استمرار الانخراط:
كيف يؤثّر فوز ماكرون على السياسة الفرنسية تجاه المنطقة؟

استمرار الانخراط:

كيف يؤثّر فوز ماكرون على السياسة الفرنسية تجاه المنطقة؟



فاز الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بولاية رئاسية ثانية بعدما تقدم على منافسته مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبن زعيمة حزب “التجمع الوطني” للمرة الثانية في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، التي أجريت جولتها الثانية في 24 أبريل الحالي، بحصوله على ٥٨,٥٤٪ من الأصوات. وقد لقى فوزه ترحيباً عربياً، حيث أكد غالبية زعماء المنطقة في رسائل تهنئتهم لماكرون على استعداد دولهم لمواصلة العمل مع فرنسا لتعزيز العلاقات الثنائية وحل الأزمات الإقليمية، وفي مقدمتها الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وكذلك القضايا الدولية ذات الاهتمام المشترك، ودعم سبل التعاون والتنسيق من أجل تحقيق السلام في منطقة الشرق الأوسط، فضلاً عن التأكيد على العلاقات التاريخية التي تربط فرنسا بالعديد من دول المنطقة.

ملامح رئيسية

شهدت الفترة الرئاسية الأولى للرئيس ماكرون انخراطاً فرنسياً مكثفاً في الأزمات التي تتصاعد حدتها في منطقة الشرق الأوسط، ولا سيما في الدول التي ترتبط مع باريس بعلاقات ثقافية وتاريخية، وتلك التي يُهدد استمرار الصراعات فيها المصالح الفرنسية والأمن الأوروبي. وعلى الرغم من تعدد التحديات الداخلية التي سيجب على الرئيس الفرنسي التعامل معها ومنحها الأولوية خلال فترته الرئاسية الثانية، وكذلك التحديات الأوروبية التي تفاقمت في أعقاب العمليات العسكرية الروسية ضد أوكرانيا، والتي بدأت في ٢٤ فبراير الماضي؛ فإنه يتوقع استمرار الانخراط الفرنسي في منطقة الشرق الأوسط. ويمكن تناول أبرز ملامح السياسة الخارجية الفرنسية خلال الفترة الرئاسية الثانية لماكرون فيما يلي:

١- ممارسة دور قيادي في الشرق الأوسط: في الوقت الذي تشهد فيه منطقة الشرق الأوسط تنافساً محتدماً بين القوى الكبرى، ولا سيما الصين وروسيا، في ظل سياسة إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن التي تقوم على تقليل الانخراط الأمريكي المكثف في المنطقة نظراً لتراجع أهميتها بالنسبة لواشنطن، بالتوازي مع التركيز على مواجهة موسكو وبكين كخصمين استراتيجيين، وعودة سياسات منافسة القوى العظمى؛ يُتوقّع أن تستمر فرنسا خلال رئاسة ماكرون الثانية في الانخراط المكثف في أزمات الشرق الأوسط، وتعزيز مكانتها في المنطقة، ولا سيّما في الوقت الذي تترأس فيه مجلس الاتحاد الأوروبي للمرة الأولى منذ ١٤ عاماً، اعتباراً من أول يناير الماضي وحتى ٣٠ يونيو القادم. وتُشير العديد من التقديرات إلى أن الرئيس الفرنسي خلال ولايته الثانية سيقود الاتحاد الأوروبي نحو محاولة تسوية الملفات والأزمات الإقليمية التي تفرض تأثيرات على الأمن الأوروبي، الذي يواجه حالياً العديد من التحديات في أعقاب العمليات العسكرية الروسية ضد أوكرانيا.

٢- تعميق العلاقات الفرنسية-الخليجية: من المتوقّع أن تشهد الفترة الرئاسية الثانية للرئيس الفرنسي مزيداً من تقوية العلاقات الفرنسية مع دول مجلس التعاون الخليجي، في ظل سعي باريس إلى تنويع مصادر الطاقة الأوروبية لتتخلص تدريجياً من الاعتماد على الطاقة الروسية التي تقيد تحركات الدول الأوروبية لمعاقبة روسيا وعزلها دولياً بعد العمليات العسكرية التي شنتها ضد أوكرانيا، والتي فرضت تهديداً أمنياً لم تشهده القارة الأوروبية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ويُشكل تقارب رؤى باريس مع العواصم الخليجية حول العديد من الملفات الإقليمية، وفي مقدمتها الملف النووي الإيراني، متغيراً مهماً في هذا الصدد، حيث طالب ماكرون بضرورة إشراك دول مجلس التعاون الخليجي في مباحثات فيينا لإعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني لعام ٢٠١٥، وقد قال في ختام جولته الخليجية في بداية شهر ديسمبر الماضي، إن بلاده تشاطر المملكة العربية السعودية مخاوفها من امتلاك طهران سلاحاً نووياً، وقد وصف تلك المخاوف بـ”المشروعة”.

