شبح الجفاف:
كيف فاقمت تركيا وإيران أزمة المياه في العراق؟

شبح الجفاف:

كيف فاقمت تركيا وإيران أزمة المياه في العراق؟



يعاني العراق منذ سنوات من أزمة مياه، ترتبط وفق تقديرات بعدد من الأسباب أهمها: التغيرات المناخية، والاحتباس الحراري، وعدم وجود استراتيجية واضحة لإدارة هذا الملف الحيوي، لكن أهم أسباب هذه الأزمة يرتبط بوجود منابع الموارد المائية والأنهار خارج حدود العراق، وبالتحديد لدى كلٍّ من تركيا وإيران، وهو الاعتبار الذي يعمق من أزمة العراق المائية، إذ توظّف الدولتان ملف المياه في إدارة العلاقات مع العراق، والضغط عليه، وتحقيق مآرب اقتصادية وسياسية وأمنية، وذلك عبر تخفيض نسب الإطلاق، وتغيير مسارات الروافد، وإقامة السدود العملاقة.

مؤشرات خطيرة

تزايدت خلال السنوات الماضية المؤشرات على تعرض العراق لأزمة كبيرة في المياه، حيث تعرض منسوب مياه دجلة والفرات لانخفاض ملحوظ، ووفقًا لمؤشر الإجهاد المائي العالمي، فإن معدل الإجهاد المائي في العراق بلغ 3,7 من 5، وهو ما يجعله واحدًا من البلدان المُصنفة في حالة “خطورة عالية” فيما يتعلق بندرة المياه، حيث يتوقع المؤشر أنه بحلول عام 2040 سيجف نهرا دجلة والفرات تمامًا، وبالتالي سيعاني العراق من الجفاف والعطش.

وتقف العديد من العوامل وراء هذا الوضع المائي الحرج هناك، من أهمها: التغيرات المناخية المتمثلة في قلة سقوط الأمطار وجفاف الأنهار، إضافةً إلى عوامل أخرى تؤثر سلبًا على واردات المياه من النهرين نتيجة إقامة دول المنبع (تركيا وإيران) للسدود على حساب دولة المصب (العراق). ناهيك عن السياسات المائية “المتقادمة”، التي تسهم بدورها في تفاقم العجز المائي. ووفقًا لبعض التقديرات يصل العجز في مياه الشرب في بعض المحافظات مثل كركوك إلى 42%، في حين يبلغ إجمالي العجز 18%.

وفي هذا الصدد، وصلت أزمة المياه في العراق إلى مستويات حرجة، حيث شهدت البلاد خلال هذا الصيف انخفاضًا حادًا في منسوب مياه نهري دجلة والفرات، خصوصًا في محافظات الجنوب، وهو ما دعا العديد من الجهات العراقية النقابية والحقوقية إلى التحذير من تداعيات كبيرة لهذا الأمر على القطاع الزراعي، ومحطات مياه الشرب في هذه المحافظات. وقد أرجع “مهدي رشيد” -وزير الموارد المائية العراقي- هذا الانخفاض، في تصريحات له في شهر مايو الماضي، إلى “انخفاض الواردات المائية القادمة من تركيا لنهري دجلة والفرات بنسبة 50%، وقيام طهران بتحويل بعض الروافد إلى داخل إيران، ومن هذه الروافد: نهر سيروان، وبعض مياه رافد ديالى”. وقد أدى هذا الانخفاض في مناسيب المياه إلى تقلص الأراضي الزراعية، واتساع دائرة التصحر، وتخفيض توليد الطاقة الكهربائية، وتهديد الإنتاج الزراعي والصناعي، ونفوق الثروة الحيوانية، فضلًا عن تنامي موجات الهجرة والنزوح.

ولا تتوقف حدود أزمة المياه في العراق عند انخفاض مناسيب مياه نهري دجلة والفرات، إذ إن الأمن المائي العراقي بشكل عام يتأثر بالتغيرات المناخية، خصوصًا ارتفاع درجات الحرارة، وقلة تساقط الأمطار. فمع التوقعات التي تشير إلى أنّ العراق -والعالم ككل- مُقبل على مستقبل أكثر سخونة، يُتوقع أن تزيد حالات التبخر من المسطحات المائية العراقية، سواء الطبيعية كالثرثار وبحيرة الحبانية أو خزانات السدود، مما يقلل من المخزون الاستراتيجي الذي يعتمد عليه العراق في تغطية نقص التصاريف الواردة من تركيا وإيران.

