أزمة متجددة:
كيف فاقم الحوثيون مأساة الاحتياجات الإنسانية في صنعاء؟

أزمة متجددة:

كيف فاقم الحوثيون مأساة الاحتياجات الإنسانية في صنعاء؟



تسبب مشهد فوضوي لتوزيع مساعدات مالية من أحد التجار في العاصمة صنعاء في سقوط عشرات الضحايا ما بين قتلى وجرحى، في 19 أبريل الجاري، وتضاربت الروايات بشأن المسئولية عما وصفته تقارير محلية ودولية بالكارثة الإنسانية التي تضاف إلى قائمة طويلة من الكوارث الإنسانية التي يشهدها اليمن، ما بين تحميل المسئولية للمليشيا الحوثية على خلفية قيام أحد مشرفيها بإطلاق نار عشوائي لتفريق الحشود مما تسبب في حدوث ماس كهربائي كان شرارة حدوث الكارثة، وبين تحميل المليشيا المسئولية للطرف الآخر بدعوى أنه لم يقم بالتنسيق مع وزارة الداخلية التابعة لها، أو توزيعها عبر مؤسسات الزكاة التي أنشأتها.

ومن المتصور أن المأساة الجديدة التي تشهدها صنعاء تعكس مآلات السياسة والاقتصاد في العاصمة صنعاء، وقد تكون صورة المتدافعين للحصول على أموال الزكاة في صنعاء أقل مأوساوية من صور أخرى خارجها، وفق ما تكشف عنه مؤشرات الأمم المتحدة، كما تعكس أيضاً عدم الثقة في مؤسسات الزكاة أو ما يطلق عليه “المؤسسات الخيرية” التابعة لها.

تداعيات مباشرة

تعكس صورة تدافع الآلاف من المواطنين للحصول على مساعدة مالية يقدمها أحد التجار بالدولار قبيل عيد الفطر – والذي أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 85 شخصاً وإصابة نحو 322 آخرين من بينهم 50 في حالة حرجة، بشكل يجعله أحد أسوأ حوادث التدافع على مستوى العالم خلال الأعوام العشرة الأخيرة – طبيعة المأساة الإنسانية التي تشهدها العاصمة صنعاء التي تهيمن عليها المليشيا الحوثية منذ انقلابها على الحكومة المعترف بها دولياً أواخر عام 2014. فغالباً ما تظهر الصور في صنعاء حشوداً هائلة للحوثيين في المناسبات السياسية والدينية، يقول المراقبون إنها لا تعبر عن تأييد أو موالاة للمليشيا بقدر ما تعبر عن حشد منظم ومدفوع في المقابل بأشكال مختلفة في مقدمتها توزيع (القات). لكن الصورة الأخيرة للحشد في إحدى المدارس في صنعاء كانت عفوية حشدتها تداعيات السياسات الاقتصادية للمليشيا التي صنعت مأساة الفقر والجوع، وهي صورة تضاف إلى صور لا تقل عنها مأساوية لعل آخرها انهيار القطاع الصحي في مناطق سيطرة المليشيا على خلفية فرض إتاوات ومساعي سيطرة نخبة المليشيا على القطاع الدوائي، فضلاً عن تخلف المنظومة بطبيعة الحال بسبب واقع الكوادر والبنية الصحية.

واقع متناقض

تُشير العديد من التقديرات المحلية والدولية الخاصة بعوائد إدارة الحوثيين لمناطق النفوذ، وأرباح الاقتصاد الموازي بعد فصل اقتصاد المليشيا عن الاقتصاد الرسمي، إلى أرقام هائلة تتجاوز ما تعلن عنه الحكومة المعترف بها التي تواجه هي الأخرى أزمة اقتصادية حادة. إذ تُحصِّل المليشيا عوائد ضرائب وجمارك على الرغم من أنها لا تقدم خدمة في المقابل، وتهيمن نخبتها الاقتصادية على شركات تدير حركة السلع الاستراتيجية في مناطق النفوذ، ومن بين سياسات الجباية تُحصِّل المليشيا “الخُمس” الذي يمثل أحد المظاهر الطائفية على غرار ما تفعله المليشيات الموالية لإيران في المنطقة، وفي مقدمتها حزب الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق والمليشيات الأفغانية والباكستانية التي تم تكوينها وتدريبها عبر الحرس الثوري الإيراني للانخراط في الصراع السوري، وهي عوائد تمتد إلى الموارد الطبيعية، وتتعدى روافدها إمكانية الحصر، فمن توزيع مشتقات الطاقة إلى صناديق النذور في المساجد والتحويلات الخارجية والمضاربة في أسعار الصرف، وتحول تلك الثروة إلى حسابات مختلفة من حسابات الاقتصاد الموازي، لصالح النخبة أو الزعامة الدينية.

