توازنات معقدة:
كيف يتفاعل العراق مع أزمات الإقليم؟

توازنات معقدة:

كيف يتفاعل العراق مع أزمات الإقليم؟



نظّم مركز “العالم العربي للأبحاث والدراسات المتقدمة”، بالقاهرة، بتاريخ 5 يوليو 2023، جلسة استماع بعنوان “توازنات معقدة: كيف يتفاعل العراق مع أزمات الإقليم؟”، واستضاف المركز الدكتور إحسان الشمري، أستاذ النظم السياسية بجامعة بغداد ومستشار هيئة المستشارين بمجلس الوزراء العراقي (كمتحدث رئيسي في الجلسة)، كما شارك في الجلسة عدد من الخبراء والباحثين المتخصصين في مجالات مختلفة، وهم: الدكتور محمد عز العرب، والدكتور محمد عباس ناجي، والأستاذ أحمد عليبة، والأستاذ عمرو عبدالعاطي، والأستاذ حسين معلوم، والدكتور حمدي بشير، والأستاذ كرم سعيد، والأستاذ محمد الفقي، والدكتور هيثم عمران، والأستاذ محمد عمر.

تحول التفاعلات

يُشير “الشمري” إلى عدد من التحولات في تفاعلات العراق مع الإقليم خلال العشرين سنة الأخيرة، وتحديداً منذ عام 2003، وأبرزها:

1- انكفاء متبادل في المحيط الإقليمي: المتغير الذي حدث عقب 2003، وتحديداً في معادلة الحكم التي اتّسمت في بعض جوانبها بالطائفية والعرقية، أثّر على طبيعة المتحول في العراق على مستوى الديمقراطية الداخلية وصورة العراق الخارجية، وبات هناك انكفاء متبادل في المحيط الإقليمي، وامتد إلى المحيط الغربي، ولكن ما يهم هو تفاعلات العراق في المحيط العربي، ولم تكن تتقبل الدول العربية التركيبة الجديدة في العراق، وهو ما استمر حتى عام 2014، خاصة مع استمرار الاحتكاك الطائفي بين عامي 2005 و2010، مع توجيه اتهامات للحكومة بأنها تمارس سياسة طائفية.

2- انعكاسات ظهور تنظيم “داعش” على الأمن العربي: على الرغم من التأثيرات السلبية لظهور تنظيم “داعش” في العراق، وامتداد التنظيم لعدد من الدول بالمنطقة العربية؛ إلا أن هذا الظهور كان له تأثير إيجابي بالنسبة للعراق، باعتباره كان نقطة تحول باتجاه الانفتاح المتبادل بين العراق والمحيط العربي، وتحديداً في فترة حكومة حيدر العبادي 2014 – 2018.

واتجهت حكومة العبادي إلى الانفتاح على المستوى العربي والإقليمي والغربي، وكانت القاعدة الصلبة التي استندت إليها العراق في تصحيح الصورة.

3- تزايد الدعم العربي للعراق بحلول عام 2017: مع نهاية عام 2017، برز وجود دعم كبير من الدول العربية للعراق للانتصار على تنظيم “داعش”، وهي مساهمة عربية لم تكن متوقعة آنذاك، وتلك الفترة كان ملاحظاً فيها اختلاف التعاطي العربي مع العراق.

كان هناك انفتاح من قبل بعض الدول العربية لتزويد العراق بالسلاح اللازم لمواجهة وهزيمة تنظيم “داعش”، وقدمت بعض الدول الأخرى، وتحديداً في منطقة الخليج، ملايين الدولارات لدعم العراق، ووجهت بعض الدول الطيران لدعم عمليات العراق، وفتحت بعض الدول حدودها للمساعدات.

4- مرحلة التوازن في السياسة الخارجية: ساهمت حكومة مصطفى الكاظمي بشكل كبير في زيادة الانفتاح بين العراق مع الدول العربية، وكان هناك تباين في وجهات النظر خلال فترة الكاظمي، خاصة وأن أمريكا كانت تدعم العراق لينفك عن نفوذ إيران، وفي المقابل هناك اتجاه لتعزيز بقاء العراق كدولة تابعة لإيران.

