القضايا العشر:
كيف وظفت تركيا الأزمة الأوكرانية لتعظيم مكاسبها الاستراتيجية؟

القضايا العشر:

كيف وظفت تركيا الأزمة الأوكرانية لتعظيم مكاسبها الاستراتيجية؟



رغم التحديات التي أفرزتها تداعيات الأزمة الأوكرانية على تركيا فإنها مثلت فرصة لتركيا لتحقيق مكاسب استراتيجية متعددة ومتنوعة، ارتبط أبرزها بتطوير معدلات التبادل التجاري مع طرفي الأزمة “موسكو وكييف”، بالإضافة إلى دعم الصناعات الدفاعية التركية. كما وفرت الأزمة بيئة خصبة لإنعاش المصالح التركية في سوريا والقوقاز في ظل انشغال روسيا بالحرب، ناهيك بتوظيف تركيا للأزمة في تحييد الضغوط الغربية عليها في القضايا الخلافية، وكذلك تثبيت مركزية أنقرة داخل الهياكل المؤسسية لحلف الناتو، بعدما برزت أصوات في الفترة الأخيرة تطالب بطردها من الحلف.

يعد التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا الذي بدأ قبل عام في فبراير 2022، من أكثر الأزمات التي حملت ارتدادات متباينة على تركيا، وبرغم أن الأزمة حملت تحديات لتركيا، فإنها منحت أنقرة العديد من الفرص والمكاسب التي مكنتها من تحقيق جملة واسعة من المصالح الاستراتيجية. ولذلك حرصت تركيا منذ بدايات الأزمة على إنتاج توجهات ومواقف توازن بين التكلفة والعائد، وتضمن ليس فقط تحييد التأثيرات السلبية للأزمة، وإنما تعزيز الاستفادة وتحقيق الأهداف الاستراتيجية التركية. وقد عملت أنقرة، التي تلعب دوراً محورياً في الأزمة، على وضع الخطط والبدائل للتعامل مع تطورات الأزمة، فضلاً عن تطوير الاستجابة التركية مع التداعيات الميدانية للأزمة بما يضمن مصالحها.

موقف متوازن

تبنَّت تركيا موقفاً حيادياً تجاه الأزمة الأوكرانية التي مر على اندلاعها عاماً كاملاً، ففي الوقت الذي أعلنت معارضتها للتدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، أكدت الاستعداد لتقديم كل أوجه الدعم لكييف، بصفتها عضواً في التحالف الغربي وحليفاً في الناتو. وفي الوقت الذي عارضت فيه العقوبات الغربية على موسكو، سعت إلى طرح نفسها وسيطاً بين طرفي الأزمة.

حسابات تركيا المعقدة تجاه الأزمة ترجع بالأساس إلى مجموعة من الاعتبارات، أهمها علاقات الشراكة القوية والمتنامية التي تربط أنقرة مع موسكو وكييف، والتي تعد أحد السياقات الحاكمة للموقف التركي تجاه الأزمة الأوكرانية، فهناك روابط ومصالح تركية متنوعة مع الطرفين، وهنا، يمكن فهم حرص أنقرة على بناء علاقات متوازنة الأطراف المنخرطة في الأزمة، ما يجعل التضحية بأي من هذه الروابط والمصالح مسألة خارج حساب صُنع القرار التركي.

مكاسب متنوعة

فتحت الأزمة الأوكرانية الباب أمام دور دبلوماسي جديد لتركيا، ووفرت بيئة خصبة لتعظيم مكاسبها الاستراتيجية، ودعم حضورها في المعادلات الإقليمية والدولية أكثر من أي وقت مضي. وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى أبرز المكاسب التركية من الأزمة، والتي يمكن بيانها على النحو التالي:

