معضلة التعافي:
كيف حفزت الكوارث الطبيعية الصراع بين النظام التركي والمعارضة؟

معضلة التعافي:

كيف حفزت الكوارث الطبيعية الصراع بين النظام التركي والمعارضة؟



أثارت الكوارث الطبيعية التي شهدتها تركيا مؤخرًا جدلًا واسعًا، ومواجهة مُحتدمة بين السلطة الحاكمة والمعارضة التركية. حيث سارعت المعارضة إلى استثمار حالة الاستياء الميدانية جراء تلك الكوارث، لتسليط الضوء على سوء وفشل الاستعدادات في التعامل مع مثل تلك الأزمات، والتي كما وصفتها المعارضة مسألة “أمن قومي”. أما على الصعيد الآخر، فقد تعاطت الحكومة التركية مع الأزمة من منظور المؤامرات الخارجية التي بدت كمخرج لمواجهة الاستياء الداخلي المُـتصاعد نتيجة إخفاقاتها في إدارة العديد من الأزمات. وفي هكذا سياق، بدت قضية التعافي من الكوارث مدخلًا جديدًا للصراع السياسي القائم بين النظام الحاكم والمعارضة التركية.

أوجه القصور

تعرّضت تركيا في الآونة الأخيرة لعدد من الكوارث الطبيعية، ففي شهر يوليو الماضي تعرضت ثلاث ولايات تركية (ريزا، أرتوين، دوزجة) لسلسلة من الأمطار والسيول، والتي أسفرت عن انهيارات أرضية، وأضرار بالغة بالممتلكات والمباني والطرق، فضلًا عن الخسائر البشرية التي تراوحت بين قتلى، ومصابين، ومفقودين.

ولم تكد تتعافى تركيا من آثار تلك السيول حتى شهدت اندلاع حرائق، بداية من يوم 28 يوليو الماضي، في عدة ولايات جنوب وجنوب غرب البلاد، بدءًا من أربع بقاع مختلفة، كان أولها منطقة “مانافجات” بولاية “أنطاليا” على البحر المتوسط، وحتى مساحات شاسعة من غابات واقعة فيما يقارب الـ20 ولاية على طول الساحل. مما دفع السلطات التركية والقوات الأمنية لإعلان إغلاق الطريق الساحلي، واستخدام سفن خفر السواحل التركية، والقوارب الخاصة، واليخوت، في عملية إخلاء المواطنين والسياح من التجمعات السكنية، والمناطق السياحية والفنادق القريبة من أماكن الحرائق.

بالرغم من الجهود التي بذلتها أجهزة الدولة التركية للتعامل مع تلك الكوارث الطبيعية، وتعهد أردوغان خلال تصريحاته بتقديم التسهيلات والمساعدات المالية للمُتضررين؛ إلا أن تلك الاستجابات كانت موضع انتقادات عديدة، وخصوصًا من قبل قوى المعارضة، وهي الانتقادات التي ارتبطت بعددٍ من الأبعاد الرئيسية المتمثلة فيما يلي:

1- تأخر الاستجابة: رغم تعرض تركيا سنويًا خلال فصل الصيف لأزمة حرائق الغابات؛ إلا أن الحكومة التركية واجهت انتقادات كثيرة من الجانبين المؤيد والمعارض لها، على خلفية ضعف وقصور آلية الاستجابة التي اتّبعتها لإخماد الحرائق. فبسبب عدم استعدادها، وبطء استجابتها، وإخفاقها في السيطرة على الحرائق، انتشرت وامتدت بسرعة هائلة إلى مناطق ومساحات شاسعة. حيث أعرب والي “أضنة” (إحدى المناطق المُتضررة من الحرائق) عن استيائه من جهل المؤسسات المحلية بمدى الحريق المُنتشر في كل مكان، ذاكرًا أن طائرة واحدة بدون طيار كانت مُخصصة لتصوير أبحاث وإحداثيات انتشار الحرائق، والتي كانت تتغير وتتصاعد كل دقيقة.

