أدت الحرب الروسية الأوكرانية إلى أن تقرر موسكو تخفيض مستوى حضورها العسكري داخل الأراضي السورية. وفي المقابل، تسعى إيران إلى أن تستحوذ على تلك المساحات الفارغة الجديدة، وأن تحل محل القوات العسكرية الروسية؛ وذلك بغية أن تسيطر على القرار السياسي والاقتصادي أيضاً في سوريا خلال السنوات المقبلة. ومع ذلك فإن الأمور قد لا تسير على هذا المنوال كما تتوقع إيران؛ إذ إن الانسحاب الروسي سوف يقود إلى نمو أنشطة وتحركات الجماعات الإرهابية في سوريا. ونظراً لعدم امتلاك إيران القدرات العسكرية اللازمة، خاصة الجوية، فإنها قد لا تستطيع حسم المواجهة مع هذه الجماعات، مما يعني انزلاق سوريا إلى فوضى أمنية شاملة من جديد.
وإذا حدث هذا، فإن الأمر لن ينحصر فقط على سوريا، إذ إن موجة الإرهاب هذه سوف تمتد لتشمل مناطق أخرى في إقليم الشرق الأوسطـ. وأخذاً في الحسبان أنّ تمدد الجماعات الإرهابية في سوريا سيتبعه تحولٌ مماثل في العراق، كما أنه عند النظر إلى مستقبل الأوضاع في أفغانستان فهناك احتمالية لحدوث مواجهة بين حركة “طالبان” والقوميات والطوائف المناهضة لحكمها، فضلاً عن انشغال الغرب بالحرب الأوكرانية؛ فإن ذلك الانسحاب الروسي من سوريا سوف يُلقي بظلاله بشكل جدي على الأمن الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط، وليس فقط على سوريا.
في عددها الصادر يوم 22 مايو 2022، أقرّت صحيفة “جوان” الإيرانية المحافظة، والمقربة من الحرس الثوري، في صفحتها الأولى بأن “حزب الله يحلّ محل الروس في سوريا”، وأن التصعيد الإسرائيلي ضد العناصر الإيرانية في سوريا خلال الأسابيع الأخيرة، واستخدام إسرائيل لصواريخ (أرض-أرض) بدلاً من (جو-أرض)، له علاقة بانسحاب القوات الروسية الملحوظ من الأراضي السورية كإحدى تبعات اندلاع الأزمة الأوكرانية.
ولم يكن هذا الاعتراف الإيراني وحده هو الكاشف عن تلك التحولات الجارية في سوريا على المستوى العسكري بعد 24 فبراير الماضي، حيث إن تقارير دولية أخرى أشارت من قبل إلى هذا الأمر، كما أن العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني قد لفت في منتصف الشهر الجاري إلى أن الحضور الروسي في جنوب سوريا كان مصدراً للتهدئة، موضحاً أن الفراغ الذي ستتركه موسكو ستملؤه إيران ووكلاؤها.
ومع ذلك، فإن استمرار الانسحاب الروسي من سوريا، أو حتى اتخاذها موقفاً غير نشط هناك، لا يُعد أمراً يخص سوريا وحدها، بل ومنطقة الشرق الأوسط؛ لأن تداعيات ذلك سوف تَعْبر الحدود السورية، على نحو ما توضحه الأبعاد التالية:
سيناريو ما قبل 2019
1- عودة الجماعات الإرهابية لتتصدر المشهد السوري: شكّل الحضور الروسي في سوريا عاملاً مهماً للغاية عند الحديث عن هزيمة الجماعات الإرهابية هناك وعلى رأسها تنظيم “داعش”. فقد كان سلاح الجو الروسي أكثر حسماً في هذه المعارك من الحرس الثوري الإيراني الذي لم يكن لديه سوى نشاط بري على الأرض. أما مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية الأخيرة، فقد وجدت الجماعات الإرهابية الساحة مهيأة مرة أخرى لتتنفس الصعداء بعد أعوام ثلاثة من انحسار أنشطتها، حيث وجدت القوات الروسية تنسحب من بعض المناطق لتتركها إما للقوات السورية أو الإيرانية. وبالتزامن مع ذلك، تمثل أول مؤشرات تصاعد حدة النشاط الإرهابي في سوريا خلال شهر مارس الماضي حينما شن تنظيم “داعش” عدة هجمات في سوريا أدت إلى مقتل مدنيين وعسكريين.
