غياب البدائل:
كيف عكس تأجيل الانتخابات الليبية تعقيدات خرائط الطريق بالمنطقة؟

غياب البدائل:

كيف عكس تأجيل الانتخابات الليبية تعقيدات خرائط الطريق بالمنطقة؟



كشف تعثر الانتخابات الليبية، التي تأجلت إلى موعد لاحق لم يتقرر بعد، عن إشكاليات الهندسة السياسية لخرائط الطريق في دول الأزمات. وربما يكون السؤال المطروح في هذه الحالة، على سبيل المثال، هو: مَن قرر أن يكون تاريخ 24 ديسمبر 2021 هو موعد إجراء الانتخابات الليبية، ووفق أية معايير؟. ولا يختلف الأمر كثيراً عن الحالة العراقية التي شهدت عملية انتقال سياسي متزامنة مع نظيرتها الليبية، وإن لم تتأجل الانتخابات، لكنها طرحت بدورها تساؤلات أخرى ما زالت بلا إجابات حاسمة لا تقل عن مثيلتها الليبية. وتشير التجربة الإقليمية في هذا السياق إلى أن المعضلة المشتركة في هندسة خرائط طريق عمليات الانتقال السياسي تكمن في الرهان على “السيناريو الوحيد”، على الرغم من أن تلك الخبرات تؤكد مدى هشاشة الأوضاع السياسية في الدول التي تشهد عمليات انتقال سياسي، وكم التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية التي تعرقل اعتماد سيناريو بلا بدائل وكأن سيناريو “التعثر” غير وارد.

مسئولية مشتركة

يبدو فى أغلب الحالات أن هناك مسئولية مشتركة بين أربعة أطراف رئيسية: الأمم المتحدة، والبرلمانات، والقوى السياسية، والمفوضيات العليا للانتخابات. ويرى بعض المراقبين أنه من الأهمية بمكان إضافة بُعد التدخل الخارجي كلاعب رئيسي بالنظر إلى عامل التأثير. وهناك أوزان متفاوتة بين تلك الأطراف من حيث مستوى المشاركة وفقاً لطبيعة الأدوار. فعلى سبيل المثال، هناك دور رئيسي لبعثة الأمم المتحدة في ليبيا على اعتبار أنها لا تزال تحت الفصل السابع. وفي حين خرجت العراق من هذا الفصل في عام 2017 فيما يتعلق ببرنامج النفط مقابل الغذاء، إلا أن بعثة الأمم المتحدة في العراق لا زالت تواصل دور المساعدة السياسية والإنسانية بناءً على طلب حكومي. وبينما يتولى البرلمان الإطار التشريعي للانتخابات كما في الحالة الليبية، فإنه في الحالة العراقية يحدد موعد الانتخابات مع انتهاء الفصل التشريعي، في حين تقوم المفوضيات بالجانب الإجرائي.ويأتي دور القوى السياسية في التوافقات المطلوبة كأطراف معنية بالعملية السياسية.

وعلى الرغم من افتراض المسئولية التضامنية بين هؤلاء الشركاء في هندسة خرائط الطريق، إلا أن سلوك هولاء الأطراف يقود إلى نتائج غير محسوبة في الأخير. فالبدايات المتفائلة تجاه عمليات الانتقال السياسي وفق خرائط الطريق التي يتم التوصل إليها لتقود عملية الاستقرار، غالباً ما تصل إلى نهايات مأزومة، وذلك لأسباب متعددة، منها عدم الوفاء بالاستحقاقات المطلوبة، أو شبهات المصالح لدى الأطراف، فالكتل البرلمانية التي تشكل البرلمان العراقي هى انعكاس لكتل وتكتلات سياسية لديها مصلحة في العودة مرة أخرى إلى البرلمان. وفي حالة ليبيا، فإن أغلب أطراف العملية السياسية التي أنتجت خريطة الطريق هم أصحاب مصالح مباشرة فى كل ما يتعلق ببنود خريطة الطريق وليس فقط الانتخابات. فعلى سبيل المثال، يفترض أن تمنع المادة 12 رئيس الوزراء من الترشح، لكنها لم تشر إلى حالة تقاعده التي استند إليها في تقديم أوراق الترشح. كما لا يمنع القانون رئيس البرلمان من الترشح رغم تعارض المصالح بحكم دوره في الإشراف على إدارة العملية التشريعية، بل إن العرف القانوني المستقر عليه هو أن رئيس السلطة التشريعية هو الأصلح لتولي المرحلة الانتقالية التي تنشب فيها أزمات مثل غياب الرئيس أو الظروف القاهرة.

إشكاليات رئيسية

هذه التطورات في مجملها تطرح سؤالاً مهما مفاده: هل الإشكالية تكمن في وضع “مانفستو” خريطة الطريق، أم أن السلوك أو الأداء التالي للأطراف هو المشكلة التي تقود إلى النتائج المتعثرة لعمليات الانتقال السياسي؟.