1- تعظيم المنافع الاقتصادية وتنمية الروابط التجارية: انطلاقاً من مبدأ “التوازن الآمن” الذي تبنته تركيا في التعاطي مع الأزمة الأوكرانية، تمكنت أنقرة من تأمين مصالحها مع موسكو وكييف. فمع موسكو دفعت باتجاه تنمية الروابط والمشاريع التجارية والاستثمارية، بالإضافة إلى اضطلاع أنقرة بدور الوسيط التجاري بين روسيا والغرب، أي استيراد السلع الروسية عبر سوق ثالث وهو السوق التركي. بالتوازي شهدت العلاقات التجارية مع موسكو طفرة كبيرة، مكنت الاقتصاد التركي من تجاوز بعض عثراته، إذ نما حجم التجارة بين روسيا وتركيا في النصف الأول من العام الماضي بنسبة 110%، أي ما يقدر بنحو 13.7 مليار دولار، وذلك وفقاً لنائب رئيس الوزراء “ألكسندر نوفاك”.

كما تحولت موسكو إلى سادس أهم وجهة للصادرات التركية خلال العام 2022، حيث توسعت الصادرات التركية لموسكو من المواد الكيماوية ورقائق دقيقة ومنتجات أخرى تشمل مكونات إلكترونية، ووصلت قيمتها حتى نهاية أكتوبر الماضي بنحو 2.6 مليار دولار. ويشار إلى أن موسكو وأنقرة ترتبطان بشراكة اقتصادية واسعة، فمثلاً وصل حجم التجارة مع موسكو إلى نحو 34,7 مليار دولار بنهاية عام 2021، كما أن ما يقرب من 21 في المئة من أنشطة شركات البناء التركية في الخارج تعمل في روسيا، وذلك وفقاً لبيانات معهد الإحصاء التركي.

في المقابل، تعد تركيا واحدة من أهم وأبرز المستثمرين الاقتصاديين في أوكرانيا، حيث تنامت التجارة الثنائية بين الجانبين بنسبة 50 في المئة تقريبا خلال الأشهر الـ9 الأولى من عام 2021، حتى وصلت إلى حوالي 5 مليارات دولار بنهاية العام الماضي، مع وجود أكثر من 700 شركة تركية استثمارية في أوكرانيا، أهمها شركة “تركسل” التي يعد فرعها في أوكرانيا ثالث أكبر مشغل لشبكات المحمول، ويمتلك صندوق الاستثمار الوطني التركي أكثر من 26% من أسهم الشركة. كما نجحت أنقرة في استثمار وساطتها في قضية الحبوب الأوكرانية لتعزيز منافع اقتصادية استثنائية، وذلك من خلال زيادة حصتها من ورادات القمح الأوكراني، والحصول عليه بأسعار تنافسية، بالإضافة إلى حصول شركات النقل البحرية التركية على الأولوية للقيام بدور فاعل في نقل الحبوب الأوكرانية.

2– تطوير الصفقات العسكرية المشتركة مع موسكو وكييف: نجحت تركيا في تحقيق منافع عسكرية مع طرفي الأزمة، فقد حصلت تركيا بجانب حيازتها منظومة الدفاع الصاروخية الروسية S400، على طائرات سوخوي 57 الروسية بعد استبعادها من مشروع إنتاج مقاتلات F35 الأمريكية، ناهيك باستمرار الاشتراطات الأمريكية بشأن الموافقة على منح تركيا طائرات F16. كما زادت تركيا من صادراتها الدفاعية لموسكو، فقد أشارت بيانات إلى دور أنقرة في بيع موسكو مسيَّرات ومركبات مدرعة وتصدير منتجات عسكرية، وهو ما دفع وكيل وزارة الإرهاب والاستخبارات المالية في وزارة الخزانة الأمريكية بريان نيلسون عشية زيارته لأنقرة في مطلع فبراير الجاري إلى تحذير تركيا، وإظهار المخاوف الأمريكية بشأن زيادة الصادرات التي تشمل بيع “السلع” الدفاعية الأمريكية التي تحوزها أنقرة إلى موسكو.