٣- توسيع نطاق التعاون العسكري المشترك: ساهمت مشاركة فرنسا، في عهد ماكرون، العديد من الدول العربية توجهاتها إزاء المهددات التي تواجه أمنها الوطني وكذلك أمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط، في تعزيز التعاون العسكري المشترك. ويتوقع أن تشهد المرحلة القادمة مزيداً من التعاون بين فرنسا وتلك الدول، في ظل توجّه الأخيرة نحو تنويع مصادر أسلحتها، وسعي الأولى نحو زيادة مبيعاتها من الأسلحة لحلفائها وشركائها بالمنطقة، وهو ما سوف يدعم جهودها في التعامل مع التحديات الداخلية، على غرار حركة “السترات الصفر” وجائحة (كوفيد-١٩)، وانعكاساتها على الوضع الاقتصادي الداخلي، حيث ستساهم هذه الصفقات في توفير مئات الوظائف للفرنسيين.

٤- تجاوز التوتر في العلاقات مع بعض الدول: قدم الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، خلال تهنئته ماكرون بإعادة انتخابه لولاية ثانية، دعوة للأخير لزيارة الجزائر في أقرب وقت بهدف إعادة إحياء العلاقات بين البلدين التي تتسم بالتوتر منذ فترة، ولا سيما بعد تصريحات ماكرون، في 6 أكتوبر الماضي، التي اعتبر فيها أن “الجزائر بعد استقلالها في عام ١٩٦٢ إثر ١٣٢ عاماً من الاستعمار الفرنسي، أقامت ريعاً للذاكرة عززه النظام السياسي-العسكري”. وقد أشار تبون إلى أن مجالات الشراكة تتمثل في الذاكرة والعلاقات الإنسانية والمشاورات السياسية والاستشراف الاستراتيجي والتعاون الاقتصادي، والتفاعلات في كافة مستويات العمل المشترك. وقد سبق أن زار الرئيس الفرنسي الجزائر مرة واحدة في بداية ولايته الرئاسية الأولى في ديسمبر ٢٠١٧.

٥- رفع مستوى الاهتمام بالأزمة اللبنانية: حاول الرئيس ماكرون ممارسة دور مهم في لبنان كبوابة لمزيد من النفوذ الاستراتيجي الأوسع في منطقة الشرق الأوسط، ولذلك شهدت الأزمة اللبنانية اهتماماً كبيراً من جانب الرئيس الفرنسي خلال فترته الرئاسية الأولى، حيث زار مرفأ بيروت في 6 أغسطس ٢٠٢٠ بعد انفجاره بيومين، وانخرط بشكل مكثّف في حل الأزمة السياسية والاقتصادية التي تواجهها الدولة، بالتوازي مع تقديم المساعدات المالية والإنمائية الفرنسية، وبدعم من الشركاء الأوروبيين والحلفاء في المنطقة، لإخراج بيروت من عثرتها المالية، والتوصل إلى مبادرة مع السعودية، في 4 ديسمبر الماضي، لإنهاء الخلاف الدبلوماسي بين عدة دول خليجية ولبنان.

٦- استمرار مناوأة السياسة الإسرائيلية: مثل مواقف جميع الرؤساء الفرنسيين السابقين خلال العقود الأخيرة، يدعم الرئيس ماكرون حل الدولتين للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، ويعارض المستوطنات الإسرائيلية. ويتوقع أن تكون هناك توترات سياسية بين فرنسا وإسرائيل، من وقت لآخر، كما حدث أثناء زيارة ماكرون إلى القدس في 22 يناير ٢٠٢٠، عندما انتقد الأمن الإسرائيلي لمرافقته إلى كنيسة القديسة آن بالقدس. وفي المقابل، سوف يعمل الرئيس الفرنسي على زيادة أوجه التعاون مع السلطة الفلسطينية خلال فترته الرئاسية الثانية.

قيود عديدة

على الرغم من فوز إيمانويل ماكرون بفترة رئاسية ثانية، والذي ترى اتجاهات مختلفة أنه أنقذ بلاده وأوروبا من “زلزال سياسي”، فإن هناك العديد من القيود التي يمكن أن تُفرض على التحركات الفرنسية في الشرق الأوسط، يتمثل أبرزها في أن الدور الفرنسي في بعض أزمات المنطقة ليس بقوة النفوذين الأمريكي والروسي، فضلاً عن أن بعض الدول والشعوب العربية عادة ما تنظر إلى الدور الفرنسي في المنطقة على أنه عودة إلى “الحقبة الاستعمارية الفرنسية”، ناهيك عن تعدد الأزمات الداخلية الفرنسية، وتصاعد نفوذ تيار اليمين على الساحة السياسية الفرنسية، مقابل تراجع شعبية الأحزاب التقليدية التي قادت باريس لعقود من الزمن، والانشغال بالتهديد الذي تفرضه العمليات العسكرية الروسية ضد الأراضي الأوكرانية على الأمن الأوروبي، وقيادة الاتحاد الأوروبي لتعزيز قدراته الذاتية لحماية أمن دوله، والذي يأتي على قمة أولويات فرنسا خلال رئاستها لمجلس الاتحاد الأوروبي.