تعزيز التهدئة:
كيف ستتعامل تركيا مع الرئاسة الفرنسية للاتحاد الأوروبي؟

تعزيز التهدئة:

كيف ستتعامل تركيا مع الرئاسة الفرنسية للاتحاد الأوروبي؟



تشهد العلاقات التركية الفرنسية خلال المرحلة الراهنة بعض المخاطر المحتملة، بعد تولي باريس، في 1 يناير الجاري، رئاسة الاتحاد الأوروبي، ويأتي على رأسها إعلان الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”، في 8 يناير الجاري، عن رفض بلاده لحاق تركيا بالعضوية الأوروبية بسبب تعارض المشروع السياسي للرئيس “رجب طيب أردوغان” مع القيم الأوروبية. كما اتهم “ماكرون” سياسات نظيره التركي بأنها تساهم في انتشار الإسلام على نطاق واسع بالعديد من البقع الجغرافية. وتتزامن رئاسة باريس للدورة الحالية للاتحاد، مع توجه عدد من دول حلف الناتو، وفي الصدارة منها الدول الأوروبية، نحو حظر بيع أسلحة لتركيا، وكذلك وقف توريد مكونات دفاعية تلزم هيئة الصناعات الدفاعية التركية.

في هذا السياق، قد تفرض الرئاسة الفرنسية للاتحاد الأوروبي خلال الأشهر الستة المقبلة تداعيات محتملة على العلاقات التركية الأوروبية بشكل عام، وعلى مسارات لحاقها بالاتحاد الأوروبي بالأخص. إذ تبدو فرنسا ملتزمة ببناء سياسات أوروبية موحدة ضد الممارسات التركية المتعارضة مع المصالح الأوروبية، بالتوازي مع سعيها إلى تعزيز علاقاتها الاقتصادية والعسكرية مع اليونان وقبرص، خَصْمَيْ تركيا في شرق المتوسط.

وعلى الرغم من حرص أنقرة على التماهي مع جانب من السياسات الأوروبية، والتوجه نحو خفض التصعيد مع الاتحاد بشأن القضايا الخلافية؛ فإن ذلك لا ينفي أن الرئاسة الفرنسية للاتحاد الأوروبي قد تؤدي إلى اتّساع نطاق الخلافات بين أنقرة وباريس من جهة، وأنقرة والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى.

مؤشرات مختلفة

إنّ تولِّي فرنسا رئاسةَ الاتحاد الأوروبي في ظل تصاعد انخراطها في شرق المتوسط، وفي الأزمة السورية، والمشهد الليبي، على نحو لافت خلال الشهور الأخيرة، في إطار سعي فرنسا إلى تعزيز مكانتها ودورها الدولي؛ قد ينعكس بصورة سلبية على واقع ومستقبل العلاقة بين تركيا ومحيطها الأوروبي، وهو ما يبدو جلياً في مؤشرات عديدة يتمثل أبرزها في:

1- انتقاد التوجهات الدينية للرئيس “أردوغان”: استدعت تصريحات الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”، يوم 7 يناير الجاري، حول رفضه لحاق تركيا بالاتحاد الأوروبي بسبب تبني تركيا سياسة عدوانية، ومساعي الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” لتنفيذ مشروع لتوسيع الإسلام السياسي لا يتوافق مع القيم الأوروبية؛ عدداً من القضايا الإشكالية. فقد أعاد إلى الواجهة مجدداً الصراع السياسي بين باريس وأنقرة، وأكد إصرار باريس على محاصرة ما تسميه مشروع إحياء الإمبراطورية العثمانية. وبالرغم من أن “ماكرون” حاول تخفيف حدة هذا الخطاب من خلال الإشارة إلى إظهار حرصه على أن تكون لتركيا علاقة مع الاتحاد الأوروبي، والتمسك بقيمه؛ إلا أن الخطاب جاء كاشفاً عن عمق الصراع الهوياتي بين أوروبا المسيحية وتركيا الإسلامية.

