توظيف المعلومة:
كيف دفعت الحرب الأوكرانية باتجاه صعود أدوار أجهزة الاستخبارات؟

توظيف المعلومة:

كيف دفعت الحرب الأوكرانية باتجاه صعود أدوار أجهزة الاستخبارات؟



مع حلول الذكرى الأولى لاندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، يجد المتابع لمسار الحرب أنها شهدت جنوحاً متزايداً من أطرافها الرئيسيين على مستوى توظيف أجهزة الاستخبارات لرسم معالم الصراع وتحديد مآلاته المحتملة، وقد بدأ دور أجهزة الاستخبارات في الحرب قبيل اندلاعها، من خلال توقع الحملة العسكرية الروسية على أوكرانيا، لكن هذا الدور انتقل مع اندلاع الحرب إلى مساحات أخرى بعضها غير تقليدي، سواءً على مستوى مشاركة المعلومات الاستخباراتية المهمة مع دوائر صنع القرار في الدول الحليفة وكذا الرأي العام، أو على مستوى مشاركة الفاعلين من غير الدول في إطار الجهود الاستخباراتية.

عززت الحرب الأوكرانية التي دخلت في يوم 24 فبراير الجاري عامها الثاني، من اهتمام الدوائر البحثية والأكاديمية بالدور الذي تلعبه أجهزة الاستخبارات في صياغة والتعاطي مع التطورات العالمية الملحة، سواءً على مستوى التنبؤ بالأحداث كما فعلت الاستخبارات البريطانية والأمريكية قبيل الحرب الأوكرانية، أو على مستوى تبني تحركات لردع الخصوم وهو ما تجسد في مرحلة ما بعد الحرب، وصولاً إلى التعويل على هذه الأجهزة في استشراف مستقبل الأزمة. ويجد المتابع للحرب في أوكرانيا أن العنصر الاستخباراتي كان حاضراً بقوة في مشهد الحرب، وذلك عبر مسارات رئيسية، سواءً تلك المتعلقة بنشر المعلومات الاستراتيجية الخاصة بالحرب وتقديمها للحلفاء والرأي العام، أو عودة ما تصفه بعض الدوائر بـ”الحروب الجاسوسية”، وهي اعتبارات تصاعدت معها الحاجة إلى الوقوف على أبرز أنماط واتجاهات وأدوار أجهزة الاستخبارات في الحرب الروسية الأوكرانية.

مظاهر الحضور

كان لأجهزة الاستخبارات العالمية دور مهم وحيوي على مستوى التعاطي مع الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في 24 فبراير 2022، ومن أبرز أنماط حضور العامل الاستخباراتي على هامش مشهد الحرب:

1- التنبؤ باستعداد روسيا لشن حملة عسكرية: تجلى المظهر الأول لحضور أجهزة الاستخبارات على هامش مشهد الحرب، في ديسمبر 2021، عندما نشرت صحيفة “الواشنطن بوست” توقعات لجهاز الاستخبارات الأمريكي ذهب فيها إلى أن الكرملين يخطط لشن هجوم متعدد الجبهات، في وقت مبكر من العام المقبل على أوكرانيا، وذكرت الصحيفة أن توقعات الاستخبارات الأمريكية ذهبت إلى أن ما يصل إلى 175 ألف جندي روسي سيشاركون في الهجوم، كما نشرت الصحيفة وقتها تقديرات الاستخبارات الأمريكية لأعداد الجنود والكتائب الروسية المتواجدة قرب الحدود الأوكرانية، وفي سياق متصل أشارت تقارير في أواخر ديسمبر 2021، إلى أن الاستخبارات البريطانية تتوقع حدوث حرب روسية على أوكرانيا، ومن هنا بدأ الاستخبارات البريطانية في وضع خطط لإجلاء بعض القوات والمدربين العسكريين المتواجدين في أوكرانيا.

