مأزق حاد:
كيف تُهدد أزمة تجنيد الحريديم حكومة نتنياهو؟

مأزق حاد:

كيف تُهدد أزمة تجنيد الحريديم حكومة نتنياهو؟



وسط تزايد الإصرار على تجنيد اليهود المتشددين “الحريديم”، أعادت تصريحات الحاخام الأكبر في إسرائيل “يتسحاق يوسف” التي هدد فيها بمغادرة إسرائيل مع اليهود المتشددين إذا ما أجبرتهم الحكومة على التجنيد الإلزامي، الحديث حول أزمة جديدة تُهدد حكومة “نتنياهو”، لا سيما وأن هذه هي المرة الأولى في تاريخ إسرائيل التي تتفق فيها المعارضة مع الحكومة بخصوص وجوب مشاركة جميع طوائف المجتمع في الخدمة العسكرية في مثل هذه الظروف العصيبة، فيما تختلف أحزاب الائتلاف الحاكم بين مؤيد ومعارض لها.

ومع قرب صدور قرار من حكومة “نتنياهو” في نهاية مارس الجاري 2024 لمناقشة مقترحي تجنيد “الحريديم” وتمديد مدة الخدمة العسكرية، هدد وزير الدفاع الإسرائيلي “يوآف غالانت” باستخدام حق النقض (الفيتو) ضد أي قرار يتعلق بمواصلة إعفاء اليهود المتشددين من الخدمة العسكرية، بالتزامن مع تعهد بعض الأحزاب الداعمة “للحريديم” بإسقاط حكومة “نتنياهو”. وهو ما يُنذر بتصاعد خلاف جديد ستكون له انعكاساته على الائتلاف الحاكم واستقرار المجتمع، خاصة بعد تأجج الشارع الإسرائيلي ببدء خروج يهود “الحريديم” للتظاهر ضد الحكومة منذ يوم 9 مارس 2024 استجابةً وتضامناً مع تصريحات الحاخام الأكبر.

سياقات محفزة

مثّل خروج وزير الدفاع الإسرائيلي “يوآف غالانت” عن صمته بعد تزايد حدة النقاش داخل المجتمع الإسرائيلي، الداعي لتجنيد “الحريديم” لسد العجز في صفوف الجيش الإسرائيلي في ظل الحرب في غزة واشتعال جبهة الشمال، إضفاء لصفة الرسمية على الأزمة بتحويلها من مجرد نقاشات في الأوساط الشعبية إلى مأزق يُعمق من الخلافات داخل الائتلاف الحاكم ويُهدد تماسكه. حيث كانت الحكومات الماضية قد دأبت منذ نشأة وتأسيس إسرائيل عام 1948 على تمديد الإعفاء ليهود “الحريديم” من الخدمة العسكرية الإلزامية. فبعد أن ألغت المحكمة العليا القانون الذي شُرّع عام 2015 والقاضي بإعفائهم من الخدمة العسكرية، ومنذ ذلك الحين وبالرغم من المحاولات العديدة لتمرير قانون الإعفاء مرة أخرى، إلا أن الحكومات المتعاقبة قد فشلت في التوصل لصيغة قانون توافقي يقضي بتجنيد “الحريديم”، واقتصر الأمر على مجرد إعفاءات مؤقتة مع تأجيل دعاوى النظر في الأمر من قِبل المحكمة العليا.

يُشير تزايد الدعوات المنادية بتجنيد “الحريديم” من قبل المجتمع الإسرائيلي وبعض أعضاء الائتلاف الحاكم، بالرغم من معرفتهم بمدى الخطورة التي قد يُمثلها هذا الطرح، إلى تصاعد الخلافات والتوتر داخل الحكومة الحالية، وهو ما يُنذر بأن ثمة أزمة كامنة جديدة على وشك الانفجار وقد تُهدد تماسك واستمرار حكومة “نتنياهو” أو على أقل تقدير تُضيف لرصيدها من الفشل وتراجع أدائها. إذ لا يبدو أن “غالانت” أو أعضاء المعارضة على استعداد هذه المرة لتقديم تنازلات لنتنياهو، الذي دائماً ما يسعى لكسب دعم وتأييد الأحزاب المتطرفة، كما حدث من قبل أثناء أزمة التعديلات القضائية التي أقال فيها نتنياهو “غالانت” قبل بدء الحرب.

ضغوط حاكمة

تكمن خطورة الأزمة الحالية في ارتباطها بعدة ضغوط حاكمة تواجه نتنياهو منذ مطلع عام 2024 وتُمثل السياق المحفز لها والذي يدفعها باتجاه الانفجار، ألا وهي:

1. عدم توافق أعضاء الائتلاف حول قرار التجنيد: فبينما رحب الوزيران في معسكر التحالف الوطني “بيني غانتس” و”غادي آيزنكوت” بتصريحات “غالانت”، القاضية بتجنيد “الحريديم” في الجيش، امتنع رئيس حزب “عظمة يهودية” إيتمار بن غفير، ورئيس تحالف “الصهيونية الدينية” بتسلئيل سموتريتش، عن التعقيب على الموضوع، بالرغم من دعمهما لهذا الطرح منذ بداية الحرب. وهو ما تصادم مع قرارات أحزاب الكتل الحريدية، المتمثلة في حزب “ساش” بزعامة أرييه أدرعي، وحزب “يهودية التوراة” برئاسة موشيه غافني، اللذين سرعان ما هددا بالانسحاب من الائتلاف الحاكم.

2. حاجة الجيش الإسرائيلي لسدّ العجز في عدد الجنود: يعكس صدور مثل هذه التصريحات من “غالانت” دون الأخذ في الاعتبار الظروف الحساسة التي تمر بها تل أبيب، نتيجة استمرار الحرب لأكثر من خمسة أشهر دون تحقيق أهدافها وعدم وجود أُفق واضح لنهايتها، وتزايد اضطرابات الداخل، وتصاعد حدة الخلافات بين أعضاء الائتلاف الحاكم؛ حجم الحاجة الملحة لزيادة عدد جنود الجيش، خاصة بعد تزايد التصعيد على الجبهة الشمالية واحتمالية فتح جبهة برية أخرى مع حزب الله اللبناني، وهو ما يُشير إلى تفضيل “غالانت” الأمن على السياسة، غير عابئ بتداعيات القرار على تماسك الائتلاف الحاكم.

3. استثمار أعضاء المعارضة في الأزمة لإسقاط ائتلاف نتنياهو: يُشير توافق زعيم المعارضة الإسرائيلية “يائير لابيد” وتيار المعارضة في حكومة الحرب الذي يُمثله كل من “غانتس” و”آيزنكوت” مع تصريحات “غالانت”، التي أتت على غير رغبة من “نتنياهو” الذي كان يُحاول تمرير قانون لإعفاء “الحريديم” من التجنيد، إلى أنهما يستغلان الأزمة لمحاولة إسقاط ائتلاف نتنياهو. إذ إن دعمهما لقرار يحظى بتأييد غالبية المجتمع الإسرائيلي، وتلويحهما باستخدام حق الفيتو ضد أي قرار يتعلق بإعفاء يهود “الحريديم” من الخدمة العسكرية، إضافة إلى تهديدهما بالانسحاب من حكومة الحرب، بالتزامن مع تهديد الأحزاب الحريدية بإسقاط حكومة نتنياهو بالانسحاب من الائتلاف أيضاً، يُؤكد على مسعاهم وهدفهم الأبرز وهو إسقاط حكومة نتنياهو بانقسام الائتلاف.

4. تراجع دعم الأحزاب الحريدية لحكومة نتنياهو: تعكس تصريحات الحاخام الأكبر “يتسحاق يوسف” وتهديده بمغادرته وطوائف اليهود المتشددين تل أبيب، تراجع دعم الكتل الحريدية لنتنياهو. إذ يتهمه البعض بالتنصل من وعوده واتفاقه معهم، القاضي بدعم ومشاركة الأحزاب الحريدية في ائتلافه مقابل استمرار إعفائهم من التجنيد الإلزامي، بتمرير قانون شبه دستوري يقضي بالمساواة بين دراسة التوراة في المعاهد الدينية وأداء الخدمة العسكرية، حتى يتلافى إشكالية تحقيق المساواة. وجدير بالذكر أن طائفة يهود “الحريديم” من أكبر الطوائف التي قد يُشكل انسحابها من أي حكومة ائتلافية إلى إسقاطها، إذ يبلغ تعدادهم 13.3% من المجتمع الإسرائيلي، وهم أعلى الطوائف نمواً في عدد السكان.

مسارات محتملة

يُشير واقع الأزمة الحالية إلى أنها قد تذهب باتجاه عدة سيناريوهات قد يتمكن بعضها من احتواء الأزمة القائمة، فيما قد يُؤججها البعض الآخر إذا ما فشلت حكومة نتنياهو في إدارة التناقضات المتجذرة في ائتلافها، وهي:

1. خضوع يهود “الحريديم” للأمر الواقع: قد تخضع الأحزاب الحريدية لخطة تجنيد يتم الاتفاق عليها مع أعضاء الائتلاف والمعارضة، ويدعم هذا السيناريو محاولة “نتنياهو” احتواء الأوضاع وتعهده بحل الأزمة، خاصة بعد حديثه عن مقترح يقضي بإنشاء وحدات غير قتالية جديدة ليهود “الحريديم” في الجيش الإسرائيلي تكون مهمتها تقديم الدعم الديني للجنود المقاتلين والقيام بالمهام الإدارية والخدمية.

2. إصرار “الحريديم” ورفضهم مقترح “نتنياهو”: ويدعم هذا السيناريو حالة الرفض التام التي أعلنت عنها الأحزاب الحريدية بعد تصريحات “غالانت” وتهديدها بإسقاط حكومة “نتنياهو” إذا ما عزمت على تنفيذ هذا المخطط، إضافة إلى تصريحات الحاخام الأكبر التي أججت الشارع الإسرائيلي ودعت يهود “الحريديم” للامتناع عن المشاركة في الجيش أو أية أعمال دنيوية تُخالف عقيدتهم، وتحثهم على الخروج للاحتجاج في الشوارع.

3. تراجع الدعوات المنادية بتجنيد “الحريديم”: يرتبط تحقق هذا السيناريو بفشل السيناريو الأول وتحقق السيناريو الثاني، إذ قد يدفع تصلب موقف الأحزاب الحريدية وتصاعد حركات احتجاجها الرافضة لأية قرارات تُجبرهم على الانضمام للجيش، واستمرار تهديدهم للائتلاف الحاكم بالانسحاب منه، إلى تراجع الدعوات المنادية بضرورة تجنيدهم لاحتواء الأوضاع. ويعزز من فرص تحقق هذا السيناريو إمكانية إيقاف الحرب في غزة، ولو بهدنة مؤقتة تمتص غضب الشارع الإسرائيلي بالإفراج عن الأسرى المحتجزين لدى حماس، وبالتالي تراجع الحاجة لمزيد من الجنود.

4. إسقاط حكومة “نتنياهو”: يرتبط تحقق هذا السيناريو بفشل السيناريو الأول والثالث وتحقق السيناريو الثاني، فقد يدفع فشل “نتنياهو” في احتواء الأزمة الحالية، مع استمرار تصلب موقف الأحزاب الحريدية وعدم قبولها بحل وسط، إلى وضع تهديداتها موضع التطبيق بالانسحاب الفعلي من الائتلاف الحاكم لإسقاطه. كما قد يدفع عدم تراجع الدعوات المنادية بتجنيد “الحريديم” من قِبل أعضاء المعارضة في الائتلاف الحاكم، مع لجوء “نتنياهو” لإرضاء الأحزاب الدينية، “غالانت” و”آيزنكوت” و”غانتس” باتجاه الانسحاب كذلك من الائتلاف الحاكم، وفي كلا الحالتين ستذهب تل أبيب لانتخابات مبكرة.

فك الارتباط

ختاماً، يمكن القول إن هذه الأزمة هي الأخطر منذ تشكيل الائتلاف الحاكم، وقد تُمثل بداية فك الارتباط الفعلي بين نتنياهو وأعضاء ائتلافه، لا سيما المعارضين منهم حتى ولو لم يكن بشكل رسمي، فتصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي “غالانت” وضعت تماسك الحكومة الحالية على المحك. فحتى وإن قرر “نتنياهو” عزل “غالانت” للمرة الثانية للإتيان بآخر يوافقه الرأي لمحاولة احتواء الأوضاع، فقانون التجنيد يحظى بتأييد الغالبية العظمى من المجتمع الإسرائيلي. ولذلك فإن “غالانت” بتصريحاته قد ألقى الكرة في ملعب “نتنياهو” ووضعه بين فَكَّيْ رَحَى، فإما أن يُرضي الأحزاب الدينية، وإما أن يُرضي أعضاء الائتلاف الحاكم، وفي كلا الحالتين هو الخاسر.