مخاوف التوسع:
كيف يضغط التصعيد الإسرائيلي في غزة على سوق النفط العالمية؟

مخاوف التوسع:

كيف يضغط التصعيد الإسرائيلي في غزة على سوق النفط العالمية؟



منذ شن عملية “طوفان الأقصى” تبنت إسرائيل نهجاً عدوانياً متصاعداً على قطاع غزة، مما أثار المخاوف من تمدد المواجهات العسكرية إلى عرقلة إمدادات النفط من الشرق الأوسط، وأسفر عن ذلك ارتفاع سعره وتذبذبه بشكل كبير نسبياً مقارنة بدور إسرائيل والحركات الفلسطينية في التأثير على إمداداته، ويمكن إرجاع التقلبات في سعره إلى الدعم الأمريكي غير المحدود لإسرائيل في حربها على غزة، وتوسع جبهات القتال في المنطقة وارتداداتها المحتملة، مع تصاعد التحذيرات من تفاقم تأثير الحرب على أسعار النفط، فضلاً عن تحركات معاكسة مؤثرة على سعر النفط، ما بين التصعيد الإسرائيلي ضد المدنيين ومحاولات التهدئة بدافع إنساني.

أسفر الهجوم العسكري لإسرائيل على غزة عن تحريك أسعار النفط في السوق العالمية، حيث ارتفع سعر سلة أوبك قبل عملية “طوفان الأقصى” التي شنتها حركة حماس من نحو 87.33 دولاراً للبرميل في 6 أكتوبر 2023 إلى 91.1 دولاراً في 30 أكتوبر، بنسبة ارتفاع نحو 4.3%، فيما بلغت ذروة الارتفاع 95.72 دولاراً للبرميل في 20 أكتوبر، إضافة إلى التذبذب الحاد في أسعاره صعوداً وهبوطاً وفق التطورات في الحرب بين القوات الإسرائيلية من جهة، والفصائل الفلسطينية والجماعات المسلحة في لبنان وسوريا واليمن من جهة أخرى (انظر الشكل التالي).

شكل رقم (1): تطور سعر سلة أوبك

خلال الفترة (7 أغسطس – 30 أكتوبر 2023) (بالدولار الأمريكي)

(Source: www.opec.com)

يشير ما سبق إلى التأثير السلبي للتطورات الميدانية في منطقة الصراع على أسعار النفط، وذلك بالرغم من أن إسرائيل وفلسطين ليستا مصدرتين للنفط، أو حتى تمر عبرهما خطوط أنابيب لنقل النفط، وكذا عدم وقوعهما على ممرات ملاحية تهدد إمداداته، إضافة إلى أنهما ليستا دولتين مستوردتين كبيرتين للنفط بما يجعلهما مؤثرتين في سعره على غرار الصين، إلا أنه من الواضح أن سعر النفط في الأسواق العالمية أصبح أكثر مرونة تجاه التطورات الجيوسياسية والعسكرية بعد الحرب الروسية على أوكرانيا.

جدير بالذكر أن العقود الآجلة لسعر نفط خام برنت شهدت تقلباً أقل من سعر سلة أوبك، في دلالة على ثقة المتعاملين في تراجع حدة الصراع خلال العام الجاري، ودلل على ذلك أن عقد تسليم النفط لشهر يناير 2024 بدأ ينخفض تدريجياً، مع احتمالية عودته إلى مستويات ما قبل عملية “طوفان الأقصى” التي بلغت وقتها 83 دولاراً للبرميل (في 5 أكتوبر)، فيما سجل سعر عقوده 85 دولاراً في مطلع نوفمبر 2023، وذلك نزولاً من ذروة ارتفاعه في 19 أكتوبر التي سجلت 91.7 دولاراً للبرميل (انظر الشكل رقم 2).

شكل رقم (2): تطور سعر العقود الآجلة لخام برنت تسليم شهر يناير 2024

خلال الفترة (4 أكتوبر – 1 نوفمبر 2023) (بالدولار الأمريكي)

(Source: www.oilprice.com)

تجدر الإشارة إلى أن الحرب الإسرائيلية على غزة هي عامل ضمن عدة عوامل أخرى أسهمت في تغير سعر النفط في السوق العالمية، حيث إن دخول فصل الشتاء والحاجة إلى تزايد الطلب على التدفئة أحد أسباب الارتفاع، فضلاً عن تطور النشاط الاقتصادي في الصين، وحالة عدم اليقين من تعافي الاقتصاد العالمي، وبالتالي تأتي الحرب كعامل رئيس إضافي مع تلك العوامل لتحريك سعر النفط بشكل مغاير لتحركاته ما قبل الحرب.