2- ضبط تدفقات الهجرة غير الشرعية: يُعتبر ملف الهجرة غير الشرعية من أهم الأسباب التي ربما تدفع باريس لضرورة إعادة صياغة العلاقة مع تركيا، التي لا تزال تتعرض لانتقادات أوروبية وفرنسية بسبب استغلالها أزمة اللاجئين كورقة لتصفية بعض المسائل الخلافية مع أوروبا. وقد كشفت تصريحات فرنسية أن باريس قد تنتهج سياسة جديدة إزاء هذا الملف، وظهر ذلك في إعلان وزير الشؤون البرلمانية الفرنسي “مارك فينو” في 7 يناير الجاري أمام الجمعية الوطنية، أن بلاده التي تولت لتوها الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، تأمل في تعزيز الإجراءات على الحدود الخارجية للاتحاد من خلال إصلاح عميق لمواجهة عودة تدفق المهاجرين.

كما يُتوقع أن تتجه باريس، بحسب تصريحات الوزير المكلف بإدارة العلاقة مع البرلمان، نحو بناء اتفاق جديد يتضمن إقامة عمليات “فلترة إجبارية” على الحدود تسمح بتحديد هوية اللاجئين، فضلاً عن وضع حدٍّ للثغرات الموجودة في “تسوية دبلن” التي تجعل أول دولة يُسجَّل فيها المهاجر، البلد المسؤول عنه. لذلك تعتقد باريس أن حسم أزمة اللاجئين والهجرة التي لا تزال تؤرق أعصاب الاتحاد وتزيده انغماساً في همه الداخلي، وتزعزع استقرار دوله؛ تتطلب تحقيق التضامن مع بلدان الصف الأول مثل إيطاليا أو اليونان مقابل مواجهة حاسمة مع الدول التي تسعى لابتزاز الاتحاد، في إشارة لتركيا.

3- زيادة مساحة التنسيق الفرنسي الألماني: تتجه باريس إلى زيادة مساحات التنسيق مع ألمانيا من أجل تعزيز مرونة وتماسك الاتحاد الأوروبي، خاصةً في مرحلة ما بعد ميركل، ووصول حكومة جديدة يحمل بعض أطرافها توجهات سلبية ضد تركيا. وتتقاطع الحكومة الألمانية الجديدة مع باريس حول ضرورة التزام تركيا برعاية المصالح الأوروبية، والالتزام بالقواعد الدستورية المنظِّمة لعددٍ من المؤسسات الأوروبية التي نالت تركيا عضويتها، ومنها المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. وفي سياق آخر، من المرجح أن يمارس الاتحاد في ظل رئاسة فرنسا، وتوجهها نحو التنسيق مع ألمانيا، ضغوطاً على أنقرة تجاه القضايا الخلافية، والملفات الشائكة، وفي الصدارة منها قضية الهجرة واللجوء.

4- مواجهة النفوذ التركي شرق المتوسط: مع استمرار تصاعد التوتر شرق المتوسط بسبب تحركات تركيا للتنقيب عن مكامن الطاقة، قد تسعى فرنسا خلال رئاستها الدورة الحالية للاتحاد إلى تبني نهج جمعي يعمل على بناء موقف أوروبي موحد ضد تحركات تركيا في حوض المتوسط، خاصة وأن الأخيرة تتحرك بشكل غير قانوني قبالة سواحل اليونان -الدولة العضو في الاتحاد- من وجهة نظر باريس. كما يتوقع أن تتجه باريس نحو تكثيف الضغوط على الممارسات التركية خلال الفترة القادمة، وحشد المواقف الأوروبية الداعمة لقبرص واليونان في مواجهة التحركات التركية غير القانونية.

وكانت باريس قد وقّعت مع أثينا في سبتمبر الماضي اتفاقية شراكة استراتيجية أثارت غضب أنقرة. وضمّت الاتفاقية العديد من البنود التي شملت جوانب السياسة الخارجية، والتدريب المشترك، وتبادل الخبرات الفنية والمعلوماتية الاستخباراتية، ومشاريع التصنيع الدفاعي المشترك. وأبرز ما ميّز هذا الاتفاق التعاون في مجال “الدفاع المشترك” بين البلدين في حال تعرض أي بلد منهما للاعتداء.

ومن هنا، فإن سياسة الرئيس “ماكرون” البراجماتية على المستوى الخارجي، تدرك أن رئاسة فرنسا للدورة الحالية للاتحاد الأوروبي تُمثل فرصة لإعادة صياغة الموقف الأوروبي تجاه المصالح في منطقة شرق المتوسط، ناهيك عن أن هذه المنطقة باتت تحمل أولوية لأوروبا عموماً، وفرنسا خصوصاً، التي تراهن على استثمار فترة رئاستها لمحاصرة النفوذ التركي.