ويبدو أن الجماعات الإرهابية الأخرى، التي لا تزال نشطة أيضاً في سوريا، تخطط لتصعيد عملياتها هي الأخرى خلال الأيام المقبلة، وذلك بعدما كشفت مصادر مطلعة يوم 22 مايو 2022 أن جماعة “هيئة تحرير الشام” الإرهابية تخطط للتوسع داخل الأراضي السورية. ولا تعني هذه التحركات، وغيرُها، سوى أن الفراغ الروسي سيملؤه الإرهابيون في سوريا.
صراع إيراني تركي
2- عدم قدرة إيران وحدها على مواجهة الجماعات الإرهابية في سوريا: من المرجح أن تتصاعد من جانب آخر حدةُ الصراع والتنافس الإيراني التركي على مناطق النفوذ في سوريا فيما بعد اتضاح مدى الانسحاب الروسي من سوريا وتخلية موسكو لبعض القواعد العسكرية، حيث ستسعى تركيا إلى توسيع مجال نفوذها في الشمال، خاصة في المناطق التي يقيم فيها الأكراد، بينما ستجد طهران الباب مفتوحاً كي تعزز من قواتها العسكرية ومناطق التمركز والسيطرة في مختلف أنحاء سوريا، خاصة في المناطق الشرقية الحدودية مع العراق وفي الجنوب الموازي لإسرائيل.
وسوف يسرّع من بدء هذا النزاع بين طهران وأنقرة رغبة الأخيرة في توطين مليون لاجئ سوري في المناطق الخاضعة لنفوذها في شمال سوريا، وهو ما يرفضه الأكراد. ولهذا السبب، طالب الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بدعم حلف شمال الأطلنطي “الناتو” له لإقامة “مناطق آمنة” على حدود بلاده الجنوبية مع سوريا، مما ينذر باحتمالية أن يشهد الشمال السوري عمليات ومعارك واسعة جديدة.
وبينما تسعى تركيا لتنفيذ خطتها شمالاً، يُتوقع أن تنخرط إيران في المستقبل القريب جنوب ووسط وشرق سوريا في مواجهات مع الجماعات الإرهابية مثل تنظيم “داعش” أو غيره، وذلك بعد نموهم وتصاعد نفوذ طهران إثر تراجع الاهتمام الروسي، حيث ستتضارب أهداف الطرفين داخل الأراضي السورية.
وعند الحديث عن افتقاد الإيرانيين للسلاح الجوي في سوريا، سنجد أن المعارك بينهم وبين الجماعات المُشار إليها ستتسع إلى نطاق جغرافي واسع ومدى زمني طويل، وقد لا تستطيع طهران وحدها حسم هذا الموقف لصالحها أو تحقيق انتصار واضح على هذه الجماعات، للسبب المُشار إليه آنفاً.
انسحاب غربي
3- انشغال أمريكي أوروبي بالجبهة الأوكرانية: شدد التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش” الإرهابي خلال اجتماع له في شهر مايو 2022 في المغرب على أن ضمان الهزيمة الدائمة للتنظيم في العراق وسوريا أولوية بالنسبة له. وأكد بيان الاجتماع على “تصميم التحالف على مواصلة القتال عبر كل الجهود العسكرية وتلك التي يقودها المدنيون”.
ومع ذلك، وفي ظل الحرب الروسية الأوكرانية الدائرة رحاها في أوروبا منذ فبراير الماضي، يُثار التساؤل هنا بشأن مدى إمكانية مواصلة الولايات المتحدة والأوروبيين لدورهم الإيجابي في مكافحة الإرهاب في سوريا في ظل تداعيات الأزمة الأوكرانية وغموض مستقبل الحرب مع روسيا، في الوقت الذي تبدو فيه هذه الأزمة مرشحة لمزيد من التصعيد مع رفض موسكو انضمام السويد وفنلندا لحلف “الناتو”. إذن، سوف يصبح التساؤل هنا: ما مدى قدرة التحالف الدولي ضد تنظيم (داعش) الإرهابي على الاستمرار في دوره داخل سوريا بعد اندلاع الأزمة الأوكرانية؟.
