لتحقيق قفزتها التنموية؛ فاحتياطيات الغاز المكتشفة هامة (100 تريليون قدم مكعب)، تضعها بعد نيجيريا (207 تريليونات قدم مكعب)، والجزائر (159 تريليون قدم مكعب). ويفوق احتياطي الغاز الموريتاني نظيره الليبي (55 تريليون قدم مكعب)، وحتى المصري (63 تريليون قدم مكعب).
2- التوافق مع السنغال بشأن تقاسم عائدات الغاز: تسعى السلطات الموريتانية إلى الاستثمار بشكل سريع في قطاع الطاقة، وتحديداً الغاز، وتجنب أي خلاف قد ينجم نتيجة حساسية الوضع بين نواكشوط ودكار، بسبب وجود حقل الغاز على الحدود المشتركة بينهما قبالة الشواطئ المشرفة على المحيط الأطلنطي؛ حيث كانت العلاقات بينهما قد شهدت توتراً بسبب الخلافات على الحدود فيما يخص الثروة السمكية والمهاجرين، طوال سنوات، منذ حصول البلدين على الاستقلال عام 1960؛ بل سبق أن خاض البلدان مواجهة عسكرية بينهما عام 1989.
إلا أن البلدين كانا قد وقّعا عقداً مع الشركات المُكلفة بالتنقيب والاستخراج، شركتي “كوزموس إنرجي” الأمريكية و”بريتش بتروليوم” البريطانية، على تقاسم عائدات الغاز، بحسب ما أشارت إليه خديجة الطيب في صحيفة “إندبندنت عربية”، 27 أكتوبر الجاري، وهو ما بدد مخاوف الشارع الموريتاني من نشوب خلافات بين البلدين، ورفع حجم التطلعات باستغلال الثروة الغازية لإنعاش اقتصاد البلاد.
3- تعويض أوروبا نسبياً عن وقف الغاز الروسي: تكمن أهمية الغاز الموريتاني في الدور الذي قد يلعبه في تعويض جزء من النقص الذي يعانيه العالم وخاصة أوروبا من وقف إمدادات الغاز الروسي؛ حيث بات النظر إلى الغاز الموريتاني على أنه يُمثل بديلاً نسبياً للغاز الروسي، خاصة أنه من المتوقع أن يبدأ إنتاج الغاز من حقل “السلحفاة”، المشترك مع السنغال، خلال منتصف العام 2023.
وفيما يبدو، فقد انضمت موريتانيا إلى دائرة الاهتمام الأوروبي، بعدما ذكرت الدراسات أنها تمتلك ثروة هائلة من الغاز الطبيعي والغاز المُسال. إذ تُركز بروكسل حالياً على منطقة جنوب المتوسط التي تُشاطئ الاتحاد الأوروبي، مثل مصر وليبيا والجزائر، والآن موريتانيا، كـ”بدائل” أفريقية للغاز الروسي.
تجاذبات إقليمية
ليس حقل “أحميم” هو الحقل الوحيد المُكتشف بالشواطئ الموريتانية، وإن كانت احتياطياته تصل إلى حدود 450 مليار متر مكعب، بل إن حقل “بير الله” الواقع في المقطع الثامن من الحوض الساحلي الموريتاني، الذي لا يدخل في المياه المُشتركة بين الجارتين، موريتانيا والسنغال، هو عملاق حقول الغاز الخاص بالمياه الموريتانية؛ حيث تبلغ احتياطياته 80 تريليون قدم مكعب من الغاز المُسال، والذي يُمثل 10 بالمائة من الاحتياطيات الأفريقية، وذلك بحسب ما ذكره موقع “الطاقة دوت نت”، في 11 أكتوبر الجاري.
وبناءً على ذلك، تبدو مجموعة من العوامل التي تُشير إلى التجاذبات الإقليمية بشأن موريتانيا، لعل أهمها ما يلي:
1- الاهتمام الأوروبي بالتقارب مع موريتانيا: إن دخول موريتانيا مجال الطاقة، وتصديرها الغاز إلى أوروبا، سيُمهد الطريق لتحولات كبرى، وهو ما يعني مُراجعة بعض سياسات دول أوروبا. إذ بدأ السباق لكسب ود نواكشوط بفتح قنصليات وسفارات، لتوطيد العلاقات الثنائية معها. من ذلك تدشين بريطانيا أول سفارة لها في نواكشوط عام 2018، وذلك منذ أن أقام البلدان صداقة شراكة في ستينيات القرن الماضي. هذا فضلاً عن ارتفاع مستوى حضور الشركات البريطانية المستثمرة في الاقتصاد الموريتاني. أضف إلى ذلك أن نواكشوط تبدو حريصة على المحافظة على علاقتها مع فرنسا، الدولة الأوروبية ذات الإرث الاستعماري والتي لها حضور قوي في موريتانيا والسنغال.