في واقع الأمر، لا يمكن الجدال في أنه من الصعب الفصل بين الأمرين. لكن من المؤكد أن “المانفستو” هو الذي يحدد قواعد اللعبة، بينما السلوك يعكس أسس الاشتباك السياسي، دون الخروج عن المسارات التي ترسمها خريطة الطريق. وعليه، فإن بنود خريطة الطريق هى التي تمثل دستور المرحلة الانتقالية، والمفترض أن تكون واضحة وحاسمة في المخرجات والآليات مبدئياً، وهو ما لم يحدث في معظم الحالات المتعثرة. فعلى سبيل المثال، يمكن الإشارة إلى أن مخرجات مؤتمرات برلين هى المبادىء الحاكمة لأسس وأهداف عملية الانتقال السياسي في ليبيا، لكن مخرجات لقاءات جنيف الصادرة عن الملتقى السياسي تشكل المرجعية السياسية التي تستند إلى تلك المبادئ. وعلى هذا النحو، تظهر فجوات أكبر عند التطبيق، يتمثل أبرزها في:

1- التعامل الانتقائي مع الاستحقاقات: وذلك في إطار سياسة ترحيل الملفات، حيث يركز الأطراف على العملية الانتخابية باعتبارها القول الفصل في عملية الانتقال السياسي مقابل تنحية باقي الاستحقاقات الأخرى، التي لا تقل أهمية عن الانتخابات، مثل الاستحقاقات الأمنية، كنزع أسلحة المليشيات، أو إنهاء الوجود العسكري الأجنبي، أو تقويض بيئة الإرهاب، أو الحد من التدخلات الخارجية.

2- غياب آليات معاقبة المُعرقلين: كشفت الممارسة العملية عن غياب آليات العقاب التي تضمن إقصاء المُعرقلين لتلك الاستحقاقات. فعلى سبيل المثال، اتجهت الولايات المتحدة الأمريكية من جانبها إلى الإعلان عن فرض عقوبات على مُعرقلي الانتخابات الليبية، تبعها الاتحاد الأوروبي. لكن لم تتشكل آلية أو يتم وضع إطار لذلك ضمن مقررات خريطة الطريق.

3- استبعاد بعض الأطراف الرئيسية: يتم في بعض الأحيان استبعاد طرف من المشاركين في إطار الممارسات السياسية أو التركيز على أطراف على حساب أطراف أخرى. وفي أحيانٍ أخرى، لا يتم استدعاء طرف للمشاركة في وضع تلك الخريطة، وهو ما يبدو جلياً في الحالة العراقية، حيث تم إطلاق عملية الانتقال السياسي بسبب “انتفاضة تشرين”، إلا أن رموزها لم يشاركوا في وضع آليات ومنهج تلك العملية.

4- تعدد المرجعيات السياسية الحاكمة: يفرض تعدد المرجعيات السياسية تعقيدات لا تبدو هينة. إذ يصعب في ظل هذه التعددية حسم المسئولية. فيمكن الإشارة إلى أن اتفاق وقف إطلاق النار في الحالة الليبية هو نقطة مرجعية في خريطة الطريق، لكن اللجنة العسكرية المشتركة تظل مجرد آلية تنسيق مشتركة وليست آلية تنفيذ في ملفات مثل عملية توحيد المؤسسة العسكرية، أو إجلاء المرتزقة الأجانب، أو فرض الأمن بشكل عام، في حين أن تلك المسئولية تقع على عاتق أطراف لديهم توجهات متباينة إلى حد كبير.

5- اختلاف منظور إدارة العملية السياسية: وذلك خلال المرحلة الانتقالية، ففي العراق، حذرت قوى سياسية معارضة رئيس الحكومة من الانخراط في الشأن العام والاقتصار على المسئولية عن العملية الانتخابية. بينما في ليبيا حدث العكس، حيث ركز رئيس الحكومة جهوده تدريجياً على استثمارها لاحقاً في العملية الانتخابية، على الرغم من أنه سبق وقدم تعهداً بعدم الترشح للانتخابات، لكن هذا التعهد لم يكن له أساس واضح في القوانين الانتخابية، وهى نقطة عوار أخرى.  

تجارب متعثرة

في النهاية، يمكن القول إن القصور في وضع مخرجات عمليات الانتقال السياسي بشكل محكم ودقيق ينعكس في النتائج والمخرجات المتعثرة، وهو ما تدل عليه التجارب الراهنة، وفقاً للقاعدة القائلة بأن المقدمات تقود إلى النتائج، وهو ما يقتضي أيضاً التفرقة بين لحظة مثالية، وهى الوصول إلى اتفاق سياسي، وبين لحظة الاختبار التي يفترض أن تظهر فيها نتائج التطبيق، وبين اللحظتين تظل هناك حاجة إلى قواعد ضابطة وحاسمة للعملية السياسية، تضع في اعتبارها ضرورة وجود مخارج وبدائل مختلفة يتم الانتقال إليها بمجرد ظهور الخلل حتى لا تتعثر العملية السياسية بمجرد الاصطدام بعراقيل كان من الممكن تفاديها لو كانت هناك بدائل متفق عليها.