ضغوط متواترة

إن الحرب الإسرائيلية على غزة ارتبطت بالتخوف من تمدد الصراع في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مما يعرقل إمدادات النفط، ولا سيما مع وقوع الصراع في المنطقة المسؤولة عن نحو 38% من صادرات النفط العالمية في 2022 (وفق بيانات مؤسسة الطاقة في تقريرها “المراجعة الإحصائية للطاقة العالمية 2023”). وفي هذا الإطار، قد يؤدي التصعيد المحتمل في حال مشاركة العديد من الأطراف في الحرب، إلى رفع أكبر في سعر النفط، وهو ما دلل عليه ارتباط السعر بالتطورات في مجريات الحرب على النحو التالي:

1- الدعم الأمريكي غير المحدود لإسرائيل في حربها على غزة: ارتبط الدعم العسكري الأمريكي لإسرائيل بتطور سعر النفط منذ بداية الصراع، وذلك بخلاف الغطاء السياسي الذي توفره واشنطن للهجمات العسكرية على القطاع، ودلل على ذلك التالي:

أ. بعد إعلان وزير الدفاع الأمريكي “لويد أوستن”، في 8 أكتوبر، أن حاملة الطائرات “جيرالد فورد” ستذهب إلى شرق البحر المتوسط لدعم إسرائيل في مواجهتها مع حماس، ارتفع سعر نفط سلة أوبك في اليومين التاليين ليتجاوز 90 دولاراً للبرميل.

‌ب. ساهم الإعلان، في 15 أكتوبر، عن إرسال حاملة الطائرات الأمريكية “يو إس إس أيزنهاور” ومجموعة السفن الحربية التابعة لها إلى البحر المتوسط، في ارتفاع سعر النفط بين 13 و16 أكتوبر بنحو 1.75%.

‌ج. أعلنت البحرية الأمريكية، في 18 أكتوبر، أن سفينة القيادة والسيطرة التابعة للأسطول السادس الأمريكي “ماونت ويتني”، تتجه إلى شرق البحر الأبيض المتوسط ​​لدعم العمليات الأمريكية بالمنطقة، مما أسفر عن ضغط إضافي على سعر النفط ليصل إلى ذروة ارتفاعه في 20 أكتوبر.

تأتي التوقعات المتخوفة من الحشد العسكري الأمريكي على البحر المتوسط قبالة إسرائيل لارتباطها بتوسع دائرة الصراع في منطقة الشرق الأوسط، ولا سيما مع تزايد الرسائل الإيرانية بشأن التصعيد المحتمل في المنطقة بسبب استمرار الحرب غير العادلة المدعومة أمريكياً، وهو ما دلل عليه تحذير وزير الخارجية الإيراني “حسين أمير عبد اللهيان” لواشنطن وتل أبيب بأنه إذا لم توقفا الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية في غزة، فإن كل شيء محتمل في أية لحظة، ويمكن أن تخرج المنطقة عن السيطرة. وتزامن ذلك أيضاً مع نشر العديد من التقارير والتوقعات التي تشير إلى احتمالية مشاركة طهران في الحرب الحالية، وتم ربط ذلك بأدوات إيران التي من ضمنها تعطيل الملاحة في الخليج العربي، واستهداف ناقلات النفط الخليجية.

2- توسع جبهات القتال في المنطقة وارتداداته: يُرى أن من أبرز أسباب التذبذب في أسعار النفط خلال الفترة الأخيرة هو دخول العديد من الفواعل من غير الدول في استهداف إسرائيل والقواعد الأمريكية المنتشرة بالمنطقة، وبما يؤكد وجود اعتزام تعدد وتنويع جبهات الاقتتال، وجر المنطقة نحو حرب واسعة النطاق، وهو الأمر الذي حذرت منه الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من مرة بدون جدوى.

وقد أسفر تزايد التصعيد الإسرائيلي على غزة عن فتح جبهة حزب الله في لبنان، فيما تعرضت الأراضي السورية لأكثر من ضربة إسرائيلية بسبب إطلاق صواريخ منها تجاه هضبة الجولان المحتلة، كما أن دخول جماعة الحوثي على خط الصراع يُشير إلى محاولات محاصرة تل أبيب مع تنويع الجبهات اعتقاداً أن ذلك قد يردع تل أبيب عن استمرار تحقيق أهدافها العسكرية والاستراتيجية في غزة، ولكن في الوقت نفسه فإن ذلك التدخل قد يحقق هدفي إنهاك القوات العسكرية الإسرائيلية التي أصبحت في حالة تأهب دائم، مع إحداث خسائر في اقتصادها.

