توسيع النفوذ:
كيف ساهمت السياسة التركية في تأزيم الإقليم؟ (ملف خاص)

توسيع النفوذ:

كيف ساهمت السياسة التركية في تأزيم الإقليم؟ (ملف خاص)



شهدت السياسة الخارجية التركية منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، في عام 2002، تغيرات مرحلية، ففيما كانت هذه السياسة، في السنوات الأولى من سلطة الحزب، تسعى إلى إقامة علاقات أكثر إيجابية مع دول الجوار استنادًا إلى أطروحات “أحمد داود أوغلو” حول العمق الاستراتيجي وتصفير المشكلات مع دول الجوار؛ بدا أن التغيرات التي عايشتها المنطقة، وكذلك التحولات التي حدثت في توجهات النخب الحاكمة داخل تركيا، وخصوصًا بعد خروج عدد من القيادات التاريخية بحزب العدالة والتنمية من المشهد السياسي، وسعي الرئيس التركي “أردوغان” إلى التكريس لسلطته المنفردة؛ محفز لتحولات راديكالية في السياسة الخارجية التركية.

لقد شكّلت أحداث الربيع العربي نقطة تحول رئيسية في السياسة التركية بالمنطقة، حيث بدأت أنقرة في الابتعاد عن الأسس التي سعت إلى التكريس لها، وبدلًا من تعزيز الترابط بين أنقرة ودول المنطقة، تبنت تركيا سياسة إثارة الأزمات والتأسيس لمحاور استقطابية تدفع المنطقة إلى المزيد من الاضطرابات. ناهيك عن القطيعة التي هيمنت، بشكل أو بآخر، على العلاقات بين تركيا وعدد من القوى الإقليمية الرئيسية.

أدوات رئيسية

اعتمدت تركيا على عدد من الأدوات الرئيسية لتوسيع نفوذها في المنطقة، وهي الأدوات التي أفضت إلى تأزيم الإقليم، وتعقيد العلاقات بين أطرافه، وتتمثل هذه الأدوات فيما يلي:

1- التحالف مع تيار الإسلام السياسي: فمع تفجر أحداث الربيع العربي دخلت السياسة التركية مرحلة جديدة كانت موسومة -بصورة رئيسية- بإقامة شبكة من التحالفات مع تيار الإسلام السياسي في المنطقة، وخاصة مع بزوغ جماعة الإخوان في أكثر من دولة بالمنطقة. ولكن مع تراجع تجربة الإخوان، وخصوصًا مع انتهاء حكم الجماعة في مصر عام 2013، دخلت السياسة التركية مرحلة أكثر تعقيدًا، إذ آثرت أنقرة تبني سياسة الإنكار تجاه ما جرى في المنطقة، واستمرت في تقديم الدعم الإعلامي والسياسي لعناصر الجماعة، وفي الوقت ذاته تبنّى النظامُ التركي خطابًا عدائيًا تجاه عدد من دول المنطقة التي شهدت القضاء على النفوذ السياسي لجماعة الإخوان.

وبالرغم من الطابع الأيديولوجي الحاكم للعلاقات بين تركيا وجماعة الإخوان، بوصفها النموذج الأهم للإسلام السياسي في المنطقة؛ فإن هذه العلاقات استدعت أيضًا جانبًا براجماتيًا هامًا، حيث إن السياسات التوسعية التركية على الساحة الإقليمية ارتكزت على الأدوار التي أدتها الجماعة لخدمة النظام التركي، ليس على الساحة المحلية فحسب، عبر التجييش الداخلي في الخطابات الشعبوية والاستمرار في السيطرة على مقاليد الحكم، وإنما في الوقت نفسه من خلال استخدامه لهم في مشروعه الخارجي القائم على التغلغل في المنطقة العربية، والتأثير على سلمية تفاعلاتها، واستغلال قضاياها الصراعية، بما يحقق مصالح تركيا المتنوعة.

صحيح أن الشهور الأخيرة شهدت متغيرات جديدة في ديناميات العلاقة بين النظام التركي وجماعة الإخوان، وذلك في خضمّ سعي تركي لتهدئة التوترات مع دول المنطقة والتي استتبعها فرض قيود على المنصات الإعلامية التابعة للجماعة في تركيا؛ بيد أن هذه التغيرات لا تزال في مراحلها الأولى، كما أنه من المستبعد أن تتخلى أنقرة بسهولة عن تحالفها مع جماعة الإخوان بعد الأدوار التي قامت بها الجماعة لصالح تركيا.

2- عسكرة السياسة الخارجية: فخلال السنوات الأخيرة تَنَامَى اتجاه عسكرة السياسة الخارجية، فانتقلت السياسة التركية من مجرد دعم مجموعة من الحلفاء لها في دول الإقليم إلى التدخل العسكري المباشر في دول المنطقة، مثلما جرى في سوريا وليبيا. لقد رأى النظام التركي أن التدخل العسكري يُسهم في توسيع النفوذ التركي بالمنطقة، وخدمة مصالح أنقرة، وفي مقدمتها منع الأكراد من التكريس لسلطتهم في سوريا، وكذلك البقاء في ليبيا كمدخل للضغط على دول شرق المتوسط في ملف الطاقة. ومع ذلك، فإن هذه التدخلات العسكرية انعكست بالسلب على الصورة التركية في المنطقة.