أفغانستان والعراق
4- جرس إنذار لأمن الشرق الأوسط: أخذاً في الحسبان العوامل السابقة، سنجد أن الوضع الأمني في سوريا قد ينهار في وقت قريب في ظل الانسحاب الروسي والمؤشرات الواضحة المتزامنة لعودة تحركات وأنشطة الجماعات الإرهابية بكثافة. وإذا ما حدث ذلك السيناريو، فإن إقليم الشرق الأوسط برمته قد لا يكون بمعزل عن هذه الاضطرابات الأمنية.
فقد ألمح العاهل الأردني، على سبيل المثال كما سبقت الإشارة، إلى أن أمن بلاده قد يتأثر بهذا الانسحاب الروسي من سوريا وملء الإيرانيين للفراغ الناجم عن ذلك. وعلى هذا النحو، قد تتأثر بلدان عدة أخرى، خاصة البلدان المجاورة، حيث لن يتأثر الأردن بمفرده بالطبع جرّاء أي فوضى كبرى جديدة في سوريا تُحدثها الجماعات الإرهابية، وذلك على غرار ما حدث في المنطقة قبل إلحاق هزائم كبرى بهذه التنظيمات قبل سنوات.
ويعزز هذا السيناريو من زاوية أخرى ما يلي:أن انتشار التنظيمات الإرهابية في سوريا سيتبعها انتشار مماثل في العراق المجاور، مما يعني تهديداً محتملاً لأمن الدول الواقعة على الخليج العربي. وكذلكاتجاه الأوضاع في أفغانستان إلى مزيد من التدهور الأمني بعد حالات السخط والمعارضة المحلية الواسعة من جانب بعض القوميات والطوائف ضد حكم حركة “طالبان” التي استولت على العاصمة كابل في أغسطس 2021.
علاوةً على سعي إيران لتحقيق المزيد من الانتشار ليس فقط في سوريا، بل في مناطق متعددة داخل إقليم الشرق الأوسط، وذلك انطلاقاً من توقعها حدوث انفراجة اقتصادية بعد التوصل لاتفاق نووي تشمل الحصول على مليارات من الدولارات المجمدة في الخارج، والتي من المرجح أن تستخدمها في تعزيز قواتها العسكرية. وسيزيد هذا من احتمالات تصاعد المواجهات في الإقليم بوجه عام.
ويقودنا كل هذا بالتالي إلى أن الشرق الأوسط قد يشهد خلال المرحلة المقبلة تمركزات كبرى لمختلف الجماعات الإرهابية في دولتين اثنتين، على وجه الخصوص، هما سوريا وأفغانستان، وتتواصل هذه الجماعات ببعضها بعضاً، مما يعني أنها قد تُنشئ خطاً برياً لنقل أعضائهم بين الدولتين. وستفرِخ هذه التمركزاتُ في النهاية موجةً جديدة من الإرهاب في الإقليم، فبعدما كانت المنطقة في وقت من الأوقات تشهد تمركزاً واحداً بارزاً وكبيراً للإرهابيين صارت الآن على موعد مع تفجر بؤر أخرى خلال الأيام المقبلة.
فوضى شاملة
خلاصة القول، لا تكمن تداعيات الانسحاب الروسي من سوريا على أمن الأخيرة فقط، بل إنها سوف تمتد لتشمل العديد من دول الشرق الأوسط؛ لأن استعادة الجماعات الإرهابية لنفوذها ما قبل عام 2019 في سوريا، سيقود إلى توسعها أيضاً في الإقليم. ويدعو هذا بالتالي دول الإقليم على الأقل لمعالجة هذا الانسحاب الروسي من سوريا، ووضع بدائل قوية لمنع الانزلاق إلى الفوضى الأمنية الشاملة مرة أخرى في سوريا.