2- تبادل المعلومات الاستخباراتية بين الحلفاء: تذهب بعض التقديرات إلى أن الحرب في أوكرانيا بشرت بعصر جديد على مستوى تبادل المعلومات الاستخباراتية بين أوكرانيا والولايات المتحدة وحلفاء وشركاء آخرين، وهو أمر ساهم في تعزيز قدرة أوكرانيا على الصمود ومواجهة الحملة العسكرية الروسية، فضلاً عن الدور الذي لعبه تبادل المعلومات الاستخباراتية على مستوى مساعدة أوكرانيا على ضرب أهداف روسية نوعية. فعلى سبيل المثال، نشرت صحيفة “دي تسايت” الألمانية، في 28 سبتمبر 2022، تقريراً قالت فيه إن الاستخبارات الألمانية أمدت أوكرانيا بمعلومات شديدة الأهمية، وصلت في ذلك الوقت -وفقاً للصحيفة- إلى أكثر من 100 معلومة استخباراتية، كان من بينها معلومات عن تمركزات القوات الروسية، ومواقع مستودعات ذخيرة وصور لمطار روسي تتضمن موقع هذا المطار بدقة وعدد الطائرات به، فضلاً عن أن تقارير أشارت إلى لعب الاستخبارات الأمريكية دوراً حيوياً في استهداف الجنرالات الروس في ساحة المعركة وفي غرق الطراد الرائد موسكفا في البحر الأسود.

3- إتاحة معطيات الصراع للدوائر المعنية: نشر موقع “فورين أفيرز” في يناير 2023، مقالاً للكاتبة “إيمي زيجارت” الزميلة الأولى في معهد فريمان سبوجلي للدراسات الدولية بجامعة ستانفورد، بعنوان “أوكرانيا وثورة المخابرات القادمة”، أشارت فيه إلى أن الدور الاستخباراتي في الحرب الأوكرانية الحالية تجاوز الأنماط التقليدية لأدوار أجهزة الاستخبارات، وذلك على مستوى طبيعة ونوعية الجهات التي يتم إمدادها بالمعلومات، واستدلت الكاتبة على ذلك بالإشارة إلى أن باحثي معهد دراسات الحرب الأمريكي، أنشأوا خريطة تفاعلية للصراع تستند بالكامل إلى معلومات استخباراتية.

4- اعتماد روسي كبير على جهاز الأمن الفيدرالي: حضر جهاز الاستخبارات الروسي المعروف بجهاز الأمن الفيدرالي FSB))، خليفة جهاز الاستخبارات السوفيتي العريق KGB))، في مشهد الحرب بقوة، فوفقاً لبعض التقديرات الغربية فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان يعول على جهاز الأمن الفيدرالي على مستوى تحقيق خطته الرامية إلى وضع نظام سياسي جديد موالٍ لروسيا في أوكرانيا، وقد أُوكلت تلك المهمة إلى فرع الأمن الفيدرالي الأجنبي (المعروف بالقسم الخامس)، وهو القسم الوحيد في الجهاز الذي ضلع في مرحلة الإعداد للحرب.

وعقب تعثر مخططات روسيا على مستوى الإطاحة بالنظام الأوكراني وجلب نظام سياسي آخر، غير الرئيس الروسي من خطته فيما يتعلق بدور جهاز الأمن الفيدرالي، وفي هذا السياق تُشير بعض التقديرات الغربية إلى أن دور الجهاز تحول ليصبح الفاعل الأهم على المستوى المحلي بالقدر نفسه الذي يدير به العمليات الاستخباراتية في أوكرانيا، في إشارة إلى إسناد مهمة قمع معارضي الحملة العسكرية الروسية إلى الجهاز، أو أي أطراف لها ارتباطات بأوكرانيا أو المنظومة الغربية، فضلاً عن أدوار أخرى مثل الإشراف على عملية تعيين وتجنيد عملاء أوكرانيين، والنظر في ملفات أولئك الذين يطمح جهاز الأمن الفيدرالي إلى محاكمتهم.