ترطيب العلاقة

يُشكل الاتحاد الأوروبي أهمية استراتيجية لتركيا في ظل تصاعد حدة الأزمة الاقتصادية، وتدهور سعر صرف الليرة التركية، حيث لم تسفر التوجهات الجديدة للسياسة الخارجية التركية التي تستهدف خفض التصعيد، وترميم العلاقة مع المنافسين، عن تحولات جذرية، أو نتائج عملية ملموسة. كما يسعى النظام التركي الذي يعاني تراجعاً حاداً في الداخل، إلى ترطيب علاقاته مع الخارج، وتكريس سياسة الانفتاح مع محيطه الدولي والإقليمي، لتحقيق انتصار خارجي قبل العملية الانتخابية المقرر لها العام المقبل.

لذلك، يُتوقع أن تسعى أنقرة إلى تعزيز التهدئة تجاه السياسات السلبية المحتملة للاتحاد في فترة الرئاسة الفرنسية، من خلال توسيع نطاق علاقاتها السياسية مع أصدقاء أنقرة في الاتحاد، وبخاصة إسبانيا التي أكد رئيس حكومتها في نوفمبر الماضي عشية حضوره القمة السابعة بين تركيا وإسبانيا، أن انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي له أهمية قصوى لكل من الاتحاد وتركيا. وأضاف رئيس الوزراء الإسباني: “ستستفيد المناطق المجاورة لأوروبا من عضوية تركيا في الاتحاد”. كما اتجهت أنقرة مؤخراً إلى تعزيز علاقاتها العسكرية مع مدريد، حيث أعلن الرئيس التركي في نوفمبر الماضي، أن بلاده بنت حاملة طائرات مع إسبانيا، فضلاً عن إجراء البلدين مناورات عسكرية مشتركة في أغسطس الماضي في بحر إيجه.

وبالتوازي مع ذلك، تسعى أنقرة إلى تعزيز مساحات التفاهم مع اليونان، وهو ما أكدته تصريحات وزير الدفاع التركي “خلوصي آكار”، في 7 يناير الجاري، عندما قال: “إن تركيا ترغب في تسوية النزاع مع جارتها اليونان، وهي عضو أيضاً في الناتو، من خلال الحوار وتحويل بحر إيجه إلى (بحر صداقة)”.

في المقابل، وتحت وطأة أزمتها الاقتصادية، وحاجتها إلى الاستثمارات الأجنبية في المرحلة الحالية، قد تتجه أنقرة إلى ترطيب العلاقة مع باريس التي تقود الاتحاد الأوروبي، سواء بالصمت تجاه التصريحات التي يطلقها الرئيس الفرنسي بين حين وآخر ضد النظام الحاكم في تركيا، أو الرد بدبلوماسية ناعمة تحفظ ماء وجه تركيا من دون دخول العلاقة مناخ الشحن مع باريس، وهو ما يوحي في النهاية بأن تركيا تسعى إلى تأمين علاقتها مع الاتحاد الذي يمثل عمقاً سياسياً لتركيا، وأهم سوق للصادرات التركية.

ارتدادات سلبية

ختاماً، يمكن القول إن الرئاسة الفرنسية للاتحاد الأوروبي، قد تحمل ارتدادات سلبية على تركيا، في ظل استمرار القضايا الخلافية بين أنقرة والاتحاد الأوروبي من جهة، وتصاعد التوتر المكتوم بين باريس وأنقرة من جهة أخرى، والذي وصل إلى حدّ التلاسن بين “أردوغان” ونظيره الفرنسي في العام الماضي. غير أن أنقرة قد تتجه بدورها إلى حلحلة القضايا العالقة مع فرنسا، وضبط التوتر إزاء الملفات الشائكة مع الاتحاد، خاصة أن تركيا تعاني جملة من الأزمات السياسية والاقتصادية المركبة التي ربما تمنعها من التعامل بحدة مع أية توجهات عدائية محتملة قد تُمارَس ضدها خلال رئاسة فرنسا للاتحاد الأوروبي في دورته الحالية.