كانت آلية الثُلث المُعطِّل سمة رئيسية في التفاعلات التي تجري على الساحة السياسية في لبنان، إلا أنها تجاوزتها وامتدت إلى دول عربية أخرى، في ظل محاولات بعض القوى السياسية في تلك الدول استنساخ هذه الآلية، أو حتى طرح بعض الآليات الشبيهة التي تستهدف -بشكل أو بآخر- منح وضعية سياسية مميزة. صحيح أن اتجاهات عديدة تعاطت مع الثُلث المُعطِّل كأداة لإدارة العملية السياسية وضمانة ضد هيمنة بعض الأطراف السياسية على العملية السياسية، إلا أنه تحول في مرحلة ما إلى جزء من التجاذبات السياسية التي شهدتها العديد من الدول بالمنطقة خلال السنوات الأخيرة، وخاصة مع التحولات التي طرأت على المنطقة في مرحلة ما بعد ما يسمى بـ”الربيع العربي”، خصوصاً في ظل الجهود التي بُذلت لإعادة هيكلة وهندسة العملية السياسية ومطالبة بعض الأطراف بامتيازات سياسية معينة.
دافِعان رئيسيان
على مدار السنوات الماضية، شكلت آلية الثُلث المُعطِّل محدِّداً هاماً من محددات العملية السياسية اللبنانية. إذ تم الاستناد إليها تاريخياً كضمانة لبعض قوى المعارضة للحفاظ على دورها في العملية السياسية في مقابل الأغلبية، وهو الأمر الذي ارتبط بصورة رئيسية بطبيعة النظام السياسي والتوازنات الطائفية التي أنتجها اتفاق الطائف. لكن اللافت للانتباه أن هذا المتغير لم يعد مقصوراً على الحالة اللبنانية ولكنه امتد إلى حالات أخرى في المنطقة في ضوء اعتبارات اجتماعية وسياسية ظهرت في المنطقة خلال السنوات الأخيرة.
وفي هكذا سياق، يمكن القول إن طرح الثُلث المُعطِّل في التجارب السياسية بالمنطقة يرتبط بدافعين رئيسيين: أولهما، يتعلق بطبيعة النظام السياسي، ولعل هذا ما يتضح في الحالة اللبنانية، إذ يرتبط طرح الثُلث المُعطِّل بقدرة قوى المعارضة، التي تتغير بحسب نتائج الانتخابات النيابية، على موازنة نفوذ الأكثرية النيابية. وعادة ما تبرر القوى السياسية اللبنانية استخدامها للثُلث المُعطِّل بطبيعة الديمقراطية اللبنانية، والتي يصفها البعض بـ”الديمقراطية التوافقية” التي تحقق قدراً من التوازن بين الأطياف السياسية المختلفة. وتجد آلية الثُلث المُعطِّل ظهيراً لها في النصوص الدستورية، فعلى سبيل المثال، تنص الفقرة (ب) من المادة (69) بالدستور على أن الحكومة تعتبر مستقيلة إذا فقدت أكثر من ثُلث أعضائها المحدد في مرسوم تشكيلها.
ومن جهة أخرى، راهنت بعض القوى السياسية على الثُلث المُعطِّل من أجل صياغة إطار سياسي ضاغط على الأطراف الأخرى، والحصول على مكاسب معينة، ولعل هذا ما يتضح من محاولات قوى “الإطار التنسيقي” في العراق المراهنة على تلك الآلية من أجل الضغط على قوى سياسية أخرى، وفي مقدمتها تيار مقتدى الصدر، للوصول إلى توافق حول تشكيل الحكومة. وتستند قوى “الإطار التنسيقي” هنا إلى قرار المحكمة الاتحادية العليا، الصادر في 3 فبراير الجاري، والذي أوضح أن نصاب جلسة انتخاب رئيس الجمهورية في البرلمان لا يكتمل إلا بأغلبية ثُلثي مجموع أعضاء البرلمان البالغ عددهم 329 نائباً، ومن ثمّ يمكن إفشال عقد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية في حال لم يكتمل نصاب الثُلثين. وفي هذا الإطار، أشارت عضو ائتلاف “دولة القانون” (المنضوي ضمن قوى “الإطار التنسيقي”) النائبة عالية نصيف، في تصريحات تناقلتها صحيفة “الشرق الأوسط” في 4 فبراير الجاري، إلى أن “قرار المحكمة الاتحادية الذي أوجب حصول نصاب الثُلثين (222 نائباً) في جلسة التصويت على رئيس الجمهورية لكلتا الجولتين الانتخابيتين، هو منجز كبير مكن الإطار التنسيقي من استخدام الثُلث المُعطِّل، الذي سيجبر القوى السياسية على الجلوس من أجل المشاورات السياسية”.