2- استئجار طائرات إخماد الحرائق: تعرضت الحكومة التركية لموجه حادة ومُتصاعدة من الانتقادات بين الأوساط الشعبية والمعارضة إثر إعلان وزير الزراعة والغابات التركي “بكر باكدميرلي”، عن عدم وجود طائرات مُتخصصة محلية لإخماد الحرائق في الأماكن ذات الطبيعة الجبلية التي لا تستطيع مركبات الدفاع المدني وإطفاء الحرائق الوصول إليها، وما تلاها من تصريحات لأردوغان حول أن “السبب الرئيسي لهذه المشكلات مع الطائرات هو أن جمعية الملاحة الجوية التركية لم تتمكن من تحديث أسطولها وتقنياتها”، وهو الأمر الذي دفع أنقرة إلى قبول المساعدات التي قدمتها كل من روسيا وأذربيجان وأوكرانيا وإيران، فضلًا عن الاتحاد الأوروبي الذي أعلن عن تفعيل “آلية الحماية المدنية” وإرسال 3 طائرات إلى تركيا استجابةً لحالة الطوارئ التي تمرّ بها البلاد.

وقد جاءت الانتقادات الموجهة للحكومة انطلاقًا من عدة اعتبارات أهمها وأبرزها أن الغابات تُشكل ثلث مساحة تركيا، وتشهد البلاد سنويًا أزمة حرائق في تلك الغابات، وبالتالي فهذه الكارثة ليست وليدة العام أو غير مُتوقعة، فكيف لا تأخذ الحكومة استعداداتها، وتضطر لاستئجار طائرات مكافحة الحرائق بالملايين لعدم امتلاكها طاقمها الخاص. وفي هذا الصدد، علق رئيس حزب الشعب الجمهوري، “كمال كيليتشدار أوغلو”، على هذه الأزمة بقوله: “تتخذون إجراءات من الصفر كما لو أننا نشهد مثل هذه الحرائق للمرة الأولى.. هذا هو أكبر ضعف للحكومة التي تحكم تركيا.. لا يوجد تخطيط ولا بُعد نظر”.

3- سلوكيات وتصريحات استفزازية: من بين المواقف التي كانت موضع انتقاد وهجوم تجاه الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، على وجه الخصوص، هو تكرار مشهد توزيعه عبوات الشاي على الضحايا والمنكوبين من السيول والحرائق. فقد قُوبل تصرفه باستنكار كبير، وتهكم من قبل كل من الشعب والمعارضة، خاصة لتكرار الواقعة مرتين، الأولى أثناء زيارته للمنطقة المنكوبة إثر السيول في ولاية “ريزا”، والثانية أثناء زيارته لولاية “موغلا”، لتفقد أحوال سكانها بعد الحرائق التي داهمتهم.

فقد وصف نواب حزب الشعب الجمهوري تصرف الرئيس التركي بـ”الكوميديا السوداء”، لعدم مراعاته طبيعة الأحداث وحاجة المُتضررين في مثل تلك الأوقات لحلول وإجراءات طارئة وفعالة تعوض خسائرهم، وتؤمن حياتهم وممتلكاتهم. ووفقًا لقوى المعارضة، فقد جسد سلوك الرئيس التركي حالة الانعزال التي يعيشها النظام الحاكم عن الواقع، لا سيما مع تصريحاته التي أدلى بها بشأن الأمطار والسيول، حيث قال: “إن الحل الوحيد هو التناغم مع تلك الكوارث الطبيعية، لأنها تُصنف ضمن الظواهر الطبيعية التي يعجز العالم عن إيجاد حلول لها”.