وتجدر الإشارة إلى أن الإدارة الأمريكية تملك العديد من الأدوات لردع إيران ووكلائها عن شن هجوم على إسرائيل والقواعد الأمريكية في المنطقة، فبخلاف الردع العسكري قد تتجه الولايات المتحدة لتضييق الخناق على صادرات النفط الإيرانية، الأمر الذي قد يدفع أسعار النفط للأعلى، مع الأخذ في الاعتبار أن واشنطن تغض البصر عن تلك الصادرات في إطار سعيها لاحتواء تفاقم ارتفاع أسعار النفط في السوق العالمية، مما أدى إلى اتخاذها منحى صعودياً منذ تولي الرئيس “جو بايدن” سدة الرئاسة في يناير 2021 لتتجاوز المليون برميل يومياً في 2023، وذلك من نحو 500 ألف برميل قبل توليه منصبه الحالي (انظر الشكل رقم 3).

شكل رقم (3): تطور صادرات إيران من النفط

 خلال الفترة (2016- 2023) (بالألف برميل يومياً)

(Source: IRAN’S SOARING OIL EXPORTS, The Washington Institute for Near Middle East Policy, 15 September 2023,)

لا يمكن للولايات المتحدة الضغط على الدول المستوردة للنفط الإيراني بهدف ردعها عن المشاركة في الصراع الحالي، لا سيما وأنه في النصف الأول من عام 2023 تمثلت وجهات النفط الإيراني لثلاث دول، هي: الصين بنسبة 91% من إجمالي صادراتها منه، بعدها سوريا بنسبة 7%، ثم فنزويلا بنسبة 2% (وفق بيانات Kpler and TankerTrackers.com)، لكن واشنطن تستطيع استهداف السفن الحاملة له، ولكن ذلك قد يؤدي لمزيد من توتر العلاقات مع الصين، وبالتالي لا يستبعد اتجاه إسرائيل لزيادة استهداف الفصائل الإيرانية رداً على تصعيد طهران المحتمل، وهو ما سيرتد تأثيره السلبي على النفط كبير، ولا سيما مع اتجاه بكين لتعويض النفط الإيراني من السوق العالمية تخوفاً من عمليات تستهدف تخريب منصات نفط إيرانية قد تؤثر على وارداتها منه.

3- تصاعد التحذيرات من تأثير الحرب على أسعار النفط: منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة، صدرت العديد من المواقف الرسمية التي تحذر من أثر الحرب وتصاعد التوترات في الشرق الأوسط على سوق النفط العالمية، حيث أكد نائب رئيس الوزراء الروسي “ألكسندر نوفاك” أن تصعيد الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني ربما يؤثر على سوق النفط، وعبّر عن تلك المخاوف أيضاً محافظ البنك المركزي الفرنسي عضو المركزي الأوروبي “فرانسوا فيلروي دو جالو” الذي صرح بأن البنك المركزي الأوروبي يشعر بالقلق بشكل خاص من تطورات أسعار النفط بسبب الوضع في إسرائيل.

بينما توقع البنك الدولي 3 سيناريوهات لأسعار النفط حتى نهاية عام 2023 اعتماداً على تزايد حدة الصراع الناجم عن الحرب الإسرائيلية على غزة؛ الأول سيدفع سعر النفط للوصول إلى 102 دولار كحد أقصى، والسيناريو الثاني يتصور وصوله إلى 121 دولاراً للبرميل، بينما السيناريو الأسوأ هو تراوحه ما بين 140 و157 دولاراً، مع الأخذ في الاعتبار أن البنك اعتمد في توقعاته على تاريخ التحركات السعرية للنفط إبان اندلاع التوترات والصراعات العسكرية في المنطقة (انظر الشكل التالي).

شكل رقم (4): التطورات المحتملة لسعر النفط في الربع الأخير من 2023

اعتماداً على التحركات التاريخية لسعره بسبب الصراع في الشرق الأوسط

(Source: Commodity Markets Outlook Under the Shadow of Political risks, World Bank, October 2023)

يعزز من تلك المخاوف المطالبات بوقف إمدادات النفط على غرار الضغوط التي مورست على الدول الغربية أثناء حرب أكتوبر 1973، مثل مطالبة الزعيم الإيراني “آية الله علي خامنئي” الدول الإسلامية بوقف صادرات النفط والمواد الغذائية إلى إسرائيل (وفق بعض المصادر)، مما دفع سعر العقود الآجلة لخام برنت للارتفاع 38 سنتاً إلى 85.01 دولاراً للبرميل. وفي 25 أكتوبر، طالب مجلس النواب الليبي في بيان له الحكومةَ بوقف تصدير النفط والغاز إلى الدول المساندة لإسرائيل حال عدم توقف مجازرها بحق الفلسطينيين، ويُرى أن تلك المطالبة ساهمت في عكس المسار الهبوطي لسعر خام سلة أوبك، والذي بدأ تراجعه من 95.7 دولاراً للبرميل في 20 أكتوبر إلى 90.83 دولاراً في 25 أكتوبر، حيث ارتفع بعدها إلى 91.68 دولاراً في اليوم التالي من صدور بيان النواب الليبي.