على الجهة الأخرى، طورت أنقرة علاقاتها الدفاعية الوثيقة مع أوكرانيا بصورة لافتة بعد اندلاع الحرب، ونجحت في تعزيز مكاسبها العسكرية مع كييف، فعلى سبيل المثال شرعت شركة “بايكار”، أبرز صانع أسلحة في تركيا، في إنشاء مصنع جديد في كييف من شأنه أن يضاعف قدرتها على إنتاج طائرات من دون طيار مسلحة، وفي تصريحات له أكد الرئيس التنفيذي لشركة “بايكار” التركية، خلوق بيرقدار، أن المصنع الجديد، الذي تبلغ تكلفته 100 مليون دولار ويقام على مساحة 30 ألف متر مربع في أوكرانيا، من المقرر أن يبني النطاق الكامل لطائرات الشركة من دون طيار في غضون ثلاث سنوات تقريباً.

لم تقف مكاسب أنقرة على ما سبق، ففي نوفمبر الماضي سلمت تركيا طرادات جديدة للبحرية الأوكرانية، كما زادت مبيعات الدرونز التركية إلى أوكرانيا، والتي وصلت إلى ما يقرب من 50 طائرة منذ بداية الأزمة الأوكرانية، وهي واحدة من أهم المبيعات العسكرية التركية. وتشير بيانات مجلس المصدرين التركي إلى ارتفاع صادرات تركيا من الصناعات الدفاعية إلى أوكرانيا من 1.9 مليون دولار إلى 59.1 مليون دولار في عام 2022، بزيادة نحو30 ضعفاً مما كانت عليه في عام 2021. ويشار إلى أن تركيا تحصل من كييف على المحركات التي تستخدمها تركيا في تشغيل الجيل الحديث من الطائرات التركية من دون طيار “الدرونز”. كما تعد الاتفاقية الإطارية للتعاون في قطاع الدفاع ومجال التقنيات العالية والطيران والصناعات الفضائية التي وقعها البلدان في فبراير 2022، أبرز خطوات التعاون والتنسيق الأمني بينهما.

3– تعزيز النفوذ في منطقة القوقاز: لم تبدِ دول القوقاز التضامن المرجو مع موسكو في حربها ضد أوكرانيا، خاصة مع تصاعد مخاوفها من توجه بوتين نحو التأكيد على عودة الزخم للقومية الروسية، وشعور هذه الدول بأن تمدد طموحات روسيا القومية إليها هي مسألة وقت تحددها مآلات الحرب الأوكرانية. وتصاعدت هذه المخاوف بعد إنكار الرئيس الروسي بوتين في خطاب له في نهاية عام 2021 صراحةً وجود دولة أو قومية أوكرانية؛ لأنها كانت جزءاً من الاتحاد السوفيتي، وهو ما ينطبق على دول آسيا الوسطى. وهنا يمكن فهم تصريحات رئيس طاجيكستان إمام علي رحمون عشية القمة الأولى لتجمع رؤساء روسيا وبلدان آسيا الوسطى، في 14 أكتوبر الماضي في أستانا، عندما أشار إلى “رغبة بلاده في تعامل أكثر احتراماً” من جانب روسيا.

في هذا السياق، سعت تركيا إلى توظيف هواجس دول القوقاز بجانب انشغال موسكو في الحرب الأوكرانية لتحقيق نقلة نوعية أكبر في دفع وتثبيت نفوذها في آسيا الوسطى. ورغم أن أنقرة دأبت على استغلال القوميات التركية والإرث التاريخي الذي يربطها بشعوب منطقة القوقاز في تأمين مصالحها في هذه المنطقة فإن الأزمة الأوكرانية مثلت فرصة استثنائية لتعميق النفوذ التركي، وظهر ذلك في دخول تركيا على خط النزاع الحدودي الذي اندلع بين طاجيكستان وقيرغيزيا في مايو الماضي. كما قدم الرئيس أردوغان نفسه راعياً للصلح بين أرمينيا وأذربيجان، حين دبر في 6 أكتوبر الماضي اجتماعاً ثلاثيا مع الرئيس الأذري ونظيره الأرميني على هامش قمة “المجتمع السياسي الأوروبي” في العاصمة التشيكية براغ. وعلى هامش قمة الأمم المتحدة في سبتمبر الماضي، طالب الرئيس التركي روسيا بإعادة القرم إلى “أصحابها الشرعيين”، مذكراً بأن “أحفادنا (التتار) يعيشون هناك”. كما اتجهت تركيا بصورة لافتة نحو تطوير مشروع “الممر الأوسط” الذي يربط دول القوقاز والصين مع تركيا لتعزيز دورها كناقل ووسيط في حركة التجارة العالمية.