إشكاليات عديدة
بالرغم من مراهنة أطراف عديدة على الثُلث المُعطِّل كمدخل لإدارة العلاقات والصراعات السياسية، فقد استدعى هذا الطرح عدداً من الإشكاليات الجوهرية التي تتمثل في:
1- تأجيل الاستحقاقات السياسية المرتقبة: تكشف الخبرة التاريخية أن التعويل على الثُلث المُعطِّل عادة ما كان دافعاً لتأجيل الاستحقاقات السياسية، وربما كان النموذج الأهم لذلك هو النموذج اللبناني، فقد ساهم الثُلث المُعطِّل على مدار السنوات الماضية في تأجيل عمل الحكومات اللبنانية، وكان محدِّداً هاماً في تشكيل الحكومات وكذلك تفكيكها، وقد ظهر هذا الأمر بصورة جلية مع مأزق تشكيل الحكومة في مرحلة ما بعد انفجار مرفأ بيروت (4 أغسطس 2020) وحالة الفراغ التي طرأت على لبنان بعد استقالة حكومة حسان دياب، واعتذار كل من مصطفى أديب وسعد الحريري عن تشكيل الحكومة.
وبالرغم من الإعلان عن تكليف نجيب ميقاتي، في 26 يوليو 2021، بتشكيل الحكومة، فقد ظلت فكرة الثُلث المُعطِّل حاضرة في المشهد، إذ تبادلت القوى السياسية المسئولية عن تعطيل تشكيل الحكومة. فعلى سبيل المثال، اتهم رئيس الوزراء اللبناني السابق سعد الحريري، في أكثر من مناسبة، رئيس الجمهورية ميشال عون بالتسبب في عرقلة مسار تشكيل الحكومة من خلال الإصرار على الحصول على الثُلث المُعطِّل في أي تشكيل حكومي. كما تم اتهام “حركة أمل” و”حزب الله” بعرقلة تشكيل الحكومة في ضوء مطالبهما بالحصول على عدد وزارات يُؤمِّن لهما الثُلث المُعطِّل. وقد تجلت هذه الإشكالية مؤخراً مع عرقلة الطرفين لاجتماعات رئاسة الوزراء، لنحو 100 يوم قبل أن تعود الاجتماعات الحكومية في 24 يناير الفائت، وذلك على خلفية أزمة التحقيقات القضائية في انفجار مرفأ بيروت.
2- تعزيز احتمالات تحرك الشارع: صحيح أن الاضطرابات التي شهدتها بعض دول المنطقة، مثل لبنان، كانت مدفوعة بمجموعة من العوامل السياسية والاقتصادية؛ إلا أن أطروحات الثُلث المُعطِّل ربما كانت مُحفِّزاً، ولو بشكل غير مباشر، لتحركات الشارع. فالمظاهرات التي شهدها لبنان على مدار السنوات الأخيرة كانت ترفع شعارات رافضة لكافة النخب السياسية، وتطالب بإعادة هيكلة وصياغة النظام السياسي، وهو الأمر الذي استبطن في جانب منه رفضاً شعبياً لفكرة الثُلث المُعطِّل والتوازنات التي عملت القوى السياسية اللبنانية على تثبيتها طيلة السنوات الماضية. فضلاً عن ذلك، فإن توظيف القوى السياسية لصيغة الثُلث المُعطِّل عزز من الهوة القائمة بين النخبة والشارع، إذ تزايد اقتناع قطاعات واسعة من المواطنين بأن ما يهم النخب هو النفوذ والمصالح السياسية حتى لو كان ذلك على حساب بعض الملفات الحيوية المهمة لهم على غرار ملف تشكيل الحكومة بصورة سريعة.