5- عودة “حروب الجواسيس” إلى الواجهة: أعادت الحرب الأوكرانية تفعيل ما يُعرف لدى الدوائر الأمنية بـ”حروب الجواسيس”، في إشارة إلى تجنيد الدول لبعض العناصر للقيام بمهام استخباراتية، وهي الآلية التي تعتمد بالأساس على بعض الشخصيات الدبلوماسية، أو بعض الأشخاص ذوي الصلة بدوائر صنع القرار، وفي هذا السياق كان المشهد الأبرز المعبر عن تصاعد حرب الجواسيس كأحد التمظهرات المصاحبة للحرب الأوكرانية، متمثلاً في قيام العديد من الدول الغربية بطرد نحو 500 دبلوماسي روسي في الأشهر التي أعقبت بدء الحملة العسكرية الروسية على أوكرانيا، وأشارت بعض الدوائر الرسمية في ذلك الوقت إلى أن هؤلاء المطرودين “موكلون رسمياً على أنهم دبلوماسيون، لكن يُعتقد أن غالبيتهم من ضباط المخابرات السريين”، ويقومون بتنفيذ ما يصفه جهاز الأمن الفيدرالي الروسي بـ”الإجراءات الفعالة”، المتمثلة في الحصول على معلومات استراتيجية مهمة، ونشر معلومات مضللة، والقيام بأنشطة سرية تخدم روسيا.

وتُشير بعض الدوائر إلى أن وكالات الاستخبارات الغربية تعمل منذ العام 2014، على تحديد الجواسيس الروس المتورطين في مثل هذه الأنشطة. ومن أبرزهم الوحدة المعروفة باسم “29155 Unit GRU” التابعة للاستخبارات العسكرية الروسية، والتي يعتقد أنها مكلفة بأعمال التخريب والتدمير والاغتيال، وتُتهم هذه الوحدة بأنها المسؤولة عن انفجار ضخم دمر مستودعاً للذخيرة في غابة تشيكية في أكتوبر 2014. وتضم أيضاً بعض المتورطين لاحقاً في حوادث التسمم في ساليزبيري جنوبي بريطانيا في عام 2018.

6- استشراف المآلات المحتملة للحرب: لعبت الأجهزة الاستخباراتية دوراً مهماً على مستوى إمداد صانعي السياسات في دولهم بمآلات الحرب المحتملة، وفقاً للمعطيات المتجددة وآخر التطورات، وكان من أبرز المؤشرات على هذا الدور المهم، التوقعات التي تبنتها الاستخبارات الأمريكية في ديسمبر 2022، بشأن تراجع وتيرة عمليات القتال في أوكرانيا خلال فصل الشتاء الجاري، وأن أبرز عمليات القتال ستتركز في محيط مناطق باخموت ودونيتسك شرق أوكرانيا، مشيرةً إلى أن “كلا الجيشين يقومان بعمليات إعداد، تمهيداً للاستعداد لأي هجوم مضاد بعد الشتاء”.

وفي سياق متصل، قال رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الألماني برونو كال، في تصريحات صحفية في الأيام الماضية، إن “كافة المؤشرات تذهب إلى أنه لا نهاية قريبة للحرب في أوكرانيا”، مشيراً إلى أن الجانب الروسي “مهتم في الفترة الراهنة بالحصول على أكبر عدد ممكن من المزايا والتقدم الميداني، من أجل ربما إملاء اتفاق سلام بشروطه في مرحلة ما في المستقبل”، لافتاً إلى أن “روسيا تملك قدرات تعبئة إضافية للجنود، تصل إلى نحو مليون شخص، قد يتم استخدامهم إذا اقتضت الحاجة ذلك”.

وتتقاطع هذه التقديرات الاستخباراتية الغربية بالفعل مع الواقع الميداني في أوكرانيا، فمن جانب شهدت عمليات القتال في أوكرانيا تراجعاً ملحوظاً في فصل الشتاء، وركز الجانبان في هذا السياق على عمليات إعادة الهيكلة والتعبئة والتجهيز ربما لمعارك قادمة أكثر شراسة، ومن جانب آخر تعكس خطابات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه لا توجد نية أو إرادة سياسية لإنهاء الحرب على المدى القريب.