4– تأمين احتياجات النفط وتعزيز المكانة في أسواق الغاز: نجحت أنقرة في توظيف الأزمة الأوكرانية لتحقيق أهداف متنوعة في تأمين احتياجاتها النفطية وتعزيز مكانتها كممر للطاقة، فمن جهةساعد الموقف التركي المتوازن تجاه الأزمة في دعم استمرار إمدادات النفط والغاز والسلع الغذائية للسوق التركي، ومن ثَم تجنب البحث عن بدائل أخرى بتكاليف مرتفعة، وتجلى ذلك في موافقة الرئيس الروسي عشية لقائه نظيره التركي في سوتشي في 5 أغسطس 2022، على أن تدفع تركيا 25 % من قيمة الغاز الذي تستورده من روسيا بالروبل؛ ما يعني مساعدة تركيا على تعديل ميزان المدفوعات، وتحويل تركيا إلى مركز دولي لتوزيع الغاز الروسي، وهو قرار ذو طابع إستراتيجي.

كما استثمرت تركيا الأزمة لترسيخ دورها كمعبر آمن لنقل تدفقات الغاز من آسيا الوسطى وشرق المتوسط إلى القارة الأوروبية، وكشف عن ذلك مؤشرات متنوعة، منها اقتراح الرئيس الروسي في 13 أكتوبر 2022 تحويل تركيا إلى ممر للغاز الروسي من خلال إنشاء “مركز لتصدير الغاز” مقره تركيا لنقل مصادر الطاقة الروسية إلى أوروبا. كما بحثت أنقرة مع الجانب الإسرائيلي بعد اندلاع الأزمة الأوكرانية إمكانية مد خط أنابيب يربط بين أوروبا وإسرائيل مروراً بتركيا.

على صعيد ذي شأن، بذلت تركيا جهوداً حثيثة لاستغلال تصاعد حدة الأزمة الأوكرانية، لتمرير اتفاق مع أذربيجان خلال النسخة الثانية لمنتدى الطاقة التركي الأذربيجاني في 6 أكتوبر الماضي، تضمن رفع سعة خط “تاناب” لنقل الغاز الأذربيجاني إلى أوروبا عبر الأناضول من 16 مليار متر مكعب إلى 32 مليار متر مكعب. ولا شك أن زيادة كمية الضخ في خط “تاناب” يسمح بزيادة الحصة التي تحصل عليها تركيا من الغاز الأذري، حيث يتوقع أن تصل من 6 مليارات قدم مكعب إلى نحو 11 مليار قدم مكعب.

5– تحقيق انتصارات داخلية لحزب العدالة والتنمية: جاء الموقف التركي متوافقا مع سياقات المصالح الداخلية، حيث مثلت الحرب الأوكرانية فرصة لتعزيز الصورة الذهنية لحزب العدالة والتنمية في الداخل التركي، والذي يعاني تراجعاً لافتاً، من خلال استثمار دور الوساطة الذي لعبته تركيا في حل أزمة الحبوب الأوكرانية، لتأكيد محورية الدولة التركية على الساحة العالمية. وكذلك وظفت النخب التركية الحاكمة ارتدادات الأزمة في تبرير التراجع الحادث في الأوضاع المعيشية التركية، وتراجع مؤشرات الاقتصاد، خاصة بعد فشل الإجراءات التقليدية التي تبنتها أنقرة للتحايل على محاصرة التضخم، والتراجع الحادث في سعر العملة التي فقدت نحو ثلث قيمتها.