وعلى العكس من صورة التدافع الأخيرة للحصول على المساعدات المالية، فلدى المليشيا مؤسسات تقدم الدعم لفئات من المنتفعين، منها مصابوها في المعارك وكذلك ذوو قتلاها، وهو ما ينطوي على عامل التمييز، ومع ذلك تسببت هذه السياسات في استقطاب المزيد من القطاعات العاطلة عن العمل إلى جبهات الحرب، فتحت ضغوط الحاجة والعوز ترسل العائلات أبناءها للقتال مع الحوثي، حيث يمكن للأسرة أن تحصل على راتب شهري جراء ذلك، وفي حال قُتلوا فإن العائلات ستحصل على مقابل أيضاً.

توظيف متعمد

ثمة عامل آخر مهم في هذا السياق، فمن المتصور أنّ ما أدى إلى تأجيج الحشد هو أن توزيع مساعدات مالية بالدولار شكّل دافعاً مهماً للآلاف للحصول على 20 دولاراً تقريباً، في ظل تدهور العملة المحلية، وعدم حصول معظم الأسر على مصادر دخلها، لا سيما الموظفين في ظل توقف الرواتب منذ سنوات، حيث سيغري ذلك الكثيرين، ومعظمهم من الشرائح التي تحولت إجبارياً إلى الفقر في ظل السياسات الاقتصادية الحوثية، وفي أفضل الأحوال سيتمكن هؤلاء من الحصول على السلع العينية التي توزعها المنظمات الإغاثية، والتي يتعين أن تنجو أولاً من إعادة توجيه الحوثيين لها تحت عنوان “المجهود الحربي”، ومع ذلك فإن شركات الصرافة التابعة للمليشيا هي التي ستتحصل على هذه الأموال في نهاية المطاف.

وتوظف المليشيا – التي أعلنت في إطار محاولاتها تحميل المسئولية عن الحادث للطرف الآخر عن تشكيل لجنة من الداخلية والأمن والمخابرات والقضاء والنيابة للتحقيق في أسبابه – هذا المشهد من جانب آخر، في المقدمة منه التهرب من المسئولية عمّا آلت إليه الأوضاع في البلاد جراء الصراع المسلح الذي اندلع على خلفية انقلابها في أواخر عام 2014، وتحميل الأطراف المقابلة المسئولية عن ذلك، وتحول هذا السياق إلى صفقة (الهدنة) التي بموجبها تم رفع جزء من القيود المفروضة على حركة التجارة والسلع والتنقل، وربما ستتعزز أكثر في الفترة المقبلة في ظل مساعي المليشيا للاستفادة من التحولات السياسية الجارية.

تأمين الدعم

في الأخير، لا يعتقد أن المشهد المأساوي الذي شهدته صنعاء، في 19 أبريل الجاري، سيكون المشهد الأخير في سلسلة الأزمات الإنسانية التي يواجهها اليمن بسبب سياسات المليشيا الحوثية بحكم استفادتها من هذا الواقع، مع تراجع قدرات المانحين على توفير الدعم المطلوب في اليمن على خلفية إعادة توجيه أغلب المانحين جزءاً من الدعم لمساعدة أوكرانيا بعد بدء الحرب الروسية – الأوكرانية في 24 فبراير 2022. وقد تكون هناك بارقة أمل في تقديم الدعم لشرائح متضررة من الأوضاع، ولا سيما الموظفين في ظل ترقب حل هذا الملف في ضوء المشاورات السعودية مع الحوثيين، لكن بدون إعادة تأمين مسارات الدعم الإنساني بعيداً عن السيطرة والتحكم الحوثي وعبر الآليات الطبيعية للمنظمات الدولية المتخصصة، وإصلاح المسار الاقتصادي في إطار عملية التسوية المقبلة، لن يخرج اليمن من دائرة المعاناة الإنسانية التي تطوقها السياسات والسلوكيات الحوثية.