3- عرقلة تسوية الصراعات القائمة: لا يمكن إغفال أن استحضار صيغة الثُلث المُعطِّل في السياق السياسي الراهن ببعض دول المنطقة يضفي المزيد من التعقيدات على الصراعات القائمة، إذ إن ثمة انتقادات تواجهها قوى “الإطار التنسيقي” في العراق في ظل اتهامها بمحاولة توظيف صيغة الثُلث المُعطِّل في عملية انتخاب رئيس الجمهورية في البرلمان، على اعتبار أن هذا المسار يمكن أن يعقد من الصراعات السياسية القائمة. وقد عبر عن هذه الإشكالية النائب البرلماني عن “الحزب الديمقراطي الكردستاني” ماجد شنكالي، في تغريدة على موقع “تويتر” في 3 فبراير الجاري، حينما قال: “هل تنجح قوى الأغلبية في إفشال ما يسمى الثُلث المُعطِّل العراقي لكي لا يصبح نموذجاً ثانياً للثُلث المُعطِّل اللبناني الذي أوصل لبنان إلى وضع لا يُحسد عليه أبداً؟ أم إن القوى التي خططت لهذا الهدف ستصل إلى مبتغاها وتحقق هدفها في إيقاف عجلة الأغلبية بفرامل ما يُسمى الثُلث المُعطِّل؟”.
لقد ظهرت إرهاصات فكرة الثُلث المُعطِّل أيضاً في الحالة الليبية، وإن كانت بصورة مختلفة في ظل محاولة بعض الأطراف تعديل مسودة مشروع الدستور، وهو الأمر الذي ينذر بتصاعد حدة الصراع السياسي في ليبيا خلال الفترة القادمة، ولعل هذا ما كشف عنه البيان الصادر عن ممثلي الطوارق بالهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور، في 6 فبراير الجاري، والذي انتقد مقترحات لجنتي مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة لتعديل مسودة مشروع الدستور، واعتبرها لا تخدم إنجاز دستور توافقي. وأشار البيان إلى أن “المقترح بشأن تعديل الفقرة 12 من المادة 30 من الإعلان الدستوري يهدف إلى ترسيخ مبدأ المغالبة، وبالتالي تجاوز مبدأ التوافق”. وأضاف البيان أنه “يجب أن تضمن أي قاعدة دستورية التوافق مع المكونات لدسترة حقوقهم الثقافية واللغوية وحقوق المشاركة الفعالة في صنع القرار قبل أن تعرض على الشعب للاستفتاء”.
4- دعم تأثير المتغير الطائفي: بقدر ما تبرر قوى عديدة استخدامها للثُلث المُعطِّل بكونه تأكيداً على “الديمقراطية التوافقية” وضمان عدم استئثار أي طرف بالقرارات السياسية، فإن التجربة السياسية كشفت أيضاً أن صيغة الثُلث المُعطِّل كرَّست -بشكل أو بآخر- الطابع الطائفي في المشهد السياسي في بعض الدول، على غرار لبنان، إذ كانت القوى السياسية تستخدم، في بعض الحالات، الثُلث المُعطِّل بالتماهي مع خطوط الانقسام الطائفي المميزة للتفاعلات السياسية في لبنان.
5- اتساع نطاق الدور الإيراني: ربما يثير استدعاء صيغة الثُلث المُعطِّل في الوقت الحاضر، في بعض الدول مثل العراق، هواجس حول طبيعة الدور الإيراني في المنطقة، وتأثيرات إيران الممتدة على المعادلات السياسية الداخلية في بعض دول المنطقة عبر شبكة من الحلفاء. وفي هذا السياق، ثمة اتجاه يرى أن طهران قد تكون أوعزت لبعض حلفائها داخل العراق بضرورة الحصول على الثُلث المُعطِّل لضمان تعزيز المكاسب السياسية، وهو ما يعني -بشكل أو بآخر- القدرة على استنساخ التجربة اللبنانية، حيث تمكن “حزب الله” من تعزيز نفوذه السياسي عبر عدد من الآليات من ضمنها الثُلث المُعطِّل.
تداعيات سلبية
خلاصة القول، يبدو أن صيغة الثُلث المُعطِّل ستظل واحدة من الأدوات المطروحة من قبل بعض القوى السياسية في المنطقة خلال الفترة القادمة، وخاصة أنها ورقة رابحة لبعض القوى في إدارة الصراعات السياسية المحتدمة، فضلاً عن أن بعض دول المنطقة تمر بمرحلة إعادة هيكلة سياسية وصياغة للأطر القانونية والدستورية الحاكمة للتفاعلات السياسية، وهو ما يدفع بعض القوى إلى الضغط من أجل تعزيز مكاسبها عبر إيجاد ظهير تشريعي. لكن هذا التوجه سيفرض -في النهاية- المزيد من الإشكاليات الممتدة التي ستكون لها تأثيرات سلبية على الاستقرار السياسي.