وأمام حالة الاستقطاب الشديد بين الرؤيتين، تمكن الكاظمي من تأسيس مرحلة جديدة من التوازن في العراق، ويسير رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني على نفس المسار الخاص بتحقيق توازن العلاقات، مع استمرار الانفتاح على “دبلوماسية المحاور” بين العراق وبعض الدول العربية، وإقامة مشروعات مشتركة في العراق.

تحديات رئيسية

يُحدد “الشمري” عدداً من التحديات التي تواجه الانفتاح العراقي المتبادل مع دول الإقليم، وتؤثر على التفاعلات مع الدول العربية، وهي كالتالي:

1- التوازن ونصف دور إقليمي: لا بد للعراق من تبني مسار جديد في العلاقات الخارجية، بعد 20 عاماً من الانكفاء المتبادل، وفي حين أن صانع السياسة على مستوى السياسة الخارجية يتمسك بمبدأ التوازن، لتحقيق الحد الأدنى من مصالح العراق، واللعب في المنطقة الوسطى في خضم التفاعلات في الإقليم، إلا أن ذلك منح العراق نصف دور إقليمي.

ولذلك، على العراق أن يسير إلى نهج جديد في ضوء دعم دول إقليمية عربية لسيادة العراق، وهي ما يمكن تسميتها “الدول الضامنة لسيادة العراق”، خاصة أن مبدأ التوازن لم تكن له فائدة كبيرة للعراق، وساهم في ظهور الدولة ضعيفة، وهو ما استغلته إيران، كما أن تركيا أيضاً تقوم بعمليات عسكرية، فكيف يمكن التوازن مع دول تنتهك سيادة العراق، وهو نقاش يدور على مستوى بعض المؤسسات والنخب في العراق.

ولكن إذا استمرت نفس السياسة، يمكن للعراق أن يفقد نصف الدور أيضاً، خاصة مع بروز سلطنة عمان كدولة وسيط بين إيران وعدد من الدول العربية، بعد أن نجحت الحكومات بالعراق في جمع عدد من الدول مثل إيران والسعودية والأردن وإيران وغيرها من الدول.

2- تعدد مراكز صنع السياسة الخارجية: وفقاً لنص الدستور العراقي، فإن رئيس الوزراء يتمتع بسلطة حصرية باتخاذ القرارات، ولكن منذ عام 2003 فإن السياسة الخارجية لا تحددها المؤسسات الرسمية المعنية بصنع السياسات، ولكن تحركها قيادات حزبية.

ووجود حلفاء لإيران في العراق من خلال الائتلاف الحاكم ستكون له تأثيرات على مستوى السياسة الخارجية، وهو أمر سيدوم لفترة مقبلة، إذ إن القوى السياسة في النظام الحاكم، وحكومة الإطار التنسيقي “الشيعي”، هي ذاتها القوى التي ساهمت في الانكفاء العراقي عن المحيط العربي، وهي قوى جذب لقوى إقليمية تجاه العراق وبالتحديد إيران، وساهمت في عدم انفتاح العراق مع الدول العربية، وتضع فيتو لصانع القرار في السياسة الخارجية، قد لا يكون هناك متغير في نهج هذه القوى على صانع القرار، رغم وجود المصالحة بين إيران والدول العربية.

فلا تريد إيران أن تفقد العراق، وتصرح بأن العراق جزء من أمنها القومي، وهناك من يعتقد داخل إيران أن لديهم حلفاء سيعملون على رعاية مصالح إيران، وعلى إيران أن تتفهم أن لدى العراق مصالح مع الدول العربية والغربية. قد تتقبل إيران بدور عربي محدود في العراق على المستوى السياسي، أما اقتصادياً فلن تنظر لذلك على أنه جزء من التدافع الاقتصادي، إذ إنها ترى أن العراق رئة اقتصادية لها.

3- تداعيات الاستقطاب الأمريكي الإيراني: رغم إدراك العراق أن مسألة التوازن تتيح قدراً من المناورة في العلاقات الخارجية، لكن ذلك لن يكون مقبولاً خلال الفترة المقبلة، فهناك اشتراكات إيرانية على رئيس الحكومة الحالية محمد شياع السوداني، وأمريكا لديها اشتراطات أيضاً، والصراع في أعلى مستوياته.

وهذا الصراع والاستقطاب ينعكس على التطورات الداخلية بصورة كبيرة، كما ينعكس أيضاً على العلاقات مع الدول العربية.