ويلاحظ -في هذا الصدد- أن النشاط العسكري التركي في المنطقة استصحب معه تصاعدًا في أدوار شركات الأمن التركية الخاصة. وربما كانت شركة “سادات” (SADAT) النموذج الأهم في هذا السياق، ولا سيما مع طبيعة هذه الشركة، والعلاقة التي تجمع النظام التركي بهذه الشركة، ومحاولات النظام استخدام الشركة في تحقيق أهدافه ومصالحه الإقليمية. وقد تمثّلت الأهداف المعلنة للشركة في إعادة تنظيم أو تحديث القوات المسلحة وقوى الأمن الداخلي للدول الإسلامية بالمعنى الحديث والفعال لضمان الدفاع الوطني والأمن الداخلي. وبناءً عليه، رسمت الشركة خريطة تواجدها لتشمل دول العالم الإسلامي كافة، وفي حين أنه لا يوجد ما يثبت تواجدها في كل هذه الدول؛ إلا أن الهدف هو مدّ مظلتها لتشملها بما يُعزز من التواجد التركي ويخدم المصالح التركية في تلك الدول وغيرها. أمّا الأمر المؤكد فهو امتداد نشاط الشركة في دول مثل: سوريا، وليبيا، وقطر، وتونس، والصومال، وإثيوبيا، والبوسنة والهرسك، وكوسوفو، وأذربيجان، وألبانيا.

3- توظيف الجماعات المرتزقة: كشفت العديد من التقارير في السنوات الأخيرة عن توظيف النظام التركي للمرتزقة في صراعات المنطقة بهدف تقليل تكلفة التدخل العسكري المباشر. ووفقًا لتقديرات أفريكوم، في أوائل سبتمبر 2020، تم نشر ما يقرب من (5000) مرتزق سوري تدعمهم تركيا في ليبيا لدعم حكومة الوفاق الوطني. هذا بالإضافة إلى وجود عشرات من المستشارين العسكريين لشركة “سادات” التركية في ليبيا أيضًا، حيث يقومون بتدريب المقاتلين السوريين ومراقبة العمليات اليومية. ومن ثم فإن المرتزقة السوريين يحققون الأهداف والمصالح التركية بتكلفة أقل ودون الحاجة لنشر المزيد من قوات الجيش التركي. فضلًا عن السماح لتركيا بمواصلة تموضع نفسها جغرافيًّا واستراتيجيًّا دون تكبد خسائر كبيرة على مستوى الموارد المادية والبشرية.

هذا النموذج ظهر أيضًا في الحالة السورية، فمع تطورات الصراع السوري، والتوجه نحو عسكرة التظاهرات المضادة للنظام، نشأت العديد من الحركات المسلحة المعارضة للنظام السوري. وبمرور الوقت تحولت العديد من هذه الحركات إلى مجرد امتداد لفاعلين خارجيين، بل إنها باتت نموذجًا للمرتزقة، بشكل أو بآخر، لتلقيها التمويل من قوى خارجية، والعمل على تحقيق الأهداف العسكرية لهذه القوى. فالجيش السوري الحر، الذي تحول مسماه إلى الجيش الوطني السوري، منذ بزوغه في عام 2011، أظهر درجة من الارتباط بشبكة من الوكلاء الإقليميين، في مقدمتهم تركيا التي قدمت لقادة وعناصر الجيش ملاذات آمنة داخل الأراضي التركية، علاوة على تقديم التمويل لهم.

لقد ساهم الجيش السوري الحر في إكساب أنشطة المرتزقة في المنطقة المزيد من الزخم؛ ولعب دور هام في دعم أهداف ومصالح تركيا، والتأثير على توازنات الصراع، وتحول على مدار السنوات الماضية إلى أداة لخدمة المصالح التركية، حيث ظهرت عناصر الجيش الحر ضمن العمليات العسكرية التي نفذتها تركيا داخل سوريا منذ عملية “درع الفرات” عام 2016، وهذا التداخل العسكري ساهم في توسيع مناطق النفوذ التركي، وفَرْضِ نوع من السيطرة على طول الحدود التركية السورية، كما أنه وضع قيودًا على إقامة منطقة مستقرة للنفوذ الكردي في سوريا بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي.

4- الاختراق المجتمعي لبعض الدول: وهو من السمات الرئيسية للسياسة الخارجية التركية في السنوات الأخيرة، وذلك عبر استخدام عدد من المؤسسات الثقافية والدينية والمنح التعليمية والعسكرية. ولعل هذا ما اتضح مثلًا في الحالة الأفغانية، حيث عملت تركيا خلال السنوات الماضية على تعزيز الصلات مع قوميتي الأوزبك والتركمان اللتين تتحدثان اللغة التركية. كما أنشأت عددًا من المدارس التركية، فضلًا عن المنح الدراسية وتدريب الموظفين، وكذلك تقديم الدعم والتعاون مع الحكومة الأفغانية في المجال العسكري والأمني.

وشكلت برامج التدريب والتعليم العسكري واحدة من الأدوات التي اعتمدت عليها أنقرة من أجل التكريس لحضورها ونفوذها في الخارج، فقد نظرت أنقرة إلى مثل هذه البرامج بوصفها الجزء الناعم من عسكرة السياسة الخارجية التركية، لا سيما أن برامج التدريب انطوت على تعزيز العلاقات مع أطراف مختلفة، واعتمدت أنقرة في هذا الإطار على حالة الهشاشة والضعف التي تعاني منها العديد من الدول، ناهيك عن حالات الانتقال السياسي التي تمر بها هذه الدول واحتياجها لمساعدة أطراف خارجية في عملية إعادة بناء المؤسسات الأمنية والعسكرية، وذلك على غرار ليبيا والصومال. وتأسيسًا على ما سبق، يُناقش هذا الملف، الذي يضم تحليلات وتقديرات مركز العالم العربي وفريق موقع الحائط العربي، محاولات تركيا لتمديد نفوذها الإقليمي عبر أدواتها المتنوعة التي جمعت بين العسكرة وتوظيف الحلفاء والفاعلين من غير الدول، علاوة على أدوات القوة الناعمة التي تساعد على الاختراق المجتمعي للدول الأخرى.