4- تحركات معاكسة مؤثرة على سعر النفط: إن التذبذب في سعر النفط في السوق العالمية يأتي نتيجة المخاوف من تصاعد حدة الصراع، خاصة مع تزايد استهداف القوات الإسرائيلية للأهداف المدنية مثل: مستشفى المعمداني، ومخيم جباليا، بحجة القضاء على حركة حماس، ويقابل ذلك تراجع نسبي بسبب التوصل إلى فتح معبر رفح المصري لإدخال المساعدات الغذائية والطبية للقطاع، وكذا التغير في بعض المواقف الغربية بشأن ضرورة التوصل لـ”هدنة إنسانية”، بما عكس وجود أفق يجري العمل عليه لحل الصراع الراهن، وتبديد المخاوف من امتداد الصراع لدول أخرى رئيسة بالمنطقة مسؤولة عن تصدير النفط.

في الوقت نفسه، لا يُستبعد أن تقوم بعض الجماعات المسلحة بعمليات تخريبية في البنية التحتية لإنتاج النفط مثل بعض الحقول النفطية أو حتى الأنابيب أو مصافي النفط، وكذا عرقلة عمليات تحميلها على سفن للضغط على السوق العالمية، بما يحدث اضطرابات في الإمدادات، وسيكون الإعلان عن تبني تلك العمليات بمثابة عمل بطولي في مواجهة الدعم الغربي لإسرائيل، مع تأكيد تلك الجماعات على ضرورة استكمال ذلك النمط لكونه أداة فعالة في التأثير على مجربات الحرب.

على جانب الدول المنتجة والمصدرة للنفط خاصة السعودية، فلا يُتوقع أن تتجه لخفض إنتاجها النفطي في الوقت الراهن، حتى إن كان ذلك سيدفع السعر للارتفاع بشكل كبير مما يعوض خسائرها من استمرار خفضها الطوعي له حتى نهاية عام 2023، وذلك حتى لا يفهم من ذلك مشاركتها بسلاح النفط في الصراع، ولكن في المقابل قد تتجه روسيا للمطالبة بضرورة وقف أسعار النفط بحجة إحداث توازن بين العرض والطلب في السوق العالمية، وقد تتخذ تحركاً منفرداً عبر خفض طوعي إضافي للنفط، لما سيمثله ذلك من تأثير مضاعف في سوق النفط العالمية، وسيسفر أيضاً عن الإعادة للأذهان قدرتها على التأثير على سعر النفط حتى بدون مجموعة “أوبك+”، وفي الوقت نفسه تأكيد وجودها في الصراع بالشرق الأوسط حتى إن كان ذلك الوجود غير مادي.

مخاوف محدودة

في الختام، إن تحركات أسعار النفط حتى نهاية العام ترتبط بمدى قدرة الجهات المتصارعة والمعنية على إحداث تغيرات في مسار الحرب الإسرائيلية على غزة، ولكن من الواضح أنه سيظل التذبذب السعري في وتيرته وحجمه الراهن بغض النظر عن فاعلية تلك التحركات، إلا إذا اتخذت دول مثل الصين خطوات فعلية ومؤثرة لتعزيز حضورها في منطقة الخليج العربي تحت مظلة تأمين إمدادات النفط، وهو ما سيكون مؤشراً له انعكاسات سلبية على سعر النفط، لأنه سينذر بإيجاد قنابل موقوتة نتيجة تكثيف الحشود العسكرية في منطقة تشهد تطورات لا ترتبط في جزء كبير منها بالحرب الإسرائيلية على غزة بقدر محاولات تعزيز النفوذ في المناطق الغنية بإمدادات النفط، وبالرغم من أن ذلك الطرح مستبعد حالياً، إلا أن احتمالية تمادي إسرائيل في استهداف دول بالمنطقة قد يدفع لتصعيد الصراع بشكل أكبر وصولاً إلى اضطرابات في إمدادات النفط، وهو الأمر الذي لن تستطيع الولايات المتحدة احتواءه إلا عبر المواجهة العسكرية.