2- التنافس المغربي الجزائري على الغاز الموريتاني: فقد بدأت المغرب، الجارة الشمالية لموريتانيا، التخطيط لإطلاق مشروع أنابيب الغاز النيجيري نحو أوروبا، وهو الأنبوب الذي سيمر عبر خمس عشرة دولة أفريقية ساحلية، من بينها موريتانيا، لينتهي في المغرب ويتم ربطه بقادش بإسبانيا ومنها إلى باقي دول الاتحاد الأوروبي. وبصرف النظر عن الأهداف طويلة الأمد للمشروع، فمن المؤكد أن الرباط تسعى لتأمين مصادر للغاز الطبيعي، بعد تعليق الجزائر العمل بأنبوب غاز يصل إلى إسبانيا عبر المغرب، بسبب التوترات السياسية بين الجارتين المغرب والجزائر.
وفي المقابل، تم الإعلان عن مشروع مماثل ثلاثي الأقطاب بين نيجيريا من جانب، والنيجر والجزائر من جانب آخر، فيما عُرِف بـ”الطريق العابر للصحراء”. أما بالنسبة إلى موريتانيا، فتكفي الإشارة إلى أعمال الدورة “19” للجنة المشتركة بين الجزائر وموريتانيا، التي انعقدت بعد “ست” سنوات من الغياب، في 15 سبتمبر الماضي، وتم من خلالها التوقيع على 26 اتفاقية وبروتوكول تفاهم، من بينها تسهيل انسيابية حركة البضائع والمسافرين بين البلدين، إضافةً إلى التعاون في مجال الطاقة.
3- تأثير الحرب في أوكرانيا على غرب أفريقيا: من المؤكد أن بدء استخراج الغاز سيجعل موريتانيا محط اهتمام البلدان المستوردة له، وخاصة في أوروبا القريبة من الشواطئ الموريتانية؛ تلك التي أصبحت في حاجة متزايدة إلى الغاز الأفريقي عموماً، بعد أن توقفت روسيا عن ضخ الغاز إلى دول كثيرة منها. ولعل هذا الأمر، سيجعل موريتانيا في قلب التوجهات الاستراتيجية الدولية الجديدة في مجال الطاقة.
والمُلاحظ أن المتابع لمسألة الطاقة في غرب أفريقيا، وخصوصاً ما تم الإعلان عنه من اكتشافات بين موريتانيا والسنغال، فضلاً عن موريتانيا بمفردها، لا يمكن إلا أن يلمس تأثير ما يقع من تداعيات للحرب في أوكرانيا على هذه المنطقة. فهناك خطوات متسارعة وسباق محتدم بين دول المنطقة على تصدير الغاز والتحول في مجال الطاقة، وهو ما يجعل بعضها، مثل موريتانيا، محل اهتمام كبير خصوصاً بالنسبة إلى أوروبا.
مفترق طرق
في هذا السياق، يمكن القول إن موريتانيا تقف في مفترق طرق مصيري نتيجة الاكتشافات الكبرى للغاز الطبيعي فيها، وبالتالي فهي تحتاج إلى قفزة تنموية سريعة، فعدد السكان قليل واحتياطيات الغاز كبيرة والاستثمارات بدأت في التدفق على البلاد، وفوق ذلك تتمتع موريتانيا باستقرار سياسي وأمني، حيث جرى تسليم محمد ولد الغزواني السلطة بسلاسة في عام 2019، ومنذ 12 عاماً لم تشهد البلاد أي هجوم إرهابي يُذكر.
ورغم أن موريتانيا تأمل في أن تُساهم اكتشافات الغاز في إخراجها من قائمة الدول الـ”25″ الأكثر فقراً، ورفعها إلى الدخول في عضوية نادي الدول المصدرة للغاز؛ فإن الانبهار بالاكتشافات الحاصلة في مجال الغاز، يمكن أن يخفت وميضه، ويتحول إلى مسألة عكسية، أي إلى “نقمة”، إن لم تتم مواكبتها عبر وضع تصورات استباقية لما يترتب عليها، وما يمكن أن ينتج عنها من تحولات جيوسياسية واستراتيجية، خاصة في إطار التكالب الأوروبي على الغاز الأفريقي، فضلاً عن التنافس الحاصل إقليمياً في منطقة شمال أفريقيا، حول الحصول على مكانة مميزة في نادي الدول المُصدرة للغاز.