كشفت التفاعلات الداخلية التي شهدتها دول عربية عدة، خلال الأسابيع القليلة الماضية، محورية الدور الذي تقوم به الجيوش الوطنية في مسارات متعددة، ومنها الحفاظ على استقرار وتماسك الدول الوطنية باعتبارها “العمود الفقري” لتلك الدول، والتصدي لخطر التنظيمات الإرهابية والجماعات المتطرفة و”العصابات الإجرامية”، وإخراج المجموعات المسلحة الأجنبية من البؤر الصراعية، وتحرير المناطق الجغرافية من سيطرة الميلشيات المسلحة، وتولي اختصاصات المحاكم المدنية في نظر الجرائم الخطرة، وإدارة المنظومة الصحية للتعامل مع تداعيات انتشار جائحة كوفيد-19 لاسيما في حال دخول البلاد “دائرة الخطر”، ومواجهة الكوارث الطبيعية ذات الطبيعة الفجائية.
وقد تعددت الإجراءات التي تقوم بها الجيوش الوطنية في سياقات مختلفة في المنطقة العربية، خلال ثلثى عام 2021، فيما يخص مواجهة التهديدات الإرهابية والاضطرابات الداخلية والضغوط الاقتصادية والكوارث الطبيعية والأزمات الصحية، وذلك على النحو التالي:
“عمود” الدولة
1- الحفاظ على استقرار وتماسك الدولة الوطنية: وهو ما كشفت عنه الأزمات الداخلية والتحديات الخارجية التي تعرضت لها دول عربية، على مدى عقد كامل، إذ أن الدول التي شهدت انقسامات داخل جيوشها تحول فيها الحراك الثوري إلى الصراع المسلح الممتد، أو واجهت مشكلات في إدارة تعقيدات المرحلة الانتقالية بعد سقوط النظم الحاكمة، أو فرض عليها تحمل فاتورة فشل النخب السياسية في إدارة التوافقات. وفي هذا السياق، ثمّن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي – خلال استقباله في 28 يوليو الفائت العماد جوزيف عون قائد الجيش اللبناني- الدور الأساسي الذي يقوم به الجيش اللبناني الوطني للحفاظ على الاستقرار والتوازن في لبنان، وذلك في إطار ما تمثله الجيوش الوطنية كعمود فقري ضامن لتماسك واستقرار الدول.
وهنا، برز الدور الذي قام به الجيش اللبناني، في بداية أغسطس الجاري، لاحتواء “فتنة خلدة” جنوب العاصمة اللبنانية، التي شهدت اشتباكات مسلحة بين عشائر سنية ومؤيدين لحزب الله، أدت إلى سقوط قتلى وجرحى، بعد إطلاق نار على موكب تشييع عضو ما يعرف بـ”سرايا المقاومة” بالحزب قتل في حادثة ثأرية، مما يشير إلى التداخل بين الأبعاد الطائفية والنزعات الثأرية، وهو ما يؤثر على الاستقرار داخل لبنان، التي تواجه فراغاً سياسياً وتأزماً اقتصادياً حاداً، فضلاً عن مرور عام على انفجار مرفأ بيروت، ولاتزال الحصانة السياسية تعرقل التحقيقات التي تخص المرفأ، الأمر الذي يجعل الجيش الوطني اللبناني الملاذ الأخير للحفاظ على الاستقرار، وهو ما عبر عنه قائده جوزيف عون بقوله أنه “خلاص هذا الوطن” في الذكرى الـ76 لتأسيسه.
كما ظهرت تصريحات على لسان قيادات عربية أخرى تعبر عن محورية دور الجيوش في الحفاظ على بقاء واستقرار الدول الوطنية العربية من أية تحديات داخلية أو مهددات خارجية، تحيط بها من كل اتجاه. وفي هذا السياق، قال الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون في تصريحات لصحيفة “النهار” الجزائرية بتاريخ 8 أغسطس الجاري أن “الجيش هو الضامن دستوريا”، ووصفه بـ”العمود الفقري للدولة”، وهو ما جاء في سياق اتهامه أطرافا، لم يسميها، بالسعي لضرب لحمة الجزائريين.