6– انتقال الاستثمارات الهاربة من روسيا إلى تركيا: تحولت تركيا بفضل الحرب الروسية الأوكرانية إلى وجهة مفضلة لانتقال العديد من الشركات الأمريكية والأوروبية التي انسحبت من روسيا بعد فرض عقوبات غربية عليها. ووفرت تركيا إجراءات نقل مقار هذه الشركات وأنشطتها إلى المدن التركية. ولا شك أن جذب هذه الاستثمارات، قد يسعف تركيا في تحسين صورتها بوصفها بيئة آمنة للاستثمار الأجنبي، ويوفر فرصاً أكبر لدفع دورة الاقتصاد التركي الذي يعاني تراجعاً.

7– تحييد الضغوط الغربية على التحركات التركية: نجحت تركيا في استثمار الأزمة الأوكرانيةللتأكيد على مركزية دورها في حماية الأمن القومي الأوروبي، وأهمية موقعها في استراتيجية الولايات المتحدة وحلف الناتو لاحتواء التحركات الروسية، خاصة بعد قرار تركيا إغلاق مضيقي الدردنيل والبوسفور، حيث يعد الميناءين نقطة المرور الرئيسية لروسيا نحو البحر الأسود والبحر المتوسط. كما أعلنت تركيا مطلع أكتوبر الماضي رفضها قرار روسيا بضم مناطق دونيتسك، ولوهانسك، وخيرسون، وزاباروجيا الأوكرانية إلى سيادة موسكو، وأشارتإلى أن الخطوة تمثل “انتهاكاً خطيراً” لقواعد القانون الدولي. ومثلت هذه المواقف التي تبنتها أنقرة دعماً لأوكرانيا، ناهيك بتماهيها مع الناتو.

النهج البراجماتي لتركيا تجاه الأزمة الأوكرانية دفع القوى الغربية، وخصوصاً الولايات المتحدة، إلى عدم تصعيد حدة الخلاف مع أنقرة، والعودة إلى موازنة المصالح بالنظر إلى حاجة الولايات المتحدة إلى الدور التركي في إفشال التوجه العسكري الروسي في أوكرانيا، ناهيك بأن استمرار الاحتقان قد يدفع أنقرة إلى تبني خيارات لا تتوافق مع حسابات المصالح الأمريكية والناتو في المرحلة الحالية. ومن هنا، فقد مثلت الأزمة الأوكرانية فرصة لتوفير المزيد من الفرص لمعالجة القضايا الشائكة بين أنقرة وواشنطن، والوضع في الحسبان المصالح التركية، وتجلى ذلك في سعى الرئيس بايدن لإقناع الكونجرس بأهمية إتمام صفقة طائرات F16 مع تركيا، كما تراجعت حدة الانتقادات الأمريكية تجاه الأوضاع الحقوقية في تركيا.

في المقابل، مهدت الأزمة الأوكرانية إلى ترطيب العلاقات التركية الأوروبية، وإقناع الأوروبيين بأهمية التخلي عن الإجراءات العقابية ضد تركيا، خاصة مع غياب حسم الأزمة الأوكرانية، وإصرار موسكو على الاستمرار في عسكرة الأزمة، ومقاومة الضغوط الغربية. وشهدت الشهور الماضية تقارباً لافتاً بين العواصم الأوروبية وأنقرة، حيث سعى الاتحاد الأوروبي إلى نزع فتيل التوتر بين أنقرة وأثينا، بالإضافة إلى اصطفاف الدول الأوروبية لدعم ومساندة أنقرة عشية أحداث الزلزال المدمر الذي ضرب مناطق جنوب تركيا في 6 فبراير الجاري.