التهديدات التركية

شكلت السياسة المائية التركية تهديدًا رئيسيًا للأمن المائي العراق، حيث تستدعي هذه السياسة عددًا من الأبعاد الرئيسية المتمثلة فيما يلي:

1) محاولات تتريك نهري دجلة والفرات: تستخدم تركيا عند حديثها عن نهري دجلة والفرات مصطلح “المياه العابرة للحدود”، بدلًا من “الأنهار الدولية”، وهنا لب المشكلة، إذ تنظر تركيا إلى النهرين باعتبارهما تحت السيادة المطلقة لتركيا، لا باعتبارهما نهرين دوليين، وبناءً عليه تعطي تركيا لنفسها الحق في تقرير المصير فيما يتعلق بكمية المياه التي تمنحها للعراق، في الوقت الذي تستخدم فيه النهرين كيفما تشاء لسد حاجتها.

2) التوسّع في بناء السدود: فقد تجسدت الانتهاكات التركية بحق الأمن المائي العراقي بشكل واضح في بنائها مئات السدود خلال السنوات الماضية على حوضي دجلة والفرات، وكان آخر هذه السدود وأهمها هو سد “إليسو” الضخم على نهر دجلة (جنوب شرقي تركيا) على الحدود مع العراق، إذ يعد سد إليسو من أكبر السدود المُقامة على نهر دجلة، بطول 1820 مترًا وارتفاع 135 مترًا وعرض كيلومترين، وتقدر مساحة حوضه بـ300 كلم مربع، ويستوعب سد إليسو في حالة امتلائه كليًا بالمياه ما يقرب من 20.93 بليون متر مكعب، ويولد 1200 ميجاوات من الكهرباء، ليصبح رابع أكبر سد في تركيا من حيث الطاقة الإنتاجية.

وفي هذا السياق، أشارت بعض التقديرات إلى تسبب السد في انخفاض حصة العراق من مياه نهر دجلة بمقدار 60%، فضلًا عن تسببه في تدمير مدينة “هسن كيف” التاريخية، وتهجير أهالي 40 بلدة وقرية، وهي أمور تتنافى مع القوانين الدولية، خاصةً الاتفاقيتين الدوليتين لعام 66 و97 من القرن الماضي، وأيضًا مع الاتفاقيات الثنائية التي وقّعتها مع سوريا والعراق، فضلًا عن مبادئ حسن الجوار التي تفرض الأخذ بعين الاعتبار احتياجات الدول من الموارد.

3) ورقة للضغط: حيث تستخدم تركيا الملف المائي كورقة ضغط على الحكومة العراقية من أجل الحصول على المزيد من المكاسب، ومن هذه المكاسب: التوسع في عمليات مواجهة حزب العمال الكردستاني، وزيادة عدد القواعد العسكرية التركية في العراق، فضلًا عن رغبة أنقرة في توظيف هذا الملف من أجل الحصول على امتيازات اقتصادية كبيرة من العراق في ملفي النفط وإعادة الإعمار.

الضغط الإيراني

وعلى الجانب الآخر من الأزمة المائية، تقع الدولة الإيرانية التي لا تقل خطورة عن تركيا في سياساتها على الأمن المائي العراقي، إذ تنطوي السياسة الإيرانية على إشكاليتين رئيستيين بالنسبة للعراق:

1) الإجراءات الأحادية الإيرانية: دائمًا ما تشتعل العديد من الأزمات بين إيران والعراق بسبب ملف المياه منذ ستينيات القرن الماضي، وذلك بسبب الإجراءات الأحادية التي تقوم بها إيران في هذا الصدد، بما ينتهك الحقوق المائية العراقية. وتتمثل أبرز مظاهر هذه الانتهاكات في إقامة طهران للعديد من السدود التحويلية على الأنهار المشتركة بهدف تحويل مجراها إلى الأراضي الإيرانية، وهو ما حدث مع نَهْرَيْ كنكير وهومان. كما تقوم إيران بإنشاء سدود مؤقتة على عدد من الأنهار الدولية المشتركة، مثل: نهر بناوه سوته، ودويربج، بالإضافة إلى حفر قنوات جديدة داخل الأراضي الإيرانية بغرض تحويل الأنهار الحدودية إلى داخل أراضيها، مثل حفر قناة مياه نهر الوند.