4- استغلال الكارثة لتوجيه الاتهامات ضد الخصوم: في إطار محاولة الحكومة التركية تشتيت الانتباه عن سمات القصور والتخاذل التي وُصمت بها إدارتها وإجراءاتها خلال تلك الكوارث، سارعت إلى التأكيد على وجود عمل تخريبي إرهابي مقصود وراء تلك الحرائق. فعلى الرغم من تكرار أزمة الحرائق كل عام نتيجة الأحوال الجوية، والارتفاع الشديد في درجات الحرارة، ورغم عدم وجود أي دليل على حرقها عمدًا من أي جهة؛ إلا أن الحكومة تستند في ادعائها على أنه ليس من قبيل المُصادفة اندلاع الحرائق في أربع مناطق في الوقت نفسه تقريبًا، وبالتالي لا يمكن استبعاد تورط التنظيمات الإرهابية في تلك الكارثة.
وانطلاقًا من هذا الأساس، تتجه أصابع الاتهام إلى حركة حزب العمال الكردستاني الانفصالية الكردية، لا سيما أن الحرق التكتيكي يُعتبر من استراتيجيات الحركة المُعتمدة، ولها تاريخ طويل في جرائم إشعال الحرائق والتخريب البيئي منذ تسعينيات القرن الماضي. وفي هذا السياق، استغلت الجهات الاستخباراتية والأمنية كارثة الحرائق لشن حملة من التحقيقات والاعتقالات تجاه عدد من الأشخاص تم الدفع بالاشتباه في تورطهم في إضرام الحرائق.

تداعيات رئيسية

أفضت الكوارث التي شهدتها تركيا مؤخرًا إلى عدد من التداعيات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:
1- المطالبة بإقالة وزير الزراعة والغابات: على خلفية تلك الكوارث المُتتالية، تصاعدت المطالب بين أوساط المعارضة التركية بإقالة وزير الزراعة والغابات التركي، حيث صرح نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري، “رأفت زيبيك”، أكبر أحزاب المعارضة في البلاد، بأن تلك الحرائق اندلعت نتيجة التوسع في مستويات الجفاف في الغابات التركية، وذكر أن القوى السياسية التركية كانت تطالب طوال العامين الماضيين بإيجاد حلول موضوعية لتلك المسألة؛ إلا أن الوزارة كانت تُصرّ على نُكران وجود هذه المشكلة.

2- تآكل قاعدة الحزب الحاكم: حيث أشار عددٌ من التقارير إلى أن تزايد الاستياء الشعبي من سياسات إخماد الحرائق ينعكس بالسلب على القاعدة الجماهيرية الداعمة للحزب الحاكم، وخصوصًا أن بعض مؤيدي حزب العدالة والتنمية الحاكم أعربوا عن ندمهم على التصويت له، مُنتقدين في ذلك السياسات التي ينتهجها الحزب منذ عقدين، والتي تؤثر بدورها على الاستقرار البيئي في تركيا. إذ يتم اقتلاع الحدائق العامة من وسط المُدن لتنفيذ مشاريع تجارية، ويتم اقتلاع الكثير من الغابات لإقامة المشاريع الصناعية. فضلًا عن تخصيص موارد مالية كافية لحماية الغابات، وتعويض فترات ندرة الأمطار، ووضع كاميرات مراقبة على مداخلها.

3- تهديد الموسم السياحي: من المُتوقع أن تؤثر تداعيات الحرائق، وإخفاق التعامل الحكومي مع الأزمة، وما خلّفته من إخلاء للمناطق والمؤسسات السياحية على الموسم السياحي في البلاد لعام 2021، وتؤدي إلى انتهائه سريعًا، ولا سيما مع فقدان السياح الثقة بالمستوى الخدمي والتأميني الذي توفره السلطات التركية.

ختامًا، ونظرًا لتحذيرات المنظمة العالمية للأرصاد الجوية بأن منطقة البحر المتوسط ستتعرض خلال الفترة القادمة من موسم الصيف لمستويات عالية من درجات الحرارة، تصل إلى 40 درجة مئوية؛ فإنه ليس ببعيد أن تواجه تركيا المزيد من الأزمات والكوارث البيئية، إذا لم تضع في الحُسبان أوجه القصور والضعف التي واجهتها خلال أزمتها الحالية، وتعمل على تجاوز تداعياتها، ولا سيما أن الأزمة التي يواجهها الحزب الحاكم والإدارة التركية ليست أزمة بيئية فقط، وإنما هي أزمة مُمتدة تشمل مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية في البلاد، ومن المُتوقع أن تُهدد شعبية ومكانة الحزب الحاكم خلال الفترة المقبلة.