وساد اتجاه في النقاش، إلى ممارسة السفيرة الأمريكية في العراق دوراً يتجاوز دور السفراء والبعثات الدبلوماسية، وهو ما تم التأكيد عليه من قبل “الشمري”، وهو دور متفق عليه وموضع موافقة من قبل الحكومة العراقية، في ضوء سياسة التوازن التي تتبعها العراق خلال السنوات القليلة الفائتة، وهو أيضاً يتفق مع نهج إدارة بايدن للانخراط المتزايد لمواجهة النفوذ الإيراني، كما أن السُنة في العراق يعتبرون أن الوجود الأمريكي في العراق ضمانة لموازنة الدور الإيراني.

4- تأثيرات الحرب الروسية الأوكرانية: هناك تحديات متعلقة بعامل طارئ على السياسة الخارجية العراقية يتمثل في تأثيرات الحرب الروسية الأوكرانية، وما أفرزته من زيادة حدة الاستقطاب على المستوى الدولي والإقليمي، وبات هناك صراع بين أمريكا وما يُعرف بـ”المحور الشرقي” الذي يضم روسيا والصين وإيران.

وتأثيرات الحرب الروسية الأوكرانية على العراق تتجاوز الأمن الغذائي إلى أزمة الدولار، فأمريكا بدأت تصل لها معلومات حول توجه دولارات من العراق إلى روسيا، وهناك شركات روسية تعمل في العراق. وفي المقابل، فإن أمريكا يمكن أن تتخذ إجراءات ضد العراق، من قبل البنك الفيدرالي الأمريكي، الذي يعتمد عليه العراق في جوانب كثيرة.

وباتت الأزمة مركبة، إذ إن العراق في مرحلة اختبار: هل سيكون مع أمريكا أم مع “المحور الشرقي”؟ وإن كانت أمريكا لديها مرونة في عمل بعض الشركات الروسية في العراق، وهذا جزء من سياسة التوازن التي يلعبها العراق.

5- قلق انتشار الجماعات المسلحة وتهريب المخدرات: ساد اتجاه في النقاش حول التأثيرات السلبية لانتشار الجماعات المسلحة في العراق، وأزمة تجارة المخدرات، على تفاعلات العراق مع الدول العربية، ويرى “الشمري” أنه بالتأكيد يمثل انتشار الجماعات المسلحة في العراق تحدياً كبيراً في التعاطي والانفتاح العراقي مع دول الإقليم، وتحديداً مع دور الجوار الجغرافي، بمنطقة الخليج، خاصة مع تمركزات بعضها في الجنوب الغربي، ولكن لن تشكل عائقاً مع الانفتاح خلال الفترة الحالية، خاصة في ظل الانفتاح الإيراني مع الدول العربية، وبالتالي ليست هناك حاجة لعرقلة هذه الجهود.

أما على مستوى تهريب المخدرات، فهي من القضايا الأمنية المهمة وتحديداً لدول الخليج، إذ إن العراق يعد مصدراً لتهريب نحو 80% من حبوب المخدرات القادمة من إيران، ويعطي العراق تطمينات للدول العربية حول هذا الملف بأنه على الأقل لا يشارك في السماح بتهريب تلك المخدرات، مع وجود تنسيق أمني وعسكري بين العراق وتلك الدول لمواجهة تهريب المخدرات، ويتم ضبط كميات كبيرة من المخدرات ضمن الإجراءات المتبعة في العراق.

السيناريو الأسوأ

يرى “الشمري” أن العراق يدرك أن هناك مرحلة جديدة في العلاقات على مستوى الشرق الأوسط، خاصة على مستوى التوصل لاتفاق نووي مع إيران أو عودة الاتفاق القديم، وانتهاء الحرب الروسية الأوكرانية، وهو ما سيكون مفيداً للعراق، ولكن السياسات لا تُبنى بالأمنيات.

ولا يمكن إغفال السيناريو الأسوأ بالنسبة للعراق، من استمرار الحرب الروسية الأوكرانية وعدم التوصل لاتفاق حول الملف النووي الإيراني، ولذلك لا بد من اتخاذ السياسات “الجريئة” التي تراعي المصالح العليا للعراق، بصورة قد تحقق مزيداً من الانفتاح على مستوى العالم، ومن دون قرار عراقي يحدد المصالح ستستمر أزمة العراق، وربما فقدان كل شيء تحقق خلال السنوات القليلة الفائتة.