كما قامت طهران بتغيير مجرى مياه الأنهار المغذية لنهر دجلة، وتحويلها إلى أنهار وخزانات مياه داخل الأراضي الإيرانية ضمن خطة لقطع المياه المتدفقة داخل الأراضي العراقية، وهي الخطة التي تم تنفيذها بالفعل مؤخرًا، حيث أعلنت السلطات العراقية رسميًا في أواخر يوليو الماضي أن إيران “قطعت المياه بشكل تام عن العراق”.

وفي هذا السياق، تشير تقديرات إلى أن هذه الممارسات الإيرانية تستهدف بشكل رئيسي مواجهة أزمة المياه في إيران “عبر انتهاك حقوق العراق المائية”، إذ تواجه طهران أسوأ موجة جفاف منذ 50 عامًا، وبالتالي تعول إيران على مياه العراق من أجل سد احتياجات مواطنيها من المياه، وتكوين مخزون استراتيجي من المياه في السدود المختلفة.

2) أداة للمساومة: حيث توظف إيران ورقة المياه كأداة للمساومة مع العراق، فضلًا عن محاولة التكريس لـ”تبعية” العراق لها، واستخدام هذا الملف من أجل الضغط على الحكومة العراقية لاقتناص المزيد من المكاسب لحلفاء إيران في العراق وأذرعها، هذا بالإضافة للمكاسب والامتيازات الاقتصادية.

ويلاحظ في هذا الإطار أن إيران باتت تراهن على توازنات القوى الراهنة بينها وبين العراق لاتخاذ المزيد من الإجراءات الأحادية في الملف المائي. ولعلّ هذا ما كشفت عنه تصريحات مستشار وزارة الموارد المائية العراقية “عون ذياب”، في مقابلة مع تليفزيون “العراقية” الحكومي في شهر يوليو الماضي، حينما أوضح أنه “لا توجد استجابة إيجابية من الجانب الإيراني بالحوار مع العراق لحل أزمة المياه بين البلدين”. وأضاف: “بعد تشكيل الحكومة الإيرانية الجديدة لم نتلقَّ أية رغبة بإجراء حوار لحل مشكلة المياه، وأن المحاولات مع الوزارات الإيرانية السابقة جميعًا لم تحقق الطموح، ولم يحصل أي لقاء على مستوى وزاري وفني مشترك بين البلدين”.

وختامًا، فإن هذه الضغوط من جانب تركيا وإيران دفعت العراق إلى تبنّي بعض الخطوات التي تدخل في إطار “التصعيد” منذ بداية العام الحالي، حيث بدأت السلطات العراقية تتواصل مع كلٍّ من تركيا وإيران من أجل الاتفاق على بروتوكول واضح لتقاسم المياه، كما اتجهت السلطات العراقية إلى زيادة التنسيق مع سوريا بهذا الخصوص، لحشد الجهود والضغط من أجل إعادة تدفق المياه في نهري دجلة والفرات، وتنفيذ الاتفاقات الدولية.

وأعلن وزير الموارد المائية العراقي “مهدي رشيد الحمداني”، يوم 10 أغسطس الفائت، عن شروع السلطات العراقية في خطوات “تدويل” ملف المياه مع إيران، كما كشف عن قرب عقد اجتماع ثلاثي (عراقي، مصري، تركي) من أجل التباحث حول حصص العراق المائية، لكن تقديرات تذهب إلى “محدودية” خيارات العراق في هذا الملف وفاعليتها، خصوصًا مع موازين القوة في علاقات العراق بتركيا وإيران، والتي تصب في صالح أنقرة وطهران، وعدم امتلاك العراق أوراقَ ضغط قوية يمكن أن يوظفها في هذا الملف، فضلًا عن غياب استراتيجية عراقية واضحة للتعامل مع هذا الملف وحلحلته.