8- تقليص الضغوط الروسية على تركيا في سوريا: منحت الأزمة الأوكرانية فرصة غير مسبوقة لتركيا لتمديد نفوذها في المشهد السوري، حيث وفر الانشغال الروسي بالأزمة الأوكرانية الحرية للتحركات التركية ضد قوات سوريا الديمقراطية “قسد” في شمال سوريا، بالإضافة إلى تعزيز الضغوط على قوات النظام السوري، وظهر ذلك في صمت موسكو على الغارات الجوية التي بدأتها أنقرة في 20 نوفمبر الماضي على عناصر “قسد” بعد الهجوم الإرهابي الذي استهدف منطقة تقسيم التركية في نوفمبر 2022، ووجهت تركيا أصابع الاتهام لمنظمة حزب العمال الكردستاني، وقواعدها في شمال سوريا. والأرجح أن الرد الروسي الفاتر على التحركات التركية في شمال سوريا لا ينفصل عن حاجة موسكو إلى تركيا كوسيط محايد ومتوازن بينها وبين القوى الغربية في حل القضايا العالقة، وبخاصة تصدير الحبوب، وهنا، يمكن فهم السلوك الروسي إزاء الممارسات الميدانية لتركيا في سوريا، بالإضافة إلى جهود موسكو في التقريب بين أنقرة ودمشق، وكسر حدة التوتر بين البلدين.

9- صعود مركزية أنقرة في حلف الناتو: ألقت أزمة أوكرانيا بظلالها على صعود موقع تركيا داخل الناتو، خاصة مع رهانات دول الحلف على الدور التركي في معالجة تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، سواء فيما يتعلق بصادرات الحبوب الأوكرانية أو نقل الغاز الروسي. وبالتوازي، عملت أنقرة على تعزيز الضغوط على الناتو لتعزيز مكاسبها الاستراتيجية من دول الحلف، من خلال السعي لاستغلال مسألة انضمام السويد وفنلندا للناتو، والتوصل إلى صفقة مع الدولتين لاتخاذ إجراءات ضد العناصر والتنظيمات الكردية المقيمة في البلدين، والتي تعدها أنقرة “إرهابية”، وتعي تركيا حاجة السويد وفنلندا لعضوية الناتو، إذ ترى الدولتان أن الناتو سيوفر لهما مظلة أمنية في مواجهة السياسات القومية التي يتبناها الرئيس بوتين تجاه الجمهوريات السوفيتية السابقة.

في المقابل، تواصل أنقرة توظيف سياستها الرافضة لتوسيع الناتو لتحقيق مصلحة مزدوجة، فبالإضافة إلى كسب ود الجانب الروسي، تستمر تركيا في عملية رفض عضوية السويد وفنلندا لتعزيز الضغوط على دول الناتو، وبخاصة واشنطن وحلفائها الغربيين بشأن تخفيف العقوبات المفروضة على أنقرة بسبب حيازتها منظومة الدفاع الصاروخية الروسية S400، وإعادة تركيا إلى مشروع إنتاج طائرات “35F”، وهي مصالح تمثل أولوية استراتيجية لتركيا، والتي تعتقد أن الأزمة الأوكرانية فرصة لا ينبغي تفويتها لإنجازها.

10- رفع حظر التسليح عن أنقرة: فرضت تطورات الأزمة الأوكرانية على بعض الدول الأوروبية رفع القيود على تصدير الأسلحة وتكنولوجيا الدفاع إلى تركيا، والتي فرضتها في عام 2019 بسبب عمليتها العسكرية ضد المقاتلين الأكراد في شمال سوريا، ونجحت تركيا في تفعيل مركزية دورها في تطورات الأزمة الأوكرانية، وقدرتها على تحييد الضغوط الروسية على المصالح والأمن الأوروبي، في دفع العديد من الدول الأوروبية، ومنها السويد وبريطانيا، لرفع الحظر عن تصدير السلاح إلى تركيا. كما تتجه دول أوروبية أخرى خلال المرحلة الحالية إلى إعادة تقييم سياسة حظر توريد السلاح لتركيا، خاصة أن الأخيرة تشترط للموافقة على انضمام السويد وفنلندا للناتو رفع دول الناتو القيود على صادرات الدفاع إلى تركيا.

تعزيز النفوذ

في الختام، يمكن القول إن سياسة تركيا تجاه الأزمة الأوكرانية مكنتها من تحقيق سلسلة من المصالح الاستراتيجية التي تمثل أولوية في عقيدة السياسة الخارجية التركية، كما هيأت الأزمة فرصاً أكبر لتعزيز حضور أنقرة على الساحة الدولية، بالإضافة إلى تأمين المصالح الاقتصادية، والصادرات العسكرية.