متغيرات مهمة

كانت أدوار أجهزة الاستخبارات فيما يتعلق بالتعاطي مع الأحداث العالمية المهمة تتمحور حول بعض الأنماط التقليدية والرئيسية، المرتبطة بشكل رئيسي بتبادل المعلومات المهمة مع دوائر صنع القرار في الدول الصديقة، أو نشر بعض المعلومات بغرض تهييج الرأي العام في إطار ما يُعرف بـ”الحروب النفسية”، لكن الحرب الأوكرانية دفعت باتجاه حدوث بعض المتغيرات على أنماط هذا الدور، وذلك على النحو التالي:

1- الكشف عن المعلومات الاستخباراتية: كان دأب أجهزة الاستخبارات ونهجها التقليدي يقوم على إخفاء المعلومات الاستخباراتية، أو مشاركتها على أقصى تقدير مع دوائر صنع القرار المعنية في الدول الحليفة، لكن الحرب الأوكرانية ساهمت في إحداث متغيرات على مستوى هذا النمط، حيث جنحت أجهزة الاستخبارات بشكل متزايد نحو الكشف عن هذه المعلومات للرأي العام العالمي، وهو أمر ارتبط بشكل رئيسي بالسعي لمواجهة السرديات الروسية التي يتم الترويج لها، فضلاً عن رغبة أجهزة الاستخبارات في إرباك صانع القرار الروسي.

2- تصاعد الدور الاستخباراتي للفاعلين دون الدول: حظيت المجموعات التي تدخل في إطار الفاعلين من دون الدول باهتمام بالغ على هامش الحرب الدائرة في أوكرانيا، سواءً على مستوى المشاركة في الحرب، أو على مستوى دعم الجهود الاستخباراتية وتنسيقها وتعزيز نشرها. وفي هذا السياق، سعت أطراف الحرب المختلفة إلى تمرير التقارير والمعلومات الاستخباراتية عبر الوسطاء غير الحكوميين المستقلين ذوي التأثير على الرأي العام، كذلك توجد احتمالية لارتباط التوجه الجديد القائم على نشر المعلومات الاستخباراتية بتعدد أنماط الفاعلين في المشهد الأوكراني، وصعود أدوار الفاعلين من غير الدول، والذي قد لا تملك أجهزة الاستخبارات تواصلاً مباشراً معهم.

3- التخديم الاستخباراتي على الأجندة الغربية: يجد المتابع للدور الاستخباراتي الغربي على هامش الحرب الأوكرانية، أن هذا الدور كان يستهدف في مرحلة استباقية الكشف عن المخططات الروسية إزاء أوكرانيا، لكنه انتقل بعد ذلك وتحول إلى إحدى الأدوات الرئيسية في إطار استراتيجية “الضغوط القصوى” الغربية تجاه روسيا، فعلى الرغم من أن الدور الاستخباراتي فشل في بعض المواضع كمنع اندلاع الحرب من الأساس، إلا أنه ساهم في مرحلة لاحقة في عمليات الحشد والتعبئة الدوليين ضد روسيا، وهو ما يتجسد في التقارير التي تُنشر بين حين وآخر عن جرائم حرب روسية في أوكرانيا، أو استعانة روسيا بمقاتلين ومرتزقة وعناصر إرهابية، إلى آخر هذه المعلومات التي تزيد من نوعية التعاطف مع أوكرانيا، وكذا الضغط على روسيا.

حضور كثيف

في الختام، يمكن القول إن حضور أجهزة الاستخبارات في المشهد الأوكراني كان إحدى السمات الرئيسية المميزة لهذا المشهد، فضلاً عن كونه أحد الاعتبارات المعبرة عن شدة تعقيده، لكن اللافت هو أن هذا الدور لم يقتصر على حدود الأنماط التقليدية المعتادة، وهو مؤشر يُنذر بتصاعد حضور كثيف للعامل الاستخباراتي في المشهدين العالمي والإقليمي في الفترات المقبلة.