مجابهة الإرهاب
2- التصدي لخطر التنظيمات الإرهابية والجماعات المتطرفة: والتي صارت أحد المهددات الرئيسية لأمن الدول واستقرار المجتمعات، وهو ما يعبر عنه بوضوح نجاح الجيش المصري في ملاحقة ودحر العناصر الإرهابية على جميع الاتجاهات الاستراتيجية للدولة، وتنفيذ العديد من العمليات النوعية، وكان آخرها العملية التي أسفرت عن مقتل 89 تكفيرياً شديد الخطورة بشمال سيناء، فضلاً عن ضبط 73 بندقية آلية و140 خزنة و5606 طلقات متعددة الأعيرة، و34 جهازاً لاسلكياً وطائرة درون مجهزة بكاميرا للتصوير وجهاز رؤية ليلية بالإضافة إلى جهاز كمبيوتر محمول، ومجموعة من المبالغ المالية وفقاً لما تم الإعلان عنه في بيان للجيش المصري في أول أغسطس الجاري.
كما أسفرت الجهود عن اكتشاف وتدمير 404 عبوات ناسفة على المحاور والطرق الرئيسية و4 أحزمة ناسفة، وتدمير 59 دراجة بخارية و52 عربة تستخدمها العناصر التكفيرية في تنفيذ العمليات الإرهابية. وتزامن ذلك مع ما قامت به القوات الجوية المصرية من توجيه ضربات استباقية للعناصر الإرهابية، عبر رصد واستهداف وتدمير 200 عربة دفع رباعي بعضها محمل بالأسلحة والذخائر، أثناء محاولاتها اختراق المناطق الممنوعة على الحدود الغربية والجنوبية للبلاد. كما أن تلك الإجراءات تتزامن مع قيام القوات البحرية بتكثيف أعمالها القتالية وحماية الأهداف الاستراتيجية وتأمين المصالح الاقتصادية المصرية.
طرد المرتزقة
3- إخراج المجموعات المسلحة الأجنبية من البؤر الصراعية، التي تمثل أحد العوائق الرئيسية للانتقال من اشتعال الصراع إلى بناء السلم: يدعو الجيش الليبي، على لسان قائده خليفة حفتر وبعض أعضاء اللجنة العسكرية “5+5″، إلى ضرورة إخراج قوات المرتزقة والمقاتلين الأجانب من كافة التراب الوطني الليبي، بهدف تحقيق الاستقرار الداخلي وإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسة المقررة في ديسمبر المقبل، حيث قال حفتر في 30 يوليو الفائت: “إن بلوغ السلام العادل الشامل الذي نعمل من أجل تحقيقه لن يتحقق ما لم تغادر جميع القوات الأجنبية الأراضي الليبية مغادرة غير مشروطة عاجلاً وليس آجلاً”، وهو ما تدعمه رؤى إحدى القوى الإقليمية الرئيسية وتحديداً مصر.
مواجهة الميلشيات
4- تحرير المناطق الجغرافية من سيطرة الميلشيات المسلحة: تخوض قوات الجيش اليمني مواجهات عسكرية لتحرير مناطق استراتيجية في مواجهة ميلشيا الحوثي، واستعادة الأسلحة والذخائر المتنوعة، على نحو ما تعبر عنه جبهة رحبة جنوب غرب محافظة مأرب، التي تنبع أهميتها من وجود النفط والموارد الاقتصادية، كما تربط بين ثلاث محافظات رئيسية وهي الجوف وشبوة والبيضاء، وترتبط جغرافياً بالسعودية. ومن ثم، تدرك ميلشيا الحوثي محوريتها في حال السيطرة عليها بعد الانتقال إلى المفاوضات بالرعاية الأمريكية، إذ أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تركز على أهمية حل الصراع اليمني.
الجرائم المدنية
5- تولي اختصاصات المحاكم المدنية في نظر الجرائم الخطرة: وقّع الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، في 13 يونيو الماضي، مرسوماً يتعلق باستحداث مصلحة مركزية للشرطة القضائية لجهاز أمن الجيش، الذي يتبع رئاسة أركان الجيش، وصار من اختصاص جهاز أمن الجيش “الجرائم الماسة بأمن الدولة”، و”الجرائم الموصوفة بأفعال إرهابية وتخريبية”، و”جرائم الإتجار بالمخدرات والمؤثرات العقلية”، و”جرائم تهريب الأسلحة”، و”جرائم تهريب المهاجرين”، و”جرائم المساس بأنظمة المعالجة الآلية لمعطيات الجيش الوطني الشعبي، وكل الجرائم الأخرى التي تمس أو التي تلحق ضرراً بالجيش.
ووفقاً للمرسوم الرئاسي، فإن الاختصاصات الجديدة التي منحت للشرطة القضائية لأمن الجيش تؤهلها لتلقي البلاغات والشكاوي وإجراء تحقيقات بشأنها. كما تتيح لها جمع الأدلة عن الجرائم الآيلة لاختصاصاتها، والبحث عن مرتكبيها، مادام لم يفتح بشأنها تحقيق قضائي. واللافت للنظر أنه في الوقت الذي تمنح بعض اختصاصات المحاكم المدنية لجهاز أمن الجيش الجزائري، تتزايد الاتهامات الموجهة لنشطاء الحراك المدني الذي شهدته البلاد منذ عامين ونصف، والتي تتعلق بالمس بالنظام العام، وتهديد الوحدة الوطنية، والتحريض على الكراهية.
الدعم الطبي
6- إدارة المنظومة الصحية للتعامل مع تداعيات انتشار الجائحة: قامت الجيوش النظامية في دول عربية عديدة بأدوار مختلفة ومترابطة في الوقت ذاته للحد من مخاطر كوفيد-19. وتزداد أهمية تدخل الجيش في حال انهيار المنظومة الصحية العامة، على نحو ما شهدته تونس منذ أسابيع في أعقاب انتشار الموجة الرابعة للفيروس، حيث قام الجيش التونسي – بناءً على تكليف من الرئيس قيس سعيّد- بمعالجة الوضع الصحي المأزوم من خلال تطعيم المواطنين في المناطق الفقيرة بالتنسيق مع القطاع الطبي، وكذلك إنشاء مستشفيات عسكرية ميدانية جديدة في معظم المحافظات التونسية.
كما قام الجيش التونسي في فترات سابقة بتسيير دوريات عسكرية بجانب قوات الأمن الداخلي لفرض حظر التجوال في المناطق التي ينتشر فيها فيروس كورونا ونقل الطواقم الصحية للأطباء والممرضين، فضلاً عن مهمة التوعية الصحية العامة. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى تصريح الرئيس قيس سعيد في 8 أغسطس الجاري اثناء زيارته لأحد مراكز التلقيح ضد فيروس كورونا، مع انطلاق الحملة القومية ضد الفيروس، “أشكر القوات المسلحة العسكرية والأمنية، أقول إنكم تصنعون تاريخا جديدا لتونس”، مضيفا “لا تتراجعوا أبدا للوراء حتى تستعيد تونس مكانتها بين الأمم ولا تكون لقمة سائغة أو دمية يحركها البعض”.
الإغاثة العاجلة
7- مواجهة الكوارث الطبيعية: تعد الإغاثة من الكوارث إحدى المهام الرئيسية للقوات المسلحة في أى دولة، حيث أخمدت الطوافات التابعة للجيش اللبناني الحرائق الضخمة التي اشتعلت، في نهاية يوليو الفائت، في شمال لبنان، فضلاً عن تبريد مناطق أخرى يُحتمل أن تندلع فيها النيران (البؤر الساخنة)، حيث لا توجد إمكانية لسيارات الإطفاء لبلوغها، تخوفاً من تجدد اشتعال النار وسط ارتفاع كبير بدرجات الحرارة، وهو ما حدث بالتعاون مع فرق الجيش والدفاع المدني والمتطوعين الذين عملوا على منع تمددها إلى محيط المنازل السكنية. ولهذا، طلب وزير الزراعة في حكومة تصريف الأعمال عباس مرتضى من وزيرة الدفاع زينة عكر، تكثيف عمل المروحيات في عمليات الإطفاء، خاصة في منطقة البستان، في شمال شرق لبنان. وهنا، تجدر الإشارة إلى خروج الحرائق عن السيطرة في منطقة جبل أكروم عند الحدود الشمالية الشرقية مع سوريا، بما يعكس انتقال “كرة النار” من منطقة لأخرى، ومن دولة لأخرى.
مهام مُلِحَّة
خلاصة القول، إن أدوار المؤسسات العسكرية في المنطقة العربية مُلِحَّة ومتعددة، سواء فيما يتعلق بدرء المخاطر القادمة عبر الحدود غير المسيطر عليها من دول الجوار، في الوقت الذي تزداد تهديدات التنظيمات الإرهابية والجماعات المتطرفة والميلشيات المسلحة، والتي تتمتع بمقومات تسليحية ولوجستية أهلتها لمقاومة الجيوش مما يستلزم تطوير القدرات العسكرية والبشرية للأخيرة، أو التلويح باستخدام القوة في حال حدوث اشتباكات بين جماعات مسلحة، أو تأمين المؤسسات الحيوية وحرية الملاحة البحرية، أو القيام بإنقاذ بلاد من الانهيار في ظل غياب حكومة فاعلة وأزمات مالية واقتصادية حادة، أو التدخل للحد من التهديدات الصحية ومواجهة الكوارث الطبيعية المفاجئة والحوادث المروعة. فالكلمة الكودية لتفاعلات المنطقة العربية تشير إلى “الجيوش أولاً” لأنهم طوق نجاة للدول في لحظة الخطر.