دعت حركة النهضة التونسية، إلى تظاهرات يوم 14 يناير الجاري (وهو اليوم نفسه الذي كان يحتفل فيه الشعب التونسي بذكرى الثورة، قبل أن يقرر الرئيس التونسي “قيس سعيد” تعديله إلى 17 ديسمبر) في شارع الحبيب بورقيبة، استمراراً لمحاولة الضغط على الرئيس التونسي “قيس سعيد”، الذي اتّخذ قرارات بتعليق عمل مجلس النواب وإعفاء الحكومة، في أعقاب تظاهرات رافضة لحركة النهضة في يوليو 2021. ورغمتعقيدات المشهد التونسي، وظهور اعتراضات لقوى وطنية وسياسية على بعض قرارات الرئيس التونسي لترتيبات المشهد خلال الفترة المقبلة؛ إلا أن الأزمة بين الرئيس “سعيد” وحركة النهضة يمكن رسم ملامحها في ضوء أمرين:
أولهما- إصرار “قيس سعيد” على خارطة الطريق: يبدو أن الرئيس التونسي ومنذ إعلانه القرارات الاستثنائية في يوليو الماضي، يصر على استمرار تلك الإجراءات رغم محاولات الضغط عليه؛ إذ أعلن في ديسمبر الماضي، خارطة طريق تمتد إلى نهاية العام الجاري، تتضمن استفتاء على تعديلات دستورية في يوليو 2022، ثم انتخابات تشريعية في ديسمبر 2022. وهنا فإن الرئيس التونسي تخفف من بعض الضغوط المرتبطة بمطالبته بتحديد جدول زمني واضح لإنهاء الإجراءات الاستثنائية، لضمان ألا تتحول إلى إجراءات دائمة.
ثانيهما- محدودية تأثير حركة النهضة: يبدو أن حركة النهضة وخلال ما يقرب من ستة أشهر، لم تتمكن من اختراق الساحة السياسية، وتمثيل ضغوط على “سعيد”، في سبيل الاستجابة لمطالبها بإلغاء الإجراءات الاستثنائية، بما يعني عودة البرلمان للعمل الذي كان يترأسه “راشد الغنوشي”. ولكن -في المقابل- لجأت الحركة إلى عمليات حشد عبر تظاهرات بين حين وآخر، بما يعكس محدودية تأثير الحركة على مسار خارطة الطريق، مع استمرار رفض أي إجراءات وقرارات تصدر عن الرئيس التونسي. وسبق أن لجأت حركة النهضة إلى عملية الحشد وتوظيفه في سياق الضغوط السياسية، حينما قاد “راشد الغنوشي” تظاهرة في فبراير 2021، دعماً للحكومة السابقة برئاسة “هشام المشيشي”، في ظل بعض الخلافات مع الرئيس التونسي “قيس سعيد” -آنذاك- حيال التعديل الوزاري.
ويمكن قراءة دوافع دعوة حركة النهضة لهذه التظاهرات، في سياق الأزمة التي تشهدها تونس وتطوراتها، كالتالي:
تخفيف الضغوط
1- مواجهة الملاحقات القضائية لقيادات النهضة: تأتي هذه الدعوات التي أطلقتها الحركة في أعقاب الملاحقات القضائية لقياداتها خلال الأشهر الماضية، وتحديداً عقب وضع نائب رئيس الحركة ووزير العدل الأسبق “نور الدين البحيري”، إضافة إلى القيادي في الحركة “فتحي البلدي”، الذي عمل مستشاراً أمنياً لوزير الداخلية السابق “علي العريض”، قيد الإقامة الجبرية، في 31 ديسمبر الماضي. وعلى الرغم من مطالبات حركة النهضة برفع الإقامة الجبرية، إذ قال “راشد الغنوشي”، إنه طلب من الرئيس “قيس سعيد” الكشف عن مكان ومصير “البحيري”؛ فإن “سعيد” رد على محاولات التصعيد من قبل حركة النهضة بالتأكيد على أن من وُضعوا على قائمة الإقامة الجبرية (في إشارة إلى البحيري والبلدي) متورطون في جرائم تزوير وتسفير عناصر إرهابية خارج البلاد.
وعلى الرغم من إشارة حركة النهضة إلى تظاهرات 14 يناير عقب وضع “البحيري” و”البلدي” تحت الإقامة الجبرية؛ إلا أنها كثفت من محاولات الحشد خلال الأيام القليلة الماضية، في محاولة للضغط لوقف أي ملاحقات لقيادات الحركة مستقبلاً، في ظل ما تردد خلال الأسبوعين الماضيين عن استدعاء “راشد الغنوشي” أمام القضاء، قبل أن يصدر نفيٌ عن محاميه، عبر تصدير أنها ملاحقات سياسية دون سند قانوني.
تعبئة مضادة
2- توظيف رمزية التاريخ لتعبئة الشارع ضد “قيس سعيد”: تسعى حركة النهضة إلى تحشيد الشارع التونسي ضد الرئيس “قيس سعيد” خلال الفترة المقبلة، وهي محاولات بدأت منذ إزاحة الحركة عن المشهد السياسي بعد قرارات يوليو 2021، ولكن هذه المرة فإن ثمة رمزية ليوم 14 يناير، الذي يوافق ذكرى هروب الرئيس التونسي السابق “زين العابدين بن علي” عام 2011، في إطار ما يُعرف بـ”ثورات الربيع العربي”. وهنا، فإن الحركة تسعى للترويج لأن إجراءات “قيس سعيد” أعادت تونس إلى ما كانت عليه قبل 14 يناير 2011، بما يستدعي النزول للشارع لرفض الممارسات الحالية، وهذا يتضح من بيان الحركة بتاريخ 7 يناير 2022، إذ قالت: “إن الدعوة للتظاهرات تأتي رفضاً للتمشيات الانقلابية والانتهاكات الجسيمة للحريات والديمقراطية، وإحياء لروح ثورة الحرية والكرامة ووفاء لأرواح الشهداء”.
ويبرز في سياق الحديث عن التظاهرات، رغبة حركة النهضة في تعميق التمايز مع “قيس سعيد”، الذي أصدر مرسوماً بتعديل ذكرى إحياء “الثورة التونسية” ليكون في 17 ديسمبر بدلاً من 14 يناير، وما صاحب ذلك من اعتراضات من قبل بعض النخب التونسية. ورغم تقديم “سعيد” كلمة للشعب التونسي الشهر الماضي؛ إلا أن حركة النهضة لم توجه أعضاءها رسمياً للمشاركة في هذا اليوم بمظاهرات لرفض إجراءات “سعيد” الاستثنائية.
تماسك داخلي
3- الحفاظ على التماسك الداخلي: يحاول “راشد الغنوشي” عبر الدعوة لهذه التظاهرات، الدفع باتجاه إخماد أي قلاقل داخل حركة النهضة قد تظهر خلال الفترة المقبلة، خاصة وأن الحركة شهدت استقالات متتالية عقب تعليق عمل البرلمان وإعفاء الحكومة، إلى أن وصل العدد إلى نحو 131، من مختلف المستويات القيادية، وأعقب ذلك لقاءات أجراها “الغنوشي” مع هياكل الحركة من مختلف المناطق، بغرض تهدئة الأوضاع الداخلية، كان آخرها لقاء في 8 يناير الجاري، مع الهياكل الجهوية في أريانة، وبالتالي فإن مواصلة الدعوة للتظاهرات جزء من رسالة يبعث بها “الغنوشي” لقواعده، بأن الأزمة لا تتعلق بممارسات النهضة، ولكن بالانقلاب الذي نفذه الرئيس التونسي، وفقاً لسردية النهضة. وبالتالي، ليس أمامهم سوى مواصلة العمل لمواجهة ما يعتبره انقلاباً. من جانب آخر، فإن الدعوة للتظاهرات يمكن أن تكون لها انعكاسات داخل النهضة، إذ إنها لم تؤثر في المشهد السياسي رغم الاقتراب من مرور نحو ستة أشهر على إجراءات “سعيد”.
استقطاب سياسي
4- محاولة استقطاب القوى السياسية والوطنية: يمكن أن تكون التظاهرات المرتقبة بالنسبة لحركة النهضة، نقطة التقاء مع القوة الوطنية والسياسية في تونس؛ إذ تسعى الحركة إلى تصدير أن الأزمة السياسية تتعلق بسياسات “سعيد”. وهنا، فإن “الغنوشي” دعا القوى السياسية والاجتماعية والوطنية إلى المشاركة في التظاهرات، عبر إثارة بعض القضايا النخبوية التي يمكن أن تشكل قلقاً لدى الأطراف السياسية الأخرى، إذ تطرق بيان الحركة للدعوة للتظاهرات، إلى استنكار حملات تشويه السلطة القضائية ومحاولات تطويعها، إضافة إلى الدعوة لمقاطعة الاستشارة الإلكترونية واعتبارها ضرباً لآليات العمل الديمقراطي، خاصة وأن الاتحاد العام للشغل، أبدى تحفظه على “الاستشارة الإلكترونية”، واعتبرها ليست بديلاً عن الحوار الوطني.
ضغوط دولية
5- إثارة المجتمع الدولي ضد “قيس سعيد”: لم تتوقف محاولات حركة النهضة عن الترويج لسرديتها بأن ما حدث في تونس انقلاب، وبالتالي فإن أي إجراءات تتخذ عقب تعليق عمل البرلمان غير دستورية أو قانونية. وبالنظر إلى الدعوة للتظاهرات في 14 يناير، فإن ثمة رسالة هنا للمجتمع الدولي تدفع بها الحركة، مفادها أن استمرار إجراءات “قيس سعيد” يؤدي إلى مناخ عدم الاستقرار في تونس، وبالتبعية حدوث تظاهرات واحتجاجات مستمرة قد تتحول إلى انفلات تام، بالشكل الذي قد يدفع أطرافاً دولية للضغط على “سعيد”، مع توظيف الحركة موقف بعض المنظمات الحقوقية الدولية من قضية وضع “البحيري” قيد الإقامة الجبرية في سرديتها، خاصة وأن مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان علّقت على القضية، وطالبت بتوجيه اتهامات للبحيري